كانت ظاهرة طمس التاريخ سياسيّة قديمة، ولعلّ القلائل لفتوا الأنظار إليها. ذَكرها ابن بحر الجاحظ (ت: 255هج)، وهو يتحدث عن الكتب، وأهميتها في تخليد الأخبار: "والكتب بذلك أولى مِن بنيان الحجارة وحِيطان المدرِ(المدن)، لأنَّ مِن شأن الملوك أنْ يطمسوا على آثار مِن قبلهم، وأنْ يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السَّبب أكثر المدن، وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام" (كتاب الحيوان).
نقف في التَّاريخ السّياسيّ المعاصر، على ممارسةٍ مِن بنات ما ذكره الجاحظ، طُمست صفحة أساسيّة مِن سيرة الشّخصيّة الشّهيرة، في التّاريخ اللِّيبي والعالمي المعاصر، عمر المختار(أعدم: 1931)، وليس المقصود المختار ذاته، إنما كان القصد طمس أي أثرٍ للأسرة والحركة السّنوسيّة، التي يعود الفضل إليها بظهور ليبيا المعاصرة، حصل هذا بعد انقلاب (1/9/1969)، فجُرف تاريخها، بمعاول المنقلبين.
قصة ذلك: ألفَ أربعة باحثين طليان كتاباً عنوانه: "عُمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ لليبيا"(إيطاليا 1981)، وكان نص الكتاب الأصل قد بنى تاريخ المختار الجهاديّ على علاقته بالسُّنوسيّة، فهو أحد أعضائها البارزين، بدأ حياته شيخ زاوية فيها. بعدها صدر مترجماً إلى العربيَّة (1988) و(2005) عن "مركز جهاد للدراسات التّاريخيّة في الجماهيريَّة العربيَّة اللّيبيَّة الشّعبيَّة العظمى)، لكن بعد طمس كلّ قولٍ وفعلٍ للحركة السُّنوسيّة، فجاء النّص العربيّ خالياً تماماً مِن أي صِلة للمختار بها. نفهم مِن ذلك أنَّ (الجماهيريّة العُظمى) عاشت مرعوبة مِن اسم لم يبق منه سوى لفظه، وكيانٍ لم يبق منه غير الذِكرى.
ظهرت حركة "الإخوان السَّنُوسيَّة"، طريقةً صوفيةَ بمكة(1837) على يد محمد بن علي السَّنُوسي(1778-1859)، ثم تشكلت بليبيا(1843). عُرفت رسمياً بـ "الإخوان السَّنُوسيون"، وحدت القبائل الصَّحراويّة، بنشر الزّوايا. وقفت ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، إلى ظهور أول وآخر ملك ليبي مِنها(الصَّلابي، تاريخ الحركة السَّنُوسيَّة في أفريقيا). بمعنى لم تكن طارئة على ليبيا، فهي حركة وطريقة صوفية ومملكة، كي يُعمد إلى تَجْريف تاريخها بهذه السُّهولة.
لهذا تصدى الرِّوائي اللِّيبيّ محمّد عبد المطلب الهونيّ، وأعاد ترجمة الكتاب إلى العربيّة، ليُقدم النص الإيطالي إلى أصله. كتب يقول: "عندما اطّلعت على الكتاب (النص الإيطاليّ) وجدت أنّه ترجمةٌ ناقصةٌ، قد تمّ حذف كلّ ذِكر للحركة السّنوسيّة وزعمائها، ولم يكن ذلك حسب ظنّي قصوراً من المترجم، أو غفلة من كاتب المقدّمة، الّذي تحامل على السّنوسيّة والملك إدريس، وإنّما كان السّبب أنّ النّظام القائم، الّذي موّل التَّرجمة ونشر الكتاب، أراد طمس الحركة السّنوسيّة وزعمائها، باعتبارها حركة أنتجت دولة الاستقلال، التي أقام الّنظام شرعيّته على إسقاطها وتخوينها"(عمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ بليبيا/ طبعة دار الجمل 2023).
اعتبر أحد مؤلفي الكتاب الأربعة المختار مِن الأشخاص الأكثر أهميّة في السّنوسيّة، فطمس تاريخ الحركة التي كان ينتمي إليها، يعني طمس تاريخه، ليظهر أنه حالة فرديّة لا أكثر، وبهذا لم تعد السُّنوسيَّة، ولا الملك إدريس السّنوسيّ(حكم: 1951-1969)، والمتوفى (1983) بالمنفى، لهما وجود في التّاريخ الليبيّ.
إنَّ ممارسة الطّمس أو التّجْريف للتاريخ، في ظل الانقلابات والثّورات، غير مقتصرة، في عصرنا هذا، على ليبيا، فإذا عدنا إلى التّاريخ، وما نوه عنه الجاحظ نجدها مورست بطمس القبور والشّواهد، والعبث بالهياكل العظمية، ويصبح ذِكر اسم المنقَلب عليهم محرماً، يُعرض صاحبه إلى الاجتثاث، المفردة الجديدة بين المصطلحات السّياسيَّة، التي ظهرت ذات أنياب بعراق(2003).
هذا، ولو كان الفاتح مِن سبتمبر/ أيلول انقلاباً على عمر المختار نفسه، ما وجد الليبيون لبطلهم اسماً، ولا تذكاراً، ولا ضريحاً، لهذا غدت المَتاحفُ، ومراكز البحوث شحيحة الآثار، لعبث المتأخرين بميراث المتقدمين، بسبب دورات الانتقام المتعاقبة.