بعد عودة الجنود الأمريكيين من حرب فيتنام ( 1945- 1946) ظهرت اعراض لصدمات نفسية (درامية) بعد عشرات السنين من زمن وقوع الحرب! اطلق عليها الدليل الأمريكي لتشخيص الأمراض النفسية مصطلح (ضطراب ضغوط ما بعد الصدمة )..وحصل ايضا للجنود الأميركان العائدين من حرب الخليج (عاصفة ))،وهناك من يؤكد ان بينهم من يعاني الآن ! من هذا الأضطراب!.
ومع ان هذا الأضطراب الذي اكدته دراسات علمية موثقة، أصاب كبارا وجنودا خبروا الحروب ،فاننا نرى بوصفنا سيكولوجيين، أن اكثر المتضررين نفسيا وعقليا وسلوكيا من الحروب..هم الأطفال الذين يشكلون 50% من شريحة المدنيين المتضررين من الحروب في العالم. وننبه هنا الى ان اخطر ما ستحدثه حرب الأبادة الجماعية التي تشنها اسرائيل هو تاثيرها المدمر على الصحة العقلية للأطفال بعمر سنتين الى 18 عاما ،وتحديدا..اصابتهم بـ(اضطراب ضغوط ما بعد الصدمة) الذي يبقى يلازمهم طوال حياتهم ولو بلغوا التسعين. فهم سيرون في يقضتهم وكوابيس احلامهم..مقتل والديهم ومحبيهم وهم مضرجون بالدماء ، و يرون يدا هنا ورأسا هناك كما لو كانت موثقة بفلم سينمائي. ويستعيد آخرون كيف اجبروا على الهروب والنزوح والتشريد فرارا من رصاص قاتل او صاروخ يدفنهم تحت الأنقاض.
و لا تقتصر تبعات الحرب الأليمة على الأطفال في آثارها النفسية والعقلية فحسب، بل تشمل مجموعة واسعة ومتعددة الأوجه من التبعات التي تضر بالعلاقات الأسرية ،وعلاقات الطفل بأصدقائه ودائرة الشخصيات التي يتأثر بها، و أداءه المدرسي وتطور ونضج شخصيته، و نظرته السوداوية للحياة.
ففي بحث نشرته مجلة World Psychiatry للصحة النفسية عام 2018، اتضح أن هناك دليلاً كبيراً على وجود علاقة بين نسبة التعرض للحرب وتبعاتها، وكمية الضغوطات التي يعاني منها الأطفال وتعيقهم في مجالات التكيُّف المختلفة على مدار حياتهم بما في ذلك قابلية صحتهم العقلية والجسدية ، وقدراتهم الشخصية، سواء على التحصيل الأكاديمي أو في بناء العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها. بمعنى ان الطفل الولد والطفلة البنت اذا بلغا الثلاثين من العمر ، فأنهما سيواجهان صعوبات في تأمين حياة زواجية مستقرة ،واداء وظيفي يرضي مؤسسته التي يعمل فيها ،وحياة اجتماعية قائمة على المحبة والتعاون
وتشير منظمة الأمم المتحدة للطفولة UNICEF إلى أن التعرض للعنف المنظّم والأمراض النفسية والعقلية المترتبة عليه يعمل بمثابة محفز للعنف المنزلي وسوء معاملة الأطفال. إذ قد تساهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل التهيج والاندفاع والغضب، في ارتفاع مستويات إساءة معاملة الأطفال وضربهم.
وتسهم كل هذه الصعوبات في جعل الأطفال المصابين بصدمات الحروب أكثر صعوبة في التعامل مع والديهم وفي عملية التربية، وذلك في الوقت الذي يقوم فيه الآباء أنفسهم بتطبيق استراتيجيات أبوية أكثر عنفاً وإكراهاً بسبب تجربتهم المؤلمة في خوض الحرب. تؤكد ذلك دراسة حديثة وجدت أن أطفال أسر الناجين من الحروب في سريلانكا تعرضوا أكثر من غيرهم لصدمات جماعية وأمراض عقلية تتسبب بدورها في ممارسة الأسرة مزيداً من العنف وسوء المعاملة بحقهم، حتى بعد منح الآباء الاستشارة والخدمة النفسية اللازمة لعلاج صدمات الحرب لديهم. فكيف سيكون الحال لدى مئات آلاف الأطفال في غزة الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون الى ابادة جماعية في حرب همجية انتقامية لم يشهد مثلها التاريخ المعاصر!
اننا ندعو،من خلال جريدة المدى العراقية، مؤسسة العلوم التربوية والنفسية العربية التي تضم معظم علماء النفس والأطباء النفسيين العرب ، والمنظمات والجمعيات النفسية العربية الى التعاون فيما بينها في الوصول الى اعتماد استراتيجية تشمل المؤسسات التخصصية ذات العلاقة ،بصيغة تحتضن اطفال غزة نفسيا وانسانيا بما يؤمن ان لا يكون أحبتنا اطفال غزة في المستقبل..ضحايا ابديون.