قيل الكثير وكُتِبَ أكثر ممّا قيل عن الجوائز العربية في الميادين الابداعية. تلك حقيقة مُتوقّعة ومفهومة في مقدّماتها وأسبابها. الابداع خصيصة عصية على التوصيف والتخصيص في نطاقات تشخيصية ضيّقة؛ وبالتالي فهي عُرْضةٌ للتكييف الشخصي بحسب المطلوب.
يكفي أن يقول لك فلان: فلان أعظم كاتب في العالم. هذا رأيه المصبوغ بذائقته الشخصية التي ليس لنا مناقشتها أو تفكيكها بأدوات التحليل المنطقي الصارمة. يستوي الامر في محبّة كاتبٍ دون سواه مع تفضيل ماركة شاي أو ملابس أو حذاء دون سواها - على سبيل المثال -. كتبتُ غير مرّة أنّ جوائز نوبل غير الادبية ليست عُرْضة لهجوم خفيف أو ثقيل، وتكاد أن تكون معروفة ومُتّفقاً عليها حتى قبل إعلانها؛ غير أنّ جوائز نوبل الادبية لاتخضعُ لهذا الميزان في القياس والاستنتاج. التسويغ جاهز وليس لك محاججته لأنّك ستخسر دوماً. الامر منوط في النهاية بذائقة أعضاء اللجنة النوبلية.
دعونا من كلّ هذه المواضعات المفهومة. أريد في هذه المقالة التخصيص والتشخيص. الامر المخصوص هو الجوائز الابداعية العربية، والتشخيص المطلوب هو سلوك بعض الفائزين الذين يُعاد تدويرهم من جائزة لأخرى كلّ بضع سنوات. أكتبُ هذا وأنا لستُ من المهتمّين بحصد الجوائز مع تأكيدي المسبّق بأنّ العمل على نيل جائزة نظيرَ عملٍ مستحقٍ هو جهدٌ له مشروعيته الكاملة.
سأتركُ أمر لجان منح الجوائز جانباً مع معرفتنا بالكثير من شؤونها وشجونها وغلبة العلاقات الشخصية بين أعضائها وميلهم لإختيار الاسماء المكرّسة الجاهزة من غير (وجع دماغ) أو تعكير مزاج بالقراءات الواسعة والدقيقة. ربما كانت هذه اللجان تعتمد أمثولة أنّ (من تعرفه خيرٌ ممّن تجهله)؛ وبالتالي سيكون خياراً مقبولاً وميسّراً إختيارُ الاسماء التي رفعتها البروباغاندا إلى مصاف الأعلام مع العلم أنّ بينها قد تكون أسماء مستحقّة لأرفع الجوائز.
الاستحقاق هو جوهر الامر الذي أريد التدقيق فيه والخوض في مخاضته المعقّدة. نعرفُ أنّ الجوائز هي أداةٌ من أدوات السياسات الثقافية الناعمة التي تعتمدها الدول لتكريس سطوتها الداعمة لأذرعها السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ ومن ثمّ لن يهتمّ راسمو هذه السياسات الناعمة إن فاز زيدٌ أو عمرٌ. لكنّ ماأريدُ التأكيد عليه هو التالي: لماذا يرتضي فلان من المشتغلين في الحقل الادبي بالتحديد إعادة تدوير إسمه والفوز بجائزة كلّ بضع سنوات؟
نعرف الجواب المسبّق: الجائزة بعضُ موجبات الإستحقاق. نعم هذا صحيح. قد يكون الروائي (س) أو الروائية (ص) مستحقّيْن لكلّ جوائز العالم؛ لكنْ هل ينبغي دوماً أن نتصرّف بموجب الاستحقاق؟ هل عسيرٌ علينا أن نضيف بعض الايثارية في سلوكنا فندعو - مثلاً – إلى مدوّنة سلوكية نقترحُ فيها أنّ مَنْ يحصلُ على جائزة عربية (دسمة) قيمتها عشرات ألوف الدولارات لايحقّ له الحصول على جائزة دسمة اخرى؟ سيرى البعض في هذه المدوّنة سلوكاً ينطوي على قدر من الطهرانية الغريبة على واقعنا وسلوكنا اليومي. لابأس. قلّلوا مناسيب إيثاريتكم واجعلوها كلّ عشر سنوات؟ هل بات أمراً شاقاً أن تنتظر عشر سنوات أوخمساً لكي تفوز بجائزة؟ لو كان الجواب بالايجاب سأقول لك من غير خجل: أنت تكتب من أجل الجائزة إذن!! وقانونك الموجّه لعملك: كلّ كتاب بجائزة.
الامر أبعدُ من محض الدعوة الايثارية. هناك مسوّغات عملية دافعة لهذه الدعوة.
أولاً: نعرفُ أنّ العديد من الحاصلين على جوائز نوبل خفتت نار الابداع في دواخلهم عقب فوزهم بالجائزة وكأنّ الجائزة النوبلية خدّرت قواهم. لاأظنُّ أنّ المال هو السبب لأنّهم في العادة كانوا من ذوي المبيعات الكبرى التي تدرُّ عليهم أموالاً كثيرة. أخمّنُ أنّ لحظة البراءة الاولى غادرتهم بعد أن عرفوا كواليس العلاقات في الممرات الجانبية لدور النشر وصاروا يعيرون إهتماماً لأمور أخرى أكثر بكثير مما يفعلونه مع الفعالية الابداعية. صار إبداعهم أقرب إلى لعبة سوق وفروض دور نشر، وغادروا منطقة الاصغاء للدافع الحقيقي للكتابة. الامر معنا – العرب – مختلف تماماً. رائحة المال تدفعُ نحو المزيد منه بمسعى محموم يصير فيه الهم الابداعي مَنْشطاً ثانوياً مركوناً في الزوايا المنسية. أنا أقرأ وأرى وأقارنُ بين أعمال سابقة لنيل جائزة ولاحقة لها، وأستطيع تخمين بعض ماحصل في طبيعة الكتابة لدى بعض من حصلوا على جوائز ضخمة.
ثانياً: جوائزنا العربية سمينة مغرية، وهذه علّتها التي يراها البعض دليلاً على فرادتها وتميّزها ودعمها للمبدعين العرب. لماذا؟ لأنّ هذا البعض يريد الاستئثار بالصيد لوحده من غير مزاحمة من آخرين، ولسانُ حاله يقول: الخير كثير والمال وفير؛ فلماذا لايكون لي شيء منه؟ ولماذا لايكون كله لي؟ لو أنّ جائزة سمينة تجزّأت لثلاث جوائز ينتفع منها ثلاثة من المبدعين العرب بدل أن يستأثر بها واحد: أليس هذا أقرب لمعايير العدالة والاستحقاق؟ ثمّ أن الجائزة الممتلئة مالياً تغري (لوجستياً) بإمكانيات الفساد أكثر من جائزة محتشمة!! ولن أفصّل أكثر في هذا الشأن.
ثالثاً: فلسفة الجوائز الابداعية العربية تعتمدُ مبدأ دعم المبدعين العرب الذين لاتتسنّى لهم مداخيل مقبولة من مبيعات أعمالهم بحكم واقع حال ثقافتنا السائدة واعتبارات سوق النشر العربية والاحوال الاقتصادية المتقشفة في العديد من البلدان العربية. كيف ستدعمُ هؤلاء المبدعين إذا كانت الجائزة تتوجّه لكاتب محدّد كلّ بضع سنوات؟ هل نريدُ تكريس نمط مستحدث من الاقطاعيات الادبية التي يقومُ عليها إقطاعيون روائيون أو نقّاد أدبيون أو شعراء....؟
تابعتُ مرّة روائياً عربياً في لقاء تلفازي معه. هذا الروائي حصل على كلّ الجوائز الكبرى، وعندما سألته مقدّمة البرنامج: هل تطمح لجائزة جديدة؟ أجابها: ولِمَ لا؟ كانت عيناه وهو يجيب تبرقان ببريق أعرف أسبابه. أجاب بمنطق مَن لايمتلك ثمن وجبة فطور صباحي في بيته، وأنّ الجائزة هي التي ستنقذه من جوع مميت!!. هؤلاء يتصرّفون بمنطق الرأسمالية المتغوّلة: كلّ شيء لي ولاشيء للآخرين. هذا هو قانوهم الأعلى الذي يحكم سلوكهم. سيجيبك بعضهم: وماذا في ذلك؟ المثل السائد يقول (زيادة الخير نعمة لاأحد يرفسها)، ويبدو هذا البعض تلاميذ خُلّصاً لهذا المثل.
ندينُ الرأسمالية المتوحّشة بأشدّ عبارات الاستهجان؛ لكنني موقنة أننا سنفعلُ أكثر بكثير ممّا يفعله عتاة الرأسماليين لو أتيحت لنا الموارد المالية التي أتيحت لهم. الاخلاقيات تُمتَحَنُ في الميدان وليس بتكرار الأمثولات الرفيعة التي لانتعب منها عندما لانكون مضطرين لوضعها موضع الامتحان الصعب.
المبدع الحقيقي (ولن أقول الانسان الحقيقي حتّى لاأتّهَمَ بالمثالية المفرطة) متى ماآمن على لقمة يومه ووجد سقفاً يأويه وأناساً يحبهم ويحبونه ويكتب لهم ومن أجلهم فحينئذ لن يعطّله شيء عن الكتابة، ولن تكون الجائزة مطمعه الذي يلهث وراءه؛ أما من يكتبُ وعينُهُ على جائزة سمينة فلاتنتظرْ منه مايمكن أن يرتقي برؤيتك وذائقتك وأفكارك.
أذكرُ أنّ شاعراً شعبياً عراقياً راحلاً قال مرّة: الشعر الذي لايطعِمُني عسلاً لاأريده وليس لي معه شأن من قريب أو بعيد. قد يكون شِعْرُهُ رفيعاً بحسب رؤية الشعراء الشعبيين؛ لكنه سيبقى شعراً يسيلُ العسل من كلماته، وهو ليس عسلاً مجانياً بالتأكيد. إنه عسلٌ متّفقٌ على تسعيرته المسبّقة أو المتوقّعة، وقد علّمتني خبرتي أن لاأثق بكتابة يسيلُ عسلٌ بهذه المواصفات من كلماتها.