الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير في الجامعات العراقية..

لفت انتباهي تكرار اسماء اكاديميين في مناقشة الرسائل العلمية لدرجة أن احدهم تكرر اسمه في اربع لجان مناقشة خلال شهر واحد.

ولأن من عادتي استطلاع الأراء في مثل هكذا ظواهر،فأنني توجهت بالآتي:

تساؤل أكاديمي

لماذا تشكّل لجان مناقشة اطاريح دكتوراه ورسائل ماجستير

من اسماء مكررة وكأنها مقاولات!..؟

الأقسام النفسية والتربوية بجامعتي بغداد والمستنصرية مثالا.

بلغ عدد الذين شاركوا في الأجابة (107) اكاديميا ومهتما بالموضوع، اليكم نماذج من اجاباتهم:

ــ د.ازاد علي اسماعيل: هذا حال أغلب الأقسام، استاذي العزيز..لم تعد للاعتبارات العلمية المعيار الأساسي للاختيار،مع الأسف.

ــ د.عبد العظيم السلطاني: هذه ظاهرة واسعة الانتشار الآن، والأمر ليس مقتصرا على ماذكرت من مثال!.

ــ د.حمزة عبد الأمير: للاسف ظاهرة منتشرة ومطلوب من الوزارة وضع معايير جديدة لاختيار أعضاء اللجان.

ــ د.عقيل مهدي يوسف: هو وضع كارثي.. يفتح الابواب. امام.. مضاعفات غير منهجية.. لمناقشين يجهل بعضهم.. الأصول العلمية.. وربما تضر ملاحظاته.. بالرسالة.. والاطروحة... اكثر مما تنفعها.. وانت ادرى من سواك بهذا الاختلال لتجربتك وتكليفك في عديد لجان المناقشات.

ــ المرواتي عمار أحمد: مظهر اخر من مظاهر الفساد الأخلاقي أيضا عند شريحة كان المفروض ان تكون الأرقى.

ــ د. كاظم نعمة: هذه ظاهرة ليست وليدة هذه الفترة بل بدأت في الثمانينات ولها اسباب منها أن الإشراف بدأ يضعف فما كان سوى أن يقع تفاهم ضمني على التسامح في التقييم. وإن الإشراف لم يعد بتخصص دقيق يواءم موضوع الأطروحة. لم يحصل أن رفضت اطاريح ليصبح سياقا مقبولا. وإن تنوع خبرات التدريسيين تقلصت.وان بعض التدريسيين ينعتون بالتشدد فيتخطاهم المشرف. اتابع اطاريح في اختصاصي فاندهش من تنوعها ودقتها حنى كدت اسال هل في جامعاتنا بيئة علمية ترقى الى بحث وتقييم مثل هذه الاشكالية. لعل من النافع ان تكون لجنة تحدد المناقشات، وليس المشرف، وان يكون نظام الحصص وشرط الاختصاص الدقيق.

ــ د. صالح مهدي: دكتور انت سيد العارفين لايريدون من يناقش بشكل جدي الاطاريح والرسائل ضعيفه جدا والمشرف ليس من ذوي الاختصاص فالقسم يريد يحافظ على عدم طهور السلبيات وليست جامعة بغداد والمستنصريه فقط بل اغلب الجامعات اذا مو كلهم.. تحياتي مثل حضرتك لايسأل بل ذكاؤك وخبرتك اعرف.

ــ د.علي الحلو: ملاحظة صحيحة 100‎%‎ وليس في هذه الجامعتين فقط وانما يمكن ان تشمل جميع الجامعات في البلد، والادهى والامر ان بعض رؤساء الاقسام يفرض شرطًا على الاستاذ المناقش بأن يعطي درجة عالية(الامتياز) والا لا يتم استضافته للمناقشة، وهذه صارت معي شخصياً.

ــ احمد صاحب مبارك: ضعف الطالب والمشرف يستدعي لجنة بنفس هذه الصفة لذلك هم يستدعون من يقضي المناقشة بتشخيص الاخطاء "الطباعية" والانغماس بتصحيح رقم الصفحة لاقتباس ما من مصدر معين. أما الجانب العلمي ومنهجية البحث فلا يتطرق إليها أحد!الحمد لله الذي جعل نصيبي من كل جامعة زيارة واحدة لأنهم لا يجدوني كما يرغبون!

ــ عبد الكريم الكشفي: احسنت استاذنا الغالي الطبيب الكبير، اصبت كبد الحقيقة. والله كارثة كبيرة ضحيتها اصحاب الكفاءة والمهنة والمبدعين مع الاسف. اتفاق بين الكليات وفق مبدأ جيبني واجيبك على حساب العلم والمهنية.

ــ سها الربيعي:كل الجامعات مو بس بغداد والمستنصرية.. حتى يضمنون الامتياز والجيد جدا الى طلابهم يفضلون مناقشين تربطهم علاقة صداقة ويستمر التبادل... وللاسف الخاسر هو الطالب المشتغل وتعبان يتساوى مع الطالب الي كلشي ممشتغل برسالتة. الاثنين امتياز... اي عدالة ماكو.للعلم ثلاثة مناقشين من القسم والخارجي واحد فقط هنا تكمن الكارثة.

ــ احمد عبد الله:أستاذنا وقدوتنا دكتور قاسم حضرتك تعرف حالياً علاقات ترشيح الأسماء ممكن علاقة المشرف مع رئيس القسم بالنتيجة لجنة سهلة وممكن علاقات رؤساء الاقسام مع بعض لكن للأمانة هناك مناقشات ورؤساء أقسام وأساتذة علميين جدآ ومناقشات راقية وعلمية وأنا لمست ذلك حقيقة شخصيا.

ــ د. علي: هكذا استحالت الأمور، (عبرني وأعبرك) أين تلك المجالس العلمية، التي يتسيدها كبار الأساتذة بمناقشاتهم العلمية التي لاتجامل ولا تتحامل، توجه، وتعيد، وتؤجل؛ حتى يستقيم البحث على الجادة العلمية. للأسف مجاملات، وموائد.. و...

استنتاج

يتفق الأكاديميون الذين استطلعت آراؤهم على الآتي:

. ظاهرة كارثية واسعة الانتشار الآن.

.لم تعد للاعتبارات العلمية المعيار الأساسي للاختيار.

.مظهر اخر من مظاهر الفساد الأخلاقي عند شريحة كان المفروض ان تكون الأرقى.

.لايريدون من يناقش بشكل جدي.

. الاطاريح والرسائل ضعيفه جدا والمشرف ليس من ذوي الاختصاص والقسم يريد يحافظ على عدم ظهور السلبيات.

.يفضلون مناقشين تربطهم علاقة صداقة بطريقة تبادلية.

. مجاملات، وموائد، حطني و احطك، غطيلي واغطيلك، المهم النتيجة امتياز.

تــحليــل

أمضيت في التعليم العالي (48) سنة وكنت في التسعينيات عضو لجنة رأي بوزارة التعليم العالي، ومحاضر بمركز طرائق التدريس لأكثر من عشرين سنة، وعضو في لجنة تقويم أداء الجامعات العراقية،ومشارك في مناقشة مئات اطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير،ودرّست في ست جامعات عراقية وأربع عربية..ما يعني أنني امتلك خبرة تخولني ان (أفتي) في هذه الظاهرة.

يعود تاريخ التعليم العالي في العراق الى عام 1927 الذي تم فيه تأسيس كلية الطب التي اعتمدت نظام ومناهج الكلية الطبية الملكية البريطانية، وقبل في سنتها عشرون طالبا (7مسلمون، 8 يهود، و5 مسيحيون). ومع ان عام 1924 شهد تأسيس اول جامعة عراقية باسم جامعة آل البيت، لكنها تعرضت الى انتقادات شديدة من الصحافة والبرلمان وتناقص في عدد الطلبة المتقدمين وانتهى امرها في العام 1930. ولهذا يعد العام 1957 الذي تأسست فيه جامعة بغداد هو تاريخ تأسيس الجامعات في العراق. ويذكر ان اول رئيس لها هو الدكتور متي عقرواي (مسيحي)، وان ثاني رئيس لها هو الدكتور عبد الجبار عبد الله (صابئي)، الذي احتج رجال الدين على عبد الكريم قاسم قائلين له: كيف تعين صابئيا رئيسا لجامعة بغداد، فاجابهم جوابا طريفا قائلا: انا عينته رئيس جامعة وليس رئيس جامع..والكثير يعرف ان عبد الجبار عبد الله كان أحد طلبة آينشتاين.

كان التعليم العراقي في العراق لغاية عقد السبعينات في القرن الماضي..يتصدر الدول العربية من حيث الجودة والمعايير العلمية. وكان تشكيل لجان المناقشات العلمية يتم وفقا لكفاءة المناقش واختصاصه،وكان عدد الذين يحصلون على تقدير (أمتياز) قلّة..وكان من يحصل على تقدير (جيد جدا) يتباهى امام اهله وزملائه،بعكس ما يحصل الآن (مع الأسف موامتياز). وتعود بدايات تراجعه الى عام 1980 سنة اشتعال الحرب بين العراق وايران..ففي سنواتها الثمان هاجر الآف الأساتذة، فيما خضع الباقون للخدمة العسكرية ضمن ما يسمى (الجيش الشعبي). تبعها انتكاستان في تسعينيات القرن الماضي: حرب العراق على الكويت، وفرض الحصار على العراق الذي اضطر عدد من الأساتذة الى بيع مكتباتهم بأثمان زهيدة.

وجاءت الأنتكاسة الكبرى بعد 2003 حيث شهدت هجرة الكفاءات العراقية والعلماء والأكاديميين بأعداد كبيرة، نتيجة عمليات القتل والخطف والتهديد التي كانت تستهدفهم بعملية وصفت بالممنهجة.

القيم..سبب تحول المناقشات الى مقاولات

في كتابه الذائع الصيت " To Have or to Be " شخّص عالم النفس والناقد الاجتماعي الكبير " ايرك فروم " وضع الإنسان بأنه تحول إلى سلعة تحكمه قوانين العرض والطلب والبيع والشراء، وطرح مفهوم (الشخصية التسويقية) ووصفها بأنها تقوم على ممارسة الشخص لذاته بوصفه سلعة، ولقيمته " قيمة تبادلية " وليس " انتفاعية ".

والذي حصل في العراق ان معظم من يفترض فيهم أنهم القدوة والنخبة " بعمامة أو بدونها " تهرأت فيهم القيم وصار معظمهم منافقين، فشاع النفاق،السياسي والأجتماعي والأخلاقي بين الناس..والعلمي في الجامعات، واصبح الأنسان سلعة وقيمة تبادلية بوصف اريك فروم.

وما حصل بعد 2006 تحديدا، أن الأكاديميين في الجامعات العراقية تحولوا الى اربعة أصناف: صنف وجد ان الوضع في العراق صار طاردا لمن يبقى ملتزما بقيمه الأكاديمي..فهاجر، وصنف حاول التوفيق بين قيمه الاصيلة و(قيم) اشاعتها سلطات فاسدة،وصنف انتمى لأحزاب السلطة وزرق قيمه الأكاديمية أبرة تخدير وصار سلعة بيد سيده السياسي الذي لا تعنيه القيم الاكاديمية، وصنف ينطبق عليه المثل الشعبي (الياخذ أمي يصير عمي..والأم هنا السلطة)..معتبرا المناقشات العلمية صفقات ومقاولات بالحال الذي اجاد وصفه الأكاديميون الذين استطلعت اراؤهم، وصنف يجاهد على الألتزام بقيمه العلمية الأصيلة..وهم القلّة.

ويبقى التساؤل:

هل يمكن اصلاح التعليم العالي في العراق؟

والجواب..لا يمكن، منطلقين من حقيقية علمية..ان القيم هي التي تحدد سلوك الانسان واعتباره الأجتماعي والاخلاقي والعلمي،وان ما حصل للقيم الأصيلة في العراق بعد 2003 من تخدير و تهرؤ شاع بين بسطاء وانتقل بالعدوى الى المثقفين والأكاديميين لا يمكن ان تعود كما كانت..فضلا عن أن اصلاح التعليم العالي مرتبط باصلاح النظام التربوي والتعليمي ككل..اعني المؤسسات التعليمية التابعة لوزارتي التربية والتعليم العالي،وهذا غير ممكن الآن..فان (المقاولات) في تشكيل لجان مناقشة اطاريح الدكتوراه ورسائل الماجستير..ستبقى.. وسيبقى معها ضدها النوعي بوجود اكاديميين لن يساوموا على مبادئهم ولن يدخلوا في مقاولات حتى لو كانت باغراءات.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 15-11-2023     عدد القراء :  1479       عدد التعليقات : 0