العبارات التي تتقمّصُ روحَ العرفان لها وهجها البلاغي وسحرها النفسي والعقلي. أجدُني أحياناً أكتبُ عبارة تفيضُ بروح العرفان فأتوقّفُ هنيهة وأعاودُ قراءتها مرةّ واثنتين وثلاثاً، وربما حتى المائة مرّة. السحر العرفاني يُمسِكُ بك كما الطوق، وتروح تستعيدُ آثار قراءاتك القديمة منها والحديثة، وتتساءلُ: كيف قَفَزَتْ هذه العبارة على لسانك من غير ترتيب مسبّق؟
العرفان ترفّعٌ ومجاوزة للمرئي المحسوس، ومُجاورةٌ للكينونات اللامادية، وابتعادٌ عن المشخّصات محدّدة السمات والملامح. هو سياحة ميتافيزيقية في عالم الافكار، وهنا مكمنُ طاقته في شحذ العقل المستكين وتفعيل المخيلة الناضبة وتحريك القوة الدافعة للروح.
قبل بضعة أيام كنتُ أفكّرُ في فعل يخصّني ممّا يجوز وصفه بالاستحالة المادية العصية على التحقق (وماأكثر هذه الاستحالات!!)؛ لكنّ هاجساً متلبّساً بلبوس العرفان (ولي فيه قدرٌ من تجربة معتبرة) ظلّ يلحُّ عليّ أنّ الاستحالة وإن كانت متحققة لكن يمكن في أقلّ الاحوال نفيها أو كبحها عن طريق النيّة الصادقة: النيّة القلبية المخلصة التوّاقة لتمام الفعل. وجدتني أخاطبُ نفسي: تُغنيني النيّة عن تمام الفعل. واضحٌ هنا من الدلالة السياقية للعبارة أنّ تمام الفعل يعني تحقّقه في العالم المرئي. بعد حين رأيتُ أنّ من الاسلم أن لاننساق إلى دوّامة الطوفان العرفاني الذي تؤجّجه نشوة الروح، وأنّ شيئاً من تخفيف الفعل ومزاوجته بأقلّ الممكن المتاح في عالم الماديات هو الطريق الأصوبُ بغية عدم الاشتطاط؛ فعدّلتُ العبارة لتكون: تكفيني النيّة عن تمام الفعل. الفرق المفاهيمي واضح هنا: الاستغناء غير الكفاية. الاستغناء فعلٌ متطرّفٌ لايقوى عليه كائن بشري محكوم بقوانين الارض؛ أما الكفاية فممكنة متاحة لمن درّب نفسه وأخذها بقدر معقول من الحزم. الحسّ العرفاني لابدّ منه، وبغيابه لن تقوى نفسٌ بشرية على المطاولة وسط دهاليز معتمة.
لن يرتاح مروّجو سياسات التنمية البشرية لهذا القول العرفاني. سيرونه ضرباً من النكوص عن الفعل بسبب نقص الإعدادات المطلوبة لإنجاز الفعل. سيقولون لك قولهم المكرور: الحلم بفعل من غير عمل جاد لإنجازه يبقى حلماً يحوم في فضاء الطوباويات. مهلاً أيها السادة. الفرق يكمنُ في طبيعة الفعل. إذا كان الفعل يرتبطُ بمسعى جمعي موصوف الملامح (الحصول على شهادة عليا، تأليف كتاب، السفر إلى مناطق نائية وغريبة في العالم،،،،) فهنا تصحُّ قوانين جماعة التنمية البشرية لأنّ هذه المساعي حققها أحد غيرك، وبالمثل يمكن لك تحقيقها لأنّها لاتقعُ في توصيف المستحيلات؛ لكنّ الامر سيختلف بالتأكيد عندما يكون الفعل المطلوب مقترناً بإستحالة فردية أو جمعية. يمكنُ نفي الاستحالة عن طريق مبدأ الفعل الاقلّ وهو النيّة الخالصة المُخلِصة التي تتطلّعُ لإنجاز الفعل حتى وهي مدركة عجزها الحتمي عن إتمامه.
قد يبدو العرفان تحليقاً في السماوات السابعة؛ لكنّه في التحليل العميق أقربُ إلى الارض من اللافا البركانية. فكّرْ مثلاً فيمن تحب من البشر، الاقربين والابعدين، سترى أنّ ظروفاً بذاتها فرضت عليك أن تكتفي بنيّتك الطيّبة تجاههم وليس أكثر منها لأنّك لم تكن تملك أكثر من تلك النيّة الطيّبة، وماحيلةُ المحبّ إلا النيّة الصادقة.
الكلمة الطيبة التي تقولها في سرّك لها وقعٌ أكبر بكثير ممّا نظنُّ. هي فعلُ كفايةٍ كما تبدو من خارج الصورة؛ غير أنّ فعل الكفاية هذا قد يكون له مفاعيل أعظم من فعلٍ قد نفعله لو أتيحت لنا إمكانية الفعل.
يخطئ كلّ من يستهين بالنيّة الطيّبة ويضعها في غير موضعها أو يحسبها فعلاً منقوصاً غير مؤثّر في عالمٍ محكوم بقوانين صارمة. نحنُ لسنا إلّا كينونات تنقادُ لاشتراطات الوجود المحلّي Locality، ومعروفٌ أنّ القوانين المحلية تختلف عن القوانين الكونية.
هذا هو سرّ العرفان وجوهره: هو يتطلّعُ للقوانين الكونية ولايرتضي أن يكون مأسوراً بإشتراطات الوجود المحلي التي تخضع لها أجسادنا المحكومة بقانون الفناء.