أنا كاتبةُ مقالةٍ أسبوعية. منذ مايقاربُ الاربع عشرة سنة وأنا مواظبةٌ على كتابة مقالة أسبوعية في (المدى). كنتُ قبل تجربة (المدى) أكتبُ مقالاتٍ متفرّقاتٍ في صحف عراقية وعربية عدّة؛ لكنّ تجربة (المدى) هي وحدها التي إتَسمت بالاستمرارية والمواظبة،
وكلّ عملٍ يتّسمُ بهاتين السمَتَيْن ستترتّبُ عليه خبرات متراكمة ورؤية مستجدّة. أعترفُ أنّ الكتابة المقالية منحتني خبرات كثيرة على صعيد تقنيات الكتابة وألوانها، وعلى صعيد فلسفة نقل الخبرات البشرية إلى القرّاء، وعلى صعيد كيفية تحويل المشهديات اليومية الروتينية (أو التي تبدو روتينية غير مؤثرة) إلى أفكار مكتوبة يمكن أن تؤثّر في إعادة سلوك المرء ورؤيته في الحياة. ليست هذه هي المرّة الاولى التي أتناولُ فيها فلسفة الكتابة المقالية وبخاصة المقالة الاسبوعية منها؛ لكنّي في هذه المقالة سأتناولُ جانباً محدّداً من جوانب الكتابة المقالية.
قلتُ في مفتتح المقالة أنني كاتبة مقالة أسبوعية؛ ولأنني كذلك فسيكون في مقدّمة إهتماماتي هو قراءة أكبر عدد متاحٍ من المقالات الاسبوعية المنشورة في صحف عراقية وعربية وعالمية. لديّ بالطبع قائمةٌ من كُتّابٍ أثق في جودة كتاباتهم وأتابعها على نحو منتظم. لن أذكر أية أسماء منهم. لا أخشى الترويج لهم. كلّ كاتب جاد ومخلص في كتابته يستحقُّ الترويج له؛ لكنّي أفضّلُ أن يكتشف القارئ بنفسه من يراه مستحقاً من الكّتّاب والكاتبات للإشادة بثراء كتابته وجودتها.
كتابةُ مقالةٍ أسبوعيةٍ فعاليةٌ تختلف نوعياً عن كتابة رواية أو قصة قصيرة أو أيّ شكل إبداعي آخر. إلى جانب عنصر الالتزام commitment الذي تتطلّبه الكتابة المقالية ولاتشترطه الكتابة الروائية (أو يفرضه الروائي على نفسه بصورة طوعية من غير إلزامات الوقت) فإنّ المقالة تنطوي على عنصر تحليلي يتمازج مع العنصر الابداعي. كيفية ممازجة العنصر الابداعي مع العنصر التحليلي هو مايشكّلُ فرادة المقالة التي يكتبها الكاتب وبخاصة عندما يكون معروفاً بكتابته الابداعية. المقادير المناسبة من (الخلطات) الابداعية والتحليلية لن تتحقق دوماً، وربما هذا هو مايدفعُ كاتباً معروفاً إلى الضجر من الكتابة المقالية الاسبوعية المنتظمة. ماذا سيفعلُ حينها؟ ليس أمامه سوى واحدٍ من أمريْن: التوقّف عن الكتابة، أو القبول بكتابة سيّئة.
هل يرتضي كاتب مبدع كتابة سيّئة؟ الجواب: نعم. هو يعرفُ قبل غيره حقيقة مايكتب. كلّ واحد فينا يعرفُ حقيقة دواخله ومايضمرُ في طبقات روحه الخفية، والكاتب يعرفُ حقيقة مايكتب أكثر بكثير من القارئ. قد يناورُ أو يلجأ لألاعيب شتى؛ لكنّ صوتاً لايرتضي الانكفاء في داخله سيخبره الحقيقة الخالصة.
كتبتُ في مقالة سابقة أنّ إيلينا فيرانتي، مبتدعة الرباعية النابوليّة، جرّبَتْ كتابة مقالة أسبوعية في (الغارديان). لم تستطع المواصلة بأكثر من عام واحد إعتذرت بعده عن الكتابة.
ثمّة فرقٌ جوهري بين العقل الروائي (أو السردي بعامّة) والعقل التحليلي. هما مكمنُ الاشكالية الفلسفية والنفسية. أحرصُ – مثلاً – على قراءة معظم مقالات كاتب روائي عراقي ذي صيت جميل يستحقه. مقالاته ممتازة ومكتوبة ببصمة تلمح فيها الكثير من فعاليات التفكّر والجهد والتفكيك وتنضيج الفكرة الجوهرية. هو لايكتبُ وقائع منفرطة ثمّ يروح يعلّق عليها كأنه معلّق صحفي. يجيدُ تشبيك الوقائع المنفردة ورفعها إلى مصافٍ فكري يمكن أن نختزله بقانون عام. هذه هي الكتابة المقالية الثرية.
دعونا في إطار المقالة الاسبوعية. قرأتُ قبل بضعة أيام مقالة (لكاتب أو كاتبة. لافرق!!) تحكي عن إصابة إمرأة مشهورة بسرطان الثدي. لن أسرد تفاصيل هذه المقالة؛ لكنها كانت أقرب إلى إعادة سرد الارشادات الطبية الداعية لضرورة الفحص الدوري لكلّ فتاة (أو إمرأة) جاوزت الاربعين عاماً. أكملتُ المقالة وأنا أحدّث نفسي: هل ماقرأته مقالة حقيقية في صحيفة عربية مرموقة أم نشرة إرشادات طبية صادرة عن المركز الاعلامي لمؤسسة صحية؟
بعد إشكالية ثنائية العقل التحليلي / الابداعي ستواجهنا إشكالية الوقائع / الافكار.كلّ مقالة تبدأ في العادة بواقعة تمهيدية أو مشهد إفتتاحي هما بمثابة تشخيص مرئي لما يسعى الكاتب للكتابة عنه. تبدأ المقالة القياسية (أو المعيارية بلغة فلسفة الكتابة) في العادة بوقائع تشخيصية قد تنطوي على مضمون حكائي بغية شدّ القارئ، ثمّ يمضي الكاتب في تحويل الواقعة العيانية إلى قانون سلوكي أو فلسفي. نبدأ بالمُشخّصات (الوقائع) وننتهي بالمجرّدات (الافكار). هذا هو السياق الطبيعي للكتابة. مايحصلُ في أحيانٍ كثيرة هو تغليبُ عنصر التشخيص الوقائعي والاكتفاء به وكأنّ الكاتب مراسلٌ صحفي ينقلُ لنا وقائع عيانية شاخصة. لماذا يحصل هذا الامر؟ لأسباب كثيرة، أهمّها: الضجر، والتكاسل عن الفعالية العقلية الجادة، والاتّكاء على أمجاد غابرة في الكتابة وكأنّ تلك الامجاد ستتيح للكاتب أن يحوّل كلّ مايكتبه إلى ذهب مصفّى حتى لو كانت كتابته لاتعدو تعليقاً عن وقائع صحفية تعجّ بها الصحافة العربية والعالمية.
سيقولون لك: الصحافة لاتتحمّلُ الجدّة. هي تريد التخفّف والترشيق والاكتفاء بالوقائع المجرّدة من غير إثقال ذهن القارئ بتفاصيل وشروحات وتعليقات. هذه مغالطة صريحة. لنجرّبْ على سبيل المثال الذي يصلح للمقارنة أن نقرأ مايكتبه فريد زكريا أو توماس فريدمان من مقالات في الصحافة العالمية وسنعرف خطل هذه النظرة.
هل يمكنُ كتابة مقالة أسبوعية من مادة إبداعية خالصة؟ نعم، يمكن إذا ماكانت المادة الابداعية تنطوي على فكرة فلسفية مضمرة (كما في حكايات تولستوي أو تشيخوف القصيرة جداً). بطريقة معاكسة يمكن التساؤل: هل يمكن كتابة مقالة أسبوعية من مادة أفكار خالصة؟ يمكن بالطبع. ستكون حينها أقرب لأطروحة فلسفية أو مادة فكرية أكاديمية الطابع. هذا مايمكنُ لبعض كّتّاب المقالات التخصصية فعله؛ لكن يبقى القانون العام في المقالة الاسبوعية هو تشكيلها من (خلطة) متوازنة من وقائع وأفكار. لاضير من مراعاة القارئ العام؛ لكنّ من العبث وقلّة المروءة إفتراضَ أنّ القارئ العام لايرتضي سوى بالقراءة السطحية العابرة التي تعطّلُ حواسه وتعمل مثل ملهاة لروحه المضطربة في عصر مضطرب. الكتابة المخدّرة ليست الترياق الامثل للعقول القلقة والارواح المسكونة بأوجاع دفينة.
مرّ بي قبل بضعة أشهر إسمٌ لكاتب مقالة نصف شهرية في صحيفة عربية لندنية. لم أكن سمعت بهذا الكاتب من قبل. جذبني عنوان المقالة، وعندما شرعتُ بقراءتها أدركتُ منذ السطور الاولى أنّ الكاتب يكتب بجهد حقيقي وعقل مثقل بضروب الخبرات. أكملتُ قراءة المقالة، ثمّ مضيتُ لقراءة مقالاته السابقات واحدة بعد أخرى. كانت كلّ المقالات بالمستوى ذاته من الجودة والاتقان والخبرة. كانت كلّ واحدة منها تكشفُ عن خبرة جديدة. حدستُ أنّ منسوب (القيمة التحليلية) في المقالات أعلى من (القيمة الابداعية). لابأس. ربما لأنّ الكاتب كان طبيباً. هذه هي ذائقته. مايهمُّ في نهاية الامر أنّه كتب مواد ينتفع منها القارئ ويستزيد بها منسوب خبرات. لم يكن في أية مقالة يكتفي بكتابة مسطّحة تستعرضُ وقائع مجرّدة لايخرج منها القارئ بخبرة حقيقية.
خطأ كبير نقترفه بحقّ أنفسنا عندما نفترضُ أنّ الاسماء المكرّسة والمضخّمة إعلامياً هي التي تكتبُ أفضل أنماط الكتابة. الصحيح أن نقرأ ونتفحّص مانقرأ بعقل منفتح ومن غير إفتراضات بالجودة المسبّقة.
كلّ كاتب يتعكّزُ على ماضيه الجميل أو أمجاده الغابرة هو مقامرٌ بتاريخه، وكلّ كاتب يكتفي بسرد بضعة وقائع مجرّدة هو مقامرٌ بوقت القارئ وعقله.