الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
إنسَ فرويد؛ لكنْ لاتشاركْ في قتله!!

كان فرويد واحداً بين ثلاثة أسماء إفتتحت عصر الحداثة: فرويد وماركس وآينشتاين. كلُّ واحد من هؤلاء صنع ثورة إقترنت بإسمه، وكان لها مريدوها وجماهيرها العريضة. آينشتاين قاد ثورة علمية عنوانها الشامل يمكن إختصاره في مفردة (النسبية)، وماركس صنع ثورة الاقتصاد وجاء لنا بمفاهيم على شاكلة (فائض القيمة)؛ أما فرويد فمعروفة معالمُ ثورته التي تجسّدت في مفاهيم من قبيل (اللاوعي) و (العصاب) و (العقدة الاوديبية)،،، .

هل يمكن إختصار الحداثة العالمية في هذه الثورات الثلاث؟ كلّا بالطبع. محرّك الاحتراق الداخلي كان ثورة علمية – تقنية ذات مفاعيل مرئية ثورية في المشهد العالمي؛ لكن مَنْ مِن الجمهور العام يذكر مخترع محرّك الديزل أو البنزين؟ هذا المحرّك شاخص تقني يحتاج لمعرفته قدراً من الجهد التقني، ولايمكن تطويعه لخدمة توجّهات آيديولوجية محدّدة. الرأسماليون كما الاشتراكيين يستخدمون هذا المحرّك؛ أما مع نسبية آينشتاين أو الماركسية أو الفرويدية فأنت حرّ طليق، بوسع عقلك تطويع هذه الثورات بما يحقق إنتشاءه الآيديولوجي وتصوّره عن إمتلاك عقل علمي. الفرويدية كانت الثورة الاكثر قابلية للتطويع الشعبوي من قبل المخيال الجماهيري العام. السبب واضح: الفرويدية تتعامل مع أبعد الدواخل الدفينة للكائن البشري، ومن الطبيعي أن تحوز هذه الدواخل إهتمام البشر بأكثر ممّا تفعل سواها من الحقول البحثية. النسبية لازالت حتى اليوم تمثلُ نظرية علمية مقبولة تصمد أمام معايير الاختبار الصارمة، والماركسية كذلك بات لها مناصرون من داخل أجنحة أقصى اليمين الرأسمالي الذين باتوا يرون إمكانية تلقيح الرأسمالية ببعض الماركسية في تصوّر ذهني أقرب لزواج (الجنة والجحيم). وحدها الفرويدية أمست تنحسرُ عن المشهد العالمي.

ظلّ فرويد منذ أيامه وحتى يومنا الحاضر إشكالية كبرى على صعيد المفاهيم والتطبيقات. الاشكالية مع الفرويدية تتأتّى من مصدرين: فرويد ذاته، والفرويدية كمفهوم. هل رأيت فرويد يوماً وهو يبتسم؟ هو صخرة صمّاء. ليست الصورة بمعضلة. بودلير كان وجهه يشي بإكتئاب مزمن. المعضلة في سلوكيات فرويد وطبيعة عمله. من أين جاء بمفاهيمه؟ هل يمكنك أن تجلس وتبتدع لنا مفهوماً مؤسساً على مسرحية إغريقية (على شاكلة العقدة الاوديبية) ثم ترى في هذا المفهوم إنعطافة علمية حقيقية؟

صحيح أنّ الفيزياء شهدت ثورات كبرى منذ عهد النسبية حتى اليوم، وصحيحٌ كذلك أنّ مفاهيم الاقتصاد شهدت تغيرات عظمى منذ أيام الماركسية الاولى وحتى اليوم؛ لكنّ ماشهده علم النفس، وبخاصة في الجوانب الاكلينيكية منه، هو أعظم بكثير بالمقارنة مع ماشهدته الفيزياء والاقتصاد. صار علم النفس في يومنا هذا يميلُ إلى تفسير الاضطرابات النفسية بعناصر مادية بيولوجية. النواقل العصبية الدماغية صارت حجر الزاوية في الاضطرابات الذهانية والنفسية، وماعُدْنا مرغمين على تفسير هذه الاضطرابات باللجوء إلى مفاهيم مخترعة سواء جاء بها فرويد أو سواه.

يمكن أن نلمح في السنوات القليلة الماضية مايشبه ردّة فكرية تجاه فرويد والفرويدية. صارت كتبٌ كثيرة تُطبَعُ وهي تسعى لتفكيك الاسطورة الفرويدية (بعضهم صار يسميها الاخدوعة او الاكذوبة الفرويدية!!)؛ بل وذهبت بعضها حدّ الدعوة لإحراق فرويد. ميشيل أونفري على سبيل المثال (وهو متفلسفٌ فرنسي يميلُ لمغازلة العامّة ويدلي بدلوه في كلّ شأن) دعا في آخر كتبه فرويد بالمحتال، ووصف الفرويدية بالشعوذة الفكرية. لايكتفي أونفري بهذا الامر بل يذهب أبعد منه عندما يكشف لنا بدلائل موثّقة أنّ فرويد كان جشعاً للمال، وملفّقاً لوقائع، أراد من موضة (التحليل النفسي) أن تكون نمطاً من الممارسة الطبية التي تأتي لصاحبها بالصيت والجاه. يقول أونفري أنّ فرويد كان يتقاضى عن كلّ جلسة تحليل نفسي مايعادل عشرين دولاراً، وهو مبلغ يساوي مايقرب من خمسمائة دولار في وقتنا هذا. الامر لايخلو من رائحة المال. وحدهم الاثرياء كانوا يستطيعون دفع فواتير فرويد. كانوا يدفعون هذه الفواتير ثمّ يروّجون بين أوساط مجتمعهم المخملي أنهم تلقوا جلسات تحليل نفسي عند فرويد. كان الامر أشبه بترويج (فلان) أو (فلانة) بأنهما يرتديان ماركات ملابس أو أكسسوارات عالمية. كان فرويد أقرب لمثال دار عالمية تعنى بالموضة. مات آينشتاين بعد أن عاش حياة مستورة بمفاهيمنا الشائعة. لم يكن غنياً ولم تأت له النسبية بمال؛ أما ماركس فنعرف قصته مع الفقر، ولولا مساعدة إنجلز السخية له لكان عانى معاناة مالية خطيرة.

تساءلت: هل أنّ أونفري مدفوعٌ بعوامل الصراع الثقافي المزمن بين الثقافتين الفرنسية والالمانية؟ لاأظنّ ذلك. لم يقتصر الامر على فرويد حتى لايظنّ أحدنا أنّ الامر لايعدو أن يكون تصفية حسابات مع فرويد ذاته. إمتدّ الامر إلى تلامذة فرويد ومروّجي الفرويدية من غير الالمان. ثمّة كتاب منشور لمؤلف فرنسي عنوانه (فرويد ولاكان: قصّة محتاليْن). إذن هي معركة بالضد من الفرويدية.

ثمّة تأكيد في معظم الكتب المنشورة التي تناوئ الفرويدية أنّ فرويد لفّق العديد من النتائج، وأخفى تفاصيل عن مآلات سيّئة لبعض مرضاه. التدليس في النتائج العلمية مثلبة كبرى لاتُغتقر. ذكّرني مثال فرويد بعالم وراثة بريطاني إسمه (سيريل برت Cyril Burt) حاز على الكثير من التمجيد لعمله في طبيعة الذكاء البشري. أسبغت عليه الملكة لقب فارس، ثمّ أكتشِف لاحقاً أنّه كان يتلاعب في النتائج الرقمية وتطويعها إحصائياً بما يحقق الرؤية الآيديولوجية له. سقط سقوطاً مدوّياً، ويكفي أن تذكر إسمه حتى يقترن لحظياً بالتدليس والتزوير.

لكن برغم هذا، هل ينبغي أن نشترك في حفلة إحراق فرويد؟ وقبل هذا: هل ينبغي أن نشعر – بالضرورة – بالجزع لتلك الايام التي رأينا فيها الفرويدية فتحاً كبيراً في الدهليز البشري المؤدي إلى خفايا الروح البشرية؟ لا أبداً. يكفي أن ننظر إلى فرويد من باب الادب وليس من بوابة علم النفس. يتشارك آينشتاين هذه الرؤية؛ فقد كتب تعليقاً على كتاب (موسى والتوحيد) - الذي نشره فرويد – أنّ فرويد يمتلك خصال الكاتب ذي الموهبة الادبية المتميزة. كم كان آينشتاين ذكياً وذا كياسة!! أظنّه أدرك حقيقة خفايا اللعبة الفرويدية فأراد الكشف عنها بهذا التعليق الذكي الموجز. معروفٌ أنّ آينشتاين كانت له مراسلات مطوّلة مع فرويد بشأن الحرب قبيل الحرب العالمية الثانية، وهي مراسلات منشورة ومترجمة إلى العربية. لعلّهما حدسا الخراب القادم الذي تؤذنُ به الحرب فتكاتبا بشأنها. الحق أنّ آراء كليهما بشأن الحرب تستحق كلّ التقدير والمراجعة والمساءلة الجدية، وهي ليست آراء طوباوية بقدر ماهي آراء عملية تجعلهما أقرب إلى ساسة ذوي أخلاق رفيعة.

هذا هو العالم. كلّ شيء ممكن فيه ولاوجود لإستحالة مطلقة. الزمن كفيل بكشف الغطاء عن تفاصيل مغيّبة عنّا؛ لكن في كلّ الاحوال ليس من المجدي الشعورُ بالجزع إزاء إكتشافنا حقيقة لم نكن ندركها من قبلُ. لن ندرك كلّ الحقائق في كلّ وقت. هذه مهمّة ملحمية تصلح لأرباب الملاحم الكبرى الاقرب للآلهة. نحن لسنا آلهة. نحنُ بشر نعيش ونكتشف الجديد ونعدّلُ رؤيتنا طبقاً للمستجدّات. هذا أقصى مايمكننا فعله بين الافعال المتاحة لنا، وهو مايجب أن نقبل به ونستأنس للعيش معه.

هل تريد أن تنسى فرويد؟ يمكنك ذلك. يمكنك أن تنسى فرويد عالم النفس ذا النظرة المكتئبة؛ لكن يمكنك أن تقبل به مشتغلاً أدبياً أو ثقافياً، وهو في هذه الحقول حقّق إنجازات محترمة تستحقُّ القراءة والتفكّر الحثيث. دعونا لانتناسى حقيقة مغيّبة وهي أنّ فرويد رُشّح لجائزة نوبل في الادب خمس عشرة مرّة، وكان في إحدى المرّات على وشك أن يخطفها. دعونا في الاقل نضع فرويد في مرتبة مساوية لتشرشل. لاأظنّ أن فرويد كان أسوا من تشرشل من حيث قيمته الادبية. أما من يشتهي أن ينسى كلّ شيء يذكّرُ بفرويد فله ذلك. أنت ماتشتهي تذكّره وقراءته في نهاية الامر.

يمكنك أن تنسى فرويد؛ لكن ليس من المجدي الاشتراكُ في حفلة قتله.

  كتب بتأريخ :  الأحد 03-12-2023     عدد القراء :  1317       عدد التعليقات : 0