لا أظن أنَّ عَلماً مثل عبد الرّحمن الكواكبي(ت: 1902)، لا ينطبق عليه القول: "المُعرف لا يُعرف"، فيكفيه أنّه الأبكر، في عصرنا، بفضح الاستبداد والاستعباد، ولا استعباد بلا استبداد، والعكس صحيح، تلك قصة كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وما قدمه في "أمّ القُرى" مِن أفكار. لكنَّ ماذا يعنيّ لنّا أنَّ هذا الحلبيّ مقارع الاستبداد، الديّنيّ والسّياسيّ، والمنافح مبكراً لأجل التّنوير، يضحي بمناصبه وبحياته في سبيل النَّزاهة؟ كان موظفاً في نظام هارٍ، النّزاهة والأمانة فيه مِن الشّواذ.
ليس في زمن الكواكبيّ فقط، بل في زماننا، صار الفساد قاعدة، حتّى أخذ يوصف الأمين بالسَّاذج، في أنظمة اشتهرت بالفساد، مَن أناخ لها مِن دعاة التّنوير الكذبة، بينما الصّادق في تنويره وإصلاحه ظل عصياً عليها. فمَن ينسى الوزير العراقيّ الطّبيب، الذي ظل وفياً للقسم عند تخرجه طبيباً، المخضرم بين النّظامين، كان يعي أنَّ صحة أجساد النّاس بيده، فإذا قَبل بسموم الفساد، كمن يستبدل السُّم بالدَّواء، استقال ولسان حاله يقول: "واستيأسوا (مني) ومن مُتخشِّبٍ/ عَنتَاً كصِلِّ الرّملِ يَنْفُخ غاضبا"، ويتبعه بالبيت "يَستصرخونَ على الشّعُوب لُصوصَها/ في حينَ يَحتجزونَ لِصّاً ساربا"(الجواهريّ، الوتريّ 1949)، فالمصلحون لم يفلحوا بإصلاحهم ضد الفساد إلا البدء بالحيتان، لا بسارق الرّبع دينار الجائع.
كتب الشّيخ محمّد راغب الطَّباخ الحلبيّ(1877 – 1951)، في ترجمة مجايله الكواكبيّ، لما عُين الأخير مديراً لبلدية حَلب، وجد "مصلحة القبَّان" مؤبدة بيد أحد الأغنياء، يأخذها مِن مدراء البلدية بالرُّشَى، لكن المدير الجديد قد عصى عليه، فزاد وعرض أربعين ألف قرش سنوياً له، فقبل الكواكبيّ بهذا العرض، على شرط وضعها في صندوق البلدية الخاوي، ولما سمع الوالي العثمانيّ بزيادة الصّندوق، أراد سهمه كالعادة. رفض الكواكبيّ الطَّلب، فعزله الوالي مِن إدارة البلدية (أعلام النُّبلاء في تاريخ الشّهباء)، والشّهباء لقب مدينة حلب المعروف.
كان أول عمل الكواكبيّ، عند إدارته للبلدية، مكافحة السّرطان الاجتماعي والاقتصاديّ، وأُس الفساد الماليّ، فقام بـ "قطع عِرق الرّشوة مِن العُمال، الذين يباشرون الأعمال والمصالح، ويسمون الجاوشيَّة (في العهد العثمانيّ)، ولكنه زاد في رواتبهم، لعلمه بأنَّ الذي يضطر أكثر العُمال إلى الرّشوة هو قلة الرَّاتب" (أعلام النُّبلاء...).
إذا قلنا إنَّ الكواكبيّ تنويريّ، فبالضرورة يكون مصلحاً ونزيهاً، في المهام التي يتصدى لها، حكوميّة كانت أو شخصية. فلما أصبح مديراً لبلدية حلب (1890) أدخل الكهرباء وكانت في بدايتها، وربطها بسكة حديد، وجلب النّهر "السّاجور" إليها، فصار الماء العذب في متناول الحلبيين، أنشأ جريدةَ "الشّهباء" وجريدةً أخرى، وأحاط المدينة بسور يحميها مِن مرور القوافل، وقطع دابر التّهريب لما كان مفتشاً لـ"مصلحة حصر الدُّخان"(التبغ).
كان في إصلاحاته يُحارَب مِن قِبل الولاة، ومِن خصمه اللّدود شيخ الإسلام بإسطنبول "أبو الهدى الصّياديّ"(ت: 1909)، الذي دارت عليه الدَّوائر ونفي(1908) بعد الانقلاب على عبد الحميد الثَّاني(ت: 1918)، إلى جزيرة قصية حتّى مات هناك. كان خلافه معه حول نقابة الأشراف بحلب، أرادها الصَّياديّ لأسرته، فأخذها مِن الكواكبيّة، وهم أصحابها.
حُكيت مؤامرة قاتلةٌ، في ليلٍ بهيم، لمَن جمع بين التّنوير والإصلاح والنّزاهة، فحُكم عليه بالإعدام، بتهمة التَّنسيق مع دولة أجنبيّة لتسليم حلب، ثم عُدل الإعدام إلى السّجن، وبعدها أطلق، فمات كمداً(أعلام النّبلاء...).
أشار حافظ إبراهيم (ت: 1932) إلى مظلوميّة الكواكبي في رثائه المكتوب على قبره: "هنا رجل الدُّنيا هنا مهبط التُّقى/هنا خير مظلومٍ هنا خير كاتبِ/ قفوا واقرؤوا أمَّ الكتاب وسلموا/ عليه فهذا القبر قبر الكواكبيّ"(الدِّيوان1937). يسخر مِن ضحايا الفساد، مَن خطابه مع التَّنوير، بينما يده ملوثةٌ بالخراب والفساد، لا يفقه أنَّ التّنوير والإصلاح والنّزاهة تَوائِم، تحملهم بطنٌ واحدةٌ.