هل نتخيّلُ إمكانيّة العيش من دون ذاكرة فاعلة؟ ماالذي سيؤول إليه هذا التخيّل؟ إنسانٌ معطوب، تائه، يبدو محملقاً في نقطة نائية من الفضاء وكأنّه يروم التحدّث مع كائنات غير مرئية. أظنّ أنّ مرضى الالزهايمر أمثلة حيّة على العيش بذاكرة معطوبة.
لكن لنتناول الامر من وجهة أخرى: لو أمكن بتقنية طبية متقدّمة إجتراحُ نمطٍ من التدمير الانتقائي لمناطق دماغية محدّدة بما يكفلُ نسياننا لذكريات محدّدة دون غيرها فأظننا سنرى في هذه التقنية الفتح الاعظم في التقنيات الطبية المتقدّمة، ولو أمكن الحصول على ذات النتائج بعقاقير طبية فلن نتأخّر عن توصيف هذه العقاقير بِـ " عقاقير السعادة ".
الذاكرة إحدى شروط وجودنا الانساني المكتنف بالتناقض (أو مانحسبه تناقضاً). هي داء ودواء. لايمكن العيش من دون ذاكرة، وفي الوقت ذاته فإنّ الذاكرة حملٌ ثقيل نسعى لطرحه بعيداً عن أكتافنا الهشّة التي ستنوء به في طور ما من مسارنا في هذه الحياة.
يتحدُّثُ الناطقون بلسان (التنمية البشرية) عن أهمية التصالح مع الذات. ماذا يعني هذا؟ هو في واقع الامر تصالح مع الذاكرة. الذاكرة مثل البرنامج التشغيلي في الحواسيب، مع فارق أنها برنامج تشغيلي وذاكرة خزنية في الوقت ذاته. بمعنى آخر: ذاكرتنا تساهمُ في تشكيل الحاضر مثلما تحتفظ لنا بوقائع الماضي. هذه هي الثنائية الخطرة: الحاضر والماضي يتشابكان في الذاكرة ولايمكن فصلهما عن بعضٍ. صناعة الحاضر لاتحصل بمعزل عن وقائع الماضي؛ لأنّ هذا التشابك هو مايُفضي إلى تشكّل الخبرة، وهذه الجزئية هي الميزة المفصلية التي يمكن - حين تحققها - وصف آلة بأنها ذكية ذكاءً يقتربُ من ذكاء الانسان، وبغيره ستكون محض آلة إحتسابية لاتأثير للخبرة الماضية في تحديد سلوكها الحاضر والمستقبلي.
الذاكرة بهذا المعنى هي فخّ من فخاخ الثعالب مثلما هي جنّة من جنان النعيم. جنّة الذاكرة تكمنُ في كونها مصنع الخبرة عندما تعمل بالتوافق مع العدّة البيولوجية المسمّاة (الدماغ) وهي أحد مفاعيله؛ أما فخّ الذاكرة فيكمنُ في تلك الوقائع المؤلمة التي نريدُ نسيانها. نريدُ جنّة من غير نار. لن يمكن هذا. الوقائع المؤلمة جزء جوهري من عملية العيش الحقيقي، وسببها هو إضطرارنا للإختيار بين خيارات كثيرة لانعرفُ إلى أين ستقودنا بالتفصيل عند نقطة الشروع. قد نعرفُ الخطوط العامة؛ لكنّ التفاصيل الدقيقة ستأتي لاحقاً وعلى غير مانشتهي. نحنُ في النهاية لسنا آلات تعملُ بحتمية ميكانيكية. تعديل المسار وإعادة التكيّف فعاليتان حيويتان للعيش الذكي.
هل نحنُ أسرى ذاكرتنا؟ نعم ولا. نحنُ من يحدّدُ ذلك. لايمكن قتلُ ذاكرتنا قصدياً. من يبتغِ قتل بعض ذاكرته (ذكرياته المؤلمة بالاصح) فلينتظر عقاقير السعادة التي ستجود بها علينا شركات العقاقير العالمية. الافضل أن نداري ذاكرتنا ولانحاول الالتفاف عليها أو اللعب معها ألعاباً بهلوانية. من غير المجدي تسويغ كلّ أفعالنا السابقة وكأننا مخلوقات لاتخطئ (أو لايجوز لها أن تخطئ). مسامحة النفس (مثل مسامحة الآخرين) فعالية ضرورية ومطلوبة، بها يمكن تناسي – وليس نسيان – موقظات الالم في حياتنا، وفي الوقت ذاته يمكن تعظيم قادحات الفرح في ذاكرتنا. هي لعبة تعظيم الفوائد وتقليل الخسائر في نهاية الامر. هكذا هي الحياة. هي لعبة لو أردنا ذلك.
أظنّ أن (كانْتْ) عندما طلب أن تُنقَشَ عبارة (القانون الاخلاقي الذي في داخلي) على شاهدة قبره كان يفكّرُ بمفاعيل الذاكرة الماكرة في حياة الإنسان. علينا ان نجعل للقانون الاخلاقي سطوة على مخرجات ذاكرتنا. هذا تدريبٌ شاق سيكون مغبوطاً كلُّ من ألزم نفسه به.
للذاكرة سلطان على حياتنا. قد تكون مصدر بهجة في أحايين، وقد تكون فخاً قاتلاً في أحايين أخرى. فلنعظِّم البهجة ونجتنب الفخ. نحاول ذلك. لامفرّ من المحاولة لو أردنا عيش حياة تليق بكائن بشري.