المشهد مروّعٌ لايكاد يصدّقه أحدٌ. ثلاث جامعات أمريكية تقع في قمّة الهرم التصنيفي الجامعي العالمي من حيث سطوتها الاكاديمية وقيمتها العلمية وإنجازاتها المدهشة: معهد ماساتشوستس التقني MIT، وبنسلفانيا، وهارفرد، يجلس رؤساؤها الثلاثة (وكلّهنّ نساء ذواتُ إنجازات معتبرة) أمام لجنة استجواب قبيحة من الكونغرس الامريكي، تقودها نائبة سليطة اللسان. التهمة الجاهزة: لم تعملن مايتوجّبُ عمله للحدّ من الفعاليات المناوئة للعدوان على شعب غزّة.
يثيرُ مشهد الاستجواب هذا الكثير من التساؤلات مثلما يكسرُ الكثير من التوقّعات المسبّقة. نحنُ في العادة، وتماشياً مع عادات مستورثة من التفكير، نحسبُ أنّ أعضاء الجامعات النخبوية – طلبة وأساتذة – هم من أولئك الذين لاتهمّهم سوى مصالحهم الخاصّة، ولاتجتذبهم سوى رائحة المال والمنافع المتحصّلة منه. يرسم لنا خيالنا أنّ طلبةً إرتادوا هذه الجامعات الثلاث سيكون آخر انشغالهم التفكيرُ بمصائر أناسٍ بعيدين عنهم، أناسٍ ليسوا أمريكيين في نهاية المطاف. حتى لو كانوا أمريكيين؛ هل كان الحال سيختلف؟ تقاليدنا الايديولوجية ومنظومتنا الاخلاقية تقول لنا: لا. لم يكن الحال سيختلف؛ لكنّ واقع الحال يخبرنا أنّ الامر إختلف وكسر توقّعاتنا.
نعرفُ مثل هذه الاستجوابات الامريكية في ساحات الكونغرس العتيد. هي لعبة (نعم) أو (لا). أسود أم ابيض ولامكان لأيّ لون آخر من ألوان الطبيعة. وارثو سيء الذكر (مكارثي) هم أبطال اللعبة الحالية وقد عرفوا أصولها الخبيثة: عندما تريدُ في أمريكا طرد أحدٍ من منصب، أو تشويه سمعته، أو دفعه دفعاً إلى الاستقالة فليس عليك سوى صياغة أسئلة خبيثة مصمّمة بسوء نيّة مسبّقة، ثمّ تدفعه للإجابة عليها بواحدة من إجابتيْن إثنتيْن: نعم أو لا، وفي الحالتين سيدفع ثمناً باهظاً. الامر أقرب لخوارزمية حاسوبية: لو قلتَ (نعم) فسيأتيك سؤال: ولِمَ لم تفعل كذا؟ ولو قلت (لا) فسيباغتك سؤال: ولمَ لم تفعل كذا؟ القصد واحد: قدّمْ إستقالتك بالتي هي أحسن وإلّا فسندفعك دفعاً للإستقالة مع إجراءات عقابية إضافية. إنها مسرحية قانونية في الكونغرس يجيدها أعضاء خبثاء يعملون بمشورة قانونية من أفراد متمرّسين في دهاليز القانون الامريكي، وماأخبثها من دهاليز!!
ذكّرتني جلسة الاستجواب هذه بمثال قد يبدو بعيداً لكنّه مثير. إنه الجامعة الامريكية في بيروت. يكفي أن تذكر مفردة (الامريكية) حتى تتطافر كلّ شياطين الارض وتحلّق قريباً منك. نمطٌ من النزق الايديولوجي الذي يضعُ الاقيسة والتوصيفات المسبّقة قبل الاختبار الحقيقي. الغريبُ أنّ غلاة العروبيين ومعظم المشاركين في تأسيس الاحزاب الآيديولوجية العربية تخرّجوا من هذه الجامعة، وأكبر التظاهرات جرت وقائعها في باحات هذه الجامعة، ومثالُ حرب السويس 1956 حاضرٌ لايغيب. تجدُ في هذه الجامعة القومي العروبي المتطرّف مثلما تجد الليبرالي الذي يتصرّفُ وكأنّه أحد أحفاد جون ستيوارت مِلْ!!. كنّا نهتمُّ كثيراً بلون القط الذي سيلتهم الفئران، ولم نأبه لكونه قطّاً وحسب. كنّا ويبدو أننا لم نزل كذلك.
الاخلاق الانسانية ليس لها اتجاه. ليست يميناً أو يساراً. أنت قد تكون رأسمالياً؛ لكنّ هذا ليس تكّأة لنا لوصفك بشتى الاوصاف القبيحة المناوئة للانسانية. يجب وصف المشهد في نطاق عناصره المرئية ومن غير إجتهادات مسبقة. لايهمّنا أن تكون الرئيسات الثلاث لنخبة الجامعات الامريكية مناصرات لليسارية أو اليمينية، رأسماليات التوجّه أو إشتراكيات، نيوليبراليات أو من دُعاة تدخل الدولة بقدر محسوب؛ لكنّ المهم هو أنّهنّ قبلن بالاحتجاجات المناوئة للقتل واسع النطاق.
لاأريد المقارنة مثلما لاأريد الترويج لمثال أمريكي؛ لكنّ المروءة تقتضي الانصاف والمؤازرة لمن يستحقُّهما. أنظروا مثلاً: هل رأيتم مظاهرة خرجت لدعم شعب غزة في جامعة روسية؟ أحفاد لينين وتروتسكي، الذين تقودهم السياسة البوتينية الصارمة صاروا براغماتيين إلى نخاع العظم حتى لكأنهم إنقلبوا على ماضيهم الشيوعي. لامال يُسفح بعد اليوم لنصرة (حركات التحرّر في العالم)، ولامنظّمات شبيبة عالمية. صار القيصر الروسي ينظر إلى محفظة نقوده أولاً، وليس هذا عيباً في ذاته. الدولة جهاز بيروقراطي شديد التعقيد يجب أن يراعي مصالحه أولاً وقبل كلّ شيء. أردتُ القول أنّ لاننقاد بعد اليوم بطريقة عمياء لبوصلة اليمين واليسار التقليديين. يساري الامس قد يكون من غلاة يمينيي اليوم، والعكس يصحُّ أيضاً.
أقول ثانية: الاخلاق الانسانية ليس لها اتجاه. ليست يميناً أو يساراً. ليست نتاجاً مباشراً لشكل الاقتصاد أو الرؤية الايديولوجية. إنها ضمير يقظ يأبى التغافل والإخلاد إلى النوم عندما يُقتَلُ الابرياء.