تظهر بين وقت وآخر في الاعلام مقولة عنوان المقالة اعلاه هذه. فما تكون هذه المقولة وهل ان ثمة ما تخفي خلفها ؟
انها عبارة مذكورة في التوراة في سفر التكوين تشير حسب التفسير اليهودي الى حدود اسرائيل الكبرى او ارض الميعاد. إذ يذكر فيها بان الرب قد قطع مع إبراهيم ميثاقا قائلا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات. وهي توجد بشكل خارطة معلقة على مدخل الكنيست الاسرائيلي، وفي المناهج الدراسية وعلى ظهر عملة الشيقل. وقد تبنى المقولة مؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هيرتزل عندما اعلن صراحةً عام 1904 بان حدود دولة إسرائيل تمتد من «نهر مصر إلى الفرات».
في الادبيات العربية حول هذا الموضوع جرى الانتباه فقط لشمول المقولة البلدان والاراضي العربية الواقعة بين هذين النهرين. لكن لم تلاحظ مثلا الى وجود قناة السويس من ضمنها !
اننا نعتقد ولسنا الوحيدين بان الافكار ذوات المظهر الديني غالبا ما تكون غطاءا لاهداف سياسية لتحقيق اهداف اقتصادية. والمقولة الدينية اعلاه هي مما يمكن وضعه داخل هذا الاطار. اي انها دينية المظهر لاخفاء اهداف سياسية واقتصادية.
تقول الادبيات المتعلقة بهذه المقولة ان البدايات كانت في انكلترا في القرن السابع عشر في بعض الأوساط البروتستانتية المتطرفة التي نادت بعقيدة "العودة". اي عودة اليهود إلى فلسطين شرطا لتحقيق الخلاص وعودة المسيح. ثم تدرج الامر حتى ظهور ثيودور هرتزل اليهودي المجري نهاية القرن التاسع عشر الذي صار ينشر الفكرة كاساس لدعوته الى انشاء بلد قومي لليهود في فلسطين. لكن هل ان الامر هو فقط بهذه الادبيات ؟
اننا نرى بان حصر الموضوع بهذه الادبيات فقط يعطي صورة مبتسرة جدا له في محاولة برأينا للتمويه على الحقائق وتضليل المتابعين. فعدا البدايات لا يتوضح كيف تلقت المقولة دفعا كبيرا في آخر عشر سنوات من القرن التاسع عشر. فالامر لا يتعلق فقط بثيودور هرتزل برأينا. اننا نعتقد بان هذا الدفع قد حرّكه افتتاح قناة السويس العام 1869 بداية التي اضافت قيمة اقتصادية وبالتالي سياسية اكبر لمنطقة الشرق الاوسط. وان الدفع الاكبر والاهم للمقولة ولمحاولات تحقيقها على الارض ومن ضمنها فكرة انشاء الوطن القومي لليهود، طبعا بجوار القناة، قد تجلى بعد افتتاح هذه بعشر سنوات. اي بعد اندلاع ثورة عرابي في مصر وتمكنه من تشكيل حكومة وبرلمان منتخب يمثل تطلعات المصريين وقتها في الاستقلال. فتحقق الاخير كان سيعني تبخر احلام البريطانيين في وضع اليد على طريق التجارة الاستراتيجي هذا. وهكذا فبعد احتلال مصر تفتقت عقلية المخططين البريطانيين عن فكرة استخدام اليهود كواسطة لاحتلال المنطقة لحراسة القناة وقطعا لاهداف اخرى من المنافسين مع قصة الوطن القومي والتي بدأوا بدعمها مع الصهاينة المسيحيين.
اما هرتزل فلم تكن هذه المقولة من بنات افكاره اصلا. إنما قد اتاه بها وساعده فيها القس البروتستانتي البريطاني ذو الاصول الالمانية هنري هيشلر، حيث كان له دورا كبيرا جدا في ذلك. وكانت لهيشلر هذا علاقات مع رؤوساء دول وملوك ذاك الزمان بحكم عمله في السفارة البريطانية في فيينا. وينتمي هيشلر الى الصهيونية المسيحية، وهي أحدى فصائل الإنجيلية الأصولية او المتطرفة.
إن من الواضح بان الاستعانة بمقولة التوراة هذه التي تنادي بوطن لليهود من النيل الى الفرات هو سياسة للاستحواذ على طريق التجارة الاستراتيجي الذي يمثله الشرق الاوسط لصالح القوى الغربية. إذ انه عدا قناة السويس فالفرات الذي يمثل الطرف الشرقي لمقولة التوراة هذه هو طريق التجارة القديم بين البحر المتوسط وبحر العرب عن طريق الخليج وهو اقصر بكثير من منطقة السويس. بينما نهر النيل الذي يمثل الطرف الغربي للمقولة غير البريئة هذه هو بمثابة ممر يربط بين شمال مصر وجنوبها بمحاذاة البحر الاحمر، ثم امتداد النيل في السودان فبحيرة فكتوريا منبعه في اوغندا. وهو كالفرات يمكن ان يشكل طريقا بديلا لقناة السويس. ومن عجائب الصدف الجغرافية او ربما محاسنها إن المنطقة الممتدة من غزة الحالية شرق القناة حتى الاسكندرونة شمالا تلتقي مع المنطقة الرابطة مع غرب الفرات هناك ايضا. وكل هذه هي منطقة الساحل السوري وامتداده الفلسطيني ! هكذا نرى بان هذه المقولة التوراتية تشمل كامل منطقة هذا الساحل الاستراتيجية. وتكون هذه المقولة وكأنها مقدمة للاستيلاء على خطوط التجارة القديمة المعروفة في الشرق الاوسط لكن بمظهر او لبوس ديني مموه. إن امر طرق التجارة هذا يأخذنا الى مقالة سابقة لنا العام الماضي حول خطوط الاتصال البحرية يمكن العودة اليها للاستزادة منها. ويكون من حق اي منا ان ينتابه الشك في نهاية الامر حول مصداقية هذه المقولة التي لا تبدو من التعاليم الدينية من شيء، بل انها تبدو وكأنها حشرت في غفلة ما في التوراة حشرا.
فقط لشرح اهمية هذا الساحل نذكر بشكل سريع اهميته في الصراع التاريخي الاقليمي والدولي حوله. فهو كان محط انظار الامبراطوريات الرافدية القديمة منذ اول ظهورها وذلك لتأمين تجارتها بين الشرق والغرب. وهو ما ادخلها في صراع مع الامبراطورية الاخرى غربها من وادي النيل حيث تبادلتا السيطرة عليه. وهذا غير اخرى ثالثة من الشمال من آسيا الصغرى او ما ابعد منها. فالسيطرة على هذا الساحل هو ما كان سيؤمن ازدهار التجارة للجهة المسيطرة وتأمين استقلالها السياسي وهيمنتها بالتالي على منطقة الشرق الاوسط. وهذا الساحل هو ما اجتذب انظار الغربيين لاحقا فارسلوا الحملات للسيطرة عليه بدءا من الاسكندر المقدوني ثم الرومان، ولاحقا بذريعة دينية هي استرجاع القدس موطن المسيح متخذين من صليبه رمزا لهم. بعدهم جاء نابليون للسيطرة مرة اخرى على هذا الساحل وذلك لدحر نفوذ غرمائه البريطانيين والروس حلفاء العثمانيين وقتها. فالبريطانيون كانوا بحاجة للمنطقة للوصول الى مستعمراتهم في آسيا ومناطقهم التابعة الاخرى.
هذه هي في ما نرى خلفيات المقولة المذكورة في التوراة التي تظهر بين وقت وآخر في الاعلام والتي هي في ما نرى ليست من الصدف من شيء.