الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
لعدمية بين المعري وشوبنهاور

   إن المعري 973-1057 كان سباقاً بطرح (العدمية) والفلسفة الوجودية بزمن بعيد أي قبل شوبنهاور1788- 1860 بأكثر من 800 سنة وهو فارق زمني ومكاني كبير والغريب أكثر تقاربهما في الوضع العائلي والتناحرات السياسية ورحى الحروب الطاحنة الداخلية والخارجية لذا أصبحا في نظر العالم والطبيعة والأفراد والمجتمع بتبني (الثقافة السوداوية العدمية) ، فيكون القاسم المشترك بينهما العدمية التشاؤمية مع التقارب بالوضع الفردي والعائلي والبيئة المحيطة بهما من جهة أخرى .

   وسأستوحي بعضاً من أفكار ورؤى الفيلسوفين الكبيرين من خلال ما بين سطورمنجزيهما ، كتاب اللزوميات للمعري وكتاب العالم كأرادة وفكرة لشوبنهاور ، وفي تحليل تشابهما في العدمية لابد من معرفة الآسباب :

   لنبدأ بالمعري :

   - فقد بصرهُ بعد أصابته بمرض الجدري وهو طفل بعمر خمس سنوات وترك المرض اللعين أخاديد ونتوءات وتشوهات خلقيةِ في وجههِ .

   - وفاة أبيه المفاجيء وذاق مرارة اليتم وهو طفل بعمر ست سنوات .

   - ترك الدراسة في مدارس الشام وبغداد بعد سماع مرض أمهِ وثم خبر موتها .

   - عاش زمن الأرهاصات والتقاطعات الفكرية وتناقضات الصراعات الطبقية وأضطرابات سياسية وحزبية بين الحمدانيين والفاطميين أضافة إلى الحروب الطاحنة الخارجية مع الروم البيزنطيين .

   - أتهم بالزندقة لوجوديته عند التعامل الفكري مع الكون والحياة والموت .

   - وكان المعري نباتياً رأفة بالحيوان .

   - عاش ناقماً ومات ناقما على الحياة بسوداوية وأحباط ويأس ليوصي كتابة هذه العبارة على قبره "هذا ما جناه عليَ أِبي ولم أجني أنا على أحد" (اللزوميات لآبي العلاء المعري).

   أما بالنسبة لآرتورشوبنهاور:

   هو أحد فلاسفة الالمان المثاليين ذو الأفكار اليمينية المثالية الطوباوية والمتسمة بالعدمية والتشاؤمية التي تعاكس الحداثة المعاصرة في زمنهِ وجغرافيته الأوربية .

   - ورث مزاجية وجينات أبيه الذي يعاني من أضطرابات نفسية حادة في الخوف والقلق والعزلة والأكتئاب وكراهية الحياة حيث وُجد منتحراً بطريقة بشعة برمي نفسهِ من علوٍ شامخ .

   - سلوكية غير مريحة مع أمهِ حيث كانت نابغة في سردية القصة متصفة بالغرور والفوقية حتى على أبنها ، فالعلاقة كانت مضطربة بينهُ وبين أمه بقسوتها عليه بالتجافي والمشاكسة ، وخصوصاً عند أشتهارهِ في الوسط الثقافي والعلمي القيمي والنبوغ وسعة الآدراك وعند أخبارها الفيلسوف (غوته) بعظمة عقلية أبنها أشتاطت غيضاً عليه.

   - عاش سلسلة الحروب النابليونية والأضطرابات السياسية في عموم أوربا .

   - تعمق لديه شعور بأن الحياة شرَ ليس بها ألا الآلم والمرض والشيخوخة والموت .

   التقارب الفكري بين الفيلسوفين

   - طغيان الصفة التشاؤمية السوداوية (العدمية) على عقلية ورؤى كل منهما .

   - الخير والسعادة عندهما أحداث سلبية سرعان ما تغيب لتحل عليها العدمية والسوداوية التشاؤمية وتحيطها الأحزان والآلام والتي أطلقوا عليها الأحداث والآمور الأيجابية .

   - الحياة في نظرهما متعبة ومقرفة لآقترانها مع الشر.

   ولهذا يقول المعري :

   إلا إنما الدنيا نحوسَ لآهلها

   فما في زمانٍ أنت فيه سعود

   او:

   نزولُ كما زال أجدادنا

   ويبقى الزمانُ على ما نرى

   - ويشترك الأثنان في رؤية الفرد بمتلازمة الآلم الذي لا مفر منه ، فتصبح قواعد أفكارهما المنحوسة (منصة) أنتقادية للبشرية جمعاء التي هي : أستدامة متلازمة الألم والتشاؤم والعدمية.

   - والأغرب رغم البعد الشاسع في الزمكنة وكأن الواحد يلقن الآخر بأفكاره السوداوية .

   فيقول المعري :

   في العُدم كنا وحكم الله أوجدنا

   ثم أتفقنا على ثان ٍ من العدمِ

   أو:

   نمرُ سراعاً بين عدمين ما لنا

   لباثُ كأنا عابرون على جسرٍ

   ويجيبهُ شوبنهاور أفتراضياً :

   نعم يا صاح إن الحياة تتأرجح كالبندول بين ألألم والسأم وفي الحالين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة .

   - أتفقا في أعتزال النساء ، كان أبو العلاء زاهداً من الدنيا متقشفاً نباتي الطعام رأفة بالحيوان ، أعتزل النساء ولم يتزوج لكي يجنب النسل الموروثات الجينية السيئة ومآسي الحياة : حتى أوصى أن يكتب على قبرهِ : (هذا ما جناهُ علي أبي وأنا لم أجني على أحد) ، أما شوبنهاور فهو يكره النساء ، يعتبر المرأة منبع الشرور وهي توأم الحياة المقرفة لذا عاش عقدة النساء في حياته فلم يتزوج .

   - التقارب العقلي والوجداني بين المعري وشوبنهاور في المعتقدات الدينية والكون والموت ، هاجم أبو العلاء المعري عقائد الدين لذا أتهم بالزندقة ، أما شوبنهاور يقول : إن الوجود هو (المادة) الملموسة فقط أما ما يطرح في غيبياتها فلا قيمة لها وهو يميل - كذلك - إلى التعمق في دراسة الديانة الهندية وسيرة بوذا التي تقوم على أساس إن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية ، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة ، فليس في الوجود سوى المادة .

   - ويتفق الأثنان على إن الموت نهاية لألام وعذابات الحياة ، وجدتُ في فلسفة الفيلسوف الألماني : للحفاظ على الحياة في (النوع) وديمومة استمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم آرتون شوبنهاور أمرين هما : (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب أكثر في الغلو والسوداوية يدعو الأنسان إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار!؟ وبالمناسبة أنتحر والدهُ بطريقة بشعة برمي نفسه من علوٍ شاهق لكونه كان مصاباً بأمراض نفسية حادة كالكآبة والعزلة والخوف والقلق .

   مصادر وهوامش

   - كتاب اللزوميات لأبي العلاء المعري ترجمة سامي الدروبي

   - كتاب العالم أرادة وفكرلآرتورشوبنهاور

   كُتب في بغداد الحبيبة كانون ثاني 2024

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 31-01-2024     عدد القراء :  1416       عدد التعليقات : 0