قبل أيّام مرّ بذاكرتي طيفُ الفلسفة التي (كانَتْ) تدرّسُ في مدارسنا الثانوية. تساءلت: هل بقي ذكرٌ لفلسفة وفلاسفة في منهاجنا التعليمي؟ بعد بحث قصير وسريع في الغابة الغوغلية عرفت أنّ الفلسفة تدرّسُ في الصف الخامس أدبي من المرحلة الثانوية مثلما كان الحال من قبلُ. تشجّعتُ أكثر لمعرفة تفاصيل المنهاج الفلسفي بعدما وجدتُ الكتب المنهجية متاحة للتحميل بالمجان؛ فحمّلتُ منهاج الفلسفة وقرأته بالتفصيل في نصف يوم.
يقالُ في واحدة من أمثالنا الشائعة: إذا أولمْتَ فأشبِعْ. لم أعثر في منهاج الفلسفة على مايشبِع؛ بل وجدته أقرب إلى كسرة خبز يابسة يروم بها الجائع تسكين قرقرة بطنه الجائعة، وليت جوعه يسكن. ملاحظات كثيرة يمكن إيرادُها بشأن هذا المنهاج؛ لكني قبل كل شيء أروم تثبيت حقيقة مؤكدة: لستُ في معرض إنتقاد اللجنة المؤلفة للمنهاج. أعرفُ تماماً أنّ أعضاءها كانوا كمن يمشي على حبل مشدود فوق هاوية من النار وهُمْ مهجوسون بضرورة الموازنة بين متطلبات الفكر الفلسفي الحقيقي ومايتطلبه من تدعيم المساءلة النقدية الصارمة من جانب، وعلى الجانب الآخر كانوا لايريدون إثارة الاحتكاك بأية مواضعة مجتمعية أو تراثية أو دينية؛ لذا جاء المنهاج طبخة باهتة تخلو من أي مذاق.
كان منهاج الفلسفة في سنوات سابقة (أيام كان الدكتور الراحل حسام الآلوسي أحد اعضاء لجنة تأليفه) ملحقاً بعلم الاجتماع، ثمّ صار اليوم ملحقاً بعلم النفس. لماذا هذه النزعة الالحاقية للفلسفة بحقول أخرى؟ ألا يمكنُ أن تدرّس الفلسفة بذاتها ولذاتها؟ يبدو هذا الالحاق مقاربة محسوبة للتخفف من حجم المادة الفلسفية والتملّص من الاسئلة التي ستُثار لاحقاً، وعندها سيكون الجواب جاهزاً: ماذا نفعل ونحنً محكومون بصفحات محسوبة العدد. ليعلَمِ القارئُ أنّ حجم صفحات المنهاج الحالي لايتجاوز المائة وعشرين صفحة: نصفها للفلسفة والنصف الآخر لعلم النفس.
تساؤل جوهري آخر: لماذا قَصْرُ الفلسفة على الفرع الادبي دون العلمي؟ لازالت ذائقتنا وعقليتنا تستطيب هذا التقسيم القسري بين العلوم والآداب وترى الفلسفة أقرب إلى مخيال متفلّت بعيد عن العلوم. الامر الاكثر غرابة أنّ مدرّس التاريخ هو في العادة من سيُعهّدُ إليه تدريسُ الفلسفة، ولنا أن نتصوّر الكيفية التي ستجري بها الامور. سيتحوّل الدرس إلى حصّة مهملة ومادة للحفظ الاصم. يبدو أنّ اللجنة المؤلفة تنبّهت إلى هذه الحقيقة فكتبت في تقديم الكتاب تأكيداً قوياً بأنّ المعلومات الواردة في الاطارات المستطيلة من الكتاب ليست للإمتحان (أي ليست للحفظ!!). هكذا كنّا وسنبقى: لانستطيب المعرفة لذاتها ولقيمتها بل بقدر ماتكون مادة إمتحانية.
مدارسنا مقتلة للمعرفة الحقيقية. إذا أردتَ قتل الشغف الحقيقي بحقل معرفي فاجعله موضوعاً لمنهاج دراسي في المدرسة. يبدو هذا هو القانون السائد. منهاج الفلسفة ليس أكثر من سدّ فراغ ورفع عتب حتى يقال أنّ الفلسفة لها حصة في المنهاج التعليمي العراقي. نفعل هذا في الوقت الذي صارت فيه بعضُ دول الخليج القريبة منّا - والتي كانت الفلسفة موضوعاً منبوذاً لديها حتى سنوات قليلة – تدرّسُ أساليب التفكير النقدي.
أظنُّ أنّ منهاج الفلسفة في المدارس العراقية كُتِب لمن لايحبون الفلسفة أو يحسبونها مادة امتحانية عابرة مثل كتب الارشادات السياحية؛ أمّا من يحبّ الفلسفة حباً حقيقياً فأقول له: أنت تعرف أين تجد ضالتك من القراءات الرصينة التي تشبعُ جوعك الفلسفي وأنت في بواكير عمرك وبدايات تفتّح عقلك وذائقتك وروحك نحو المعرفة. لاترضَ أبداً أن يقتل كتاب مدرسي باهت شغفك الفلسفي المتوهّج وأنت في أوج تعطش السنوات الاولى من العمر لكلّ ماهو جديد ومثير ومحفّز للدهشة والتساؤل والتفكّر والاختبار والنقد.