مَنْ شاهد الفلم الرائع (Copying Beethoven) لا أظنّه سينسى ذلك المشهد المثير الذي يمسكُ فيه بيتهوفن باللحن العادي الذي كتبته ناسخة أعماله. لم يفعل شيئاً كبيراً ولم يُعدّلْ في اللحن. كلّ ما فعله أنّه وضع لمسته عليه؛ فانقلبت الموسيقى من موسيقى عادية لتصبح موسيقى عظيمة. أعتقدُ بقوّة أنّ كلّ مبدع في حقله المعرفي إنّما يفعلُ شيئاً شبيهاً بما فعله بيتهوفن حتى لو كان بمقادير صغيرة في المقاييس النسبية.
كثرةُ المطبوعات في زماننا رحمةٌ ونقمةٌ في الوقت ذاته. هي رحمة لأنها جعلت أبواب المعرفة مشرعة لنا بدلاً من أن تظلّ المعرفة رهينة الحسرات الدفينة في صدورنا كما كان الامر في عقود ماضية. كنّا نقاتلُ حتى نحصل على كتاب، وعندما نحصل عليه بشقّ الانفس ومالٍ ليس بقليل كانت فرحتنا لا تسعها الارض! اليوم لم يعد الامر هكذا. صارت الكثرة الميسرة هي السائدة. أمّا النقمة فمردّها إلى أنّ جواهر ثمينة قد تضيع في زحمة الكثرة العادية أو السيئة. ليس على المرء مع حال مثل هذا سوى أن يركن للصبر والقناعة والايمان بمفاعيل الحظوظ الطيبة التي تتيح للمرء العثور على الاعمال الممهورة بلمسة الابداع الخلّاق.
وأنا أراجعُ الاعمال الفائزة بجائزة الشيخ حمد للترجمة قبل أعوام قليلة سابقة مرّ بي كتابٌ فائز عنوانه (أيّ نوعٍ من المخلوقات نحن؟) لعالم اللسانيات والفيلسوف السياسي الامريكي نعوم تشومسكي. أنا من محبّي تشومسكي ورؤيته الانسانية التي هي أرفعُ مقاماً من سياسات اليمين أو اليسار؛ لذا جذبني العنوان لقراءة الكتاب. حصلتُ على الكتاب وقرأته. إنتهيتُ بعد قراءته كاملاً إلى أنّ مترجمه الدكتور (حمزة بن قبلان المزيني)، أستاذ اللسانيات (المتقاعد حالياً) بجامعة الملك سعود، مبدعٌ بمواصفات رفيعة. تابعتُ بعد هذا الكتاب البحثَ عن كتب أخرى بتأليف أو ترجمة الدكتور المزيني، وحصل بالفعل أن قرأتُ العديد من مؤلّفاته ومترجماته. عرفتُ بعد تدقيق أنّ الدكتور المزيني كان مواظباً على الكتابة في الصحافة ثم انقطع عنها لأسباب أفاض فيها في مقابلة تلفازية مطوّلة.
بعد كتاب تشومسكي ذاك مضيتُ في قراءة أعماله الاخرى التي ترجمها الدكتور المزيني ابتداءً من (اللغة ومشكلات المعرفة) ثم (آفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن) – الدكتور المزيني يرجّحُ مفردة الذهن على العقل في مواضع بعينها، وأرى أنّ تسبيبه يمتلك وجاهة كاملة-. أتطلّعُ قريباً لقراءة آخر ترجماته لتشومسكي وهو الكتاب المعنون(الديكارتية: فصل جديد في الفكر العقلاني). الكتب المؤلفة والمترجمة عديدة وذات توجّهات معرفية متباينة يجمعها الاشتباك والتداخل المعرفي الكثيف الذي بات خصيصة مميزة للمباحث المعاصرة. ثمّة كتب في علوم اللغة(اللسانيات)، والعنف والارهاب، والهوية، والفكر والمعنى،،،. مائدة الدكتور المزيني عامرة بأطايب الفكر الرصين. لايمكن في هذا الشأن أن نتغافل عن كتابه المترجم(الغريزة اللغوية) لستيفن بنكر، وكذلك كتاب(هل بعضُ اللغات أفضلُ من بعض؟).
لم تكن الموضوعة الاستشراقية بعيدة عن تناول الدكتور المزيني حتى لو لم يُفرِدْ لها كتاباً من مؤلّفاته أو مترجماته. نشر الدكتور المزيني مراجعات مطوّلة ودقيقة للترجمة الرابعة لكتاب (الاستشراق) للراحل إدوارد سعيد والتي انجزها الدكتور محمّد عصفور، ثمّ أتْبَعَ هذه المراجعة بمراجعة أخرى لكتاب(أماكن العقل) الذي ألّفه تيموثي برينان، أحد طلبة سعيد في جامعة كولومبيا الامريكية. ظهر الكتاب مترجماً ضمن سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية بتوقيع الدكتور محمّد عصفور أيضاً. هاتان المراجعتان درسٌ تطبيقي في القراءة الدقيقة المرفقة بالشواهد التوثيقية، وهي تستحقُّ أن تسمّى مراجعات حقيقية في مقابل القراءات السياحية والانطباعية العابرة. عرفتُ من قراءاتي أنّ الدكتور المزيني أنجز ترجمة كاملة لكتاب (الاستشراق) لسعيد؛ بل أنه نشر مقدّمة الكتاب في ثلاث ترجمات لغرض المقارنة: ترجمة كلّ من (كمال أبو ديب) و (محمّد عناني) وترجمته هو. يبقى على القارئ أن يُعْمِل ذائقته وعُدّته الفكرية في إنتقاء ما يفضَلُ بين هذه الترجمات الثلاث. بقدر ما يختصُّ الامر بي فسأختارُ ترجمة المزيني، وأتمنّى أن تتاح الفرصة له لنشر ترجمته لهذا الكتاب بعد تسوية كلّ التفاصيل الاجرائية المعيقة بشأن حقوق ورثة أعمال سعيد. أتمنّى أيضاً أن يثرينا الدكتور المزيني بكتابات تعزز الموضوعة الاستشراقية بمساهمات محدّثة مثل (الاستشراق الجديد).
قلتُ فيما سبق أنّ الدكتور المزيني مبدعٌ بمواصفات رفيعة. سأكتبُ الآن في بعض الخواص التي تجعل منه على هذه الشاكلة:
أولاً: الاشتباك المعرفي interdisciplinarity
أميلُ بطبيعتي إلى الشخوص التي تعملُ في منطقة اشتباك معرفي بصرف النظر عن تخصصها الاكاديمي الاصلي. الاشتباك المعرفي صار عنوان العصر لأنّ دراسة المعرفة (الابتسمولوجيا) بكل تفريعاتها المعقدة لم تعُد مبحثاً فلسفياً تقليدياً مستقلاً بل صارت ضرورة عملية تفرضها التطورات المعاصرة في مباحث الذكاء الاصطناعي الذي صار ملعبة اشتباك بين الرياضيات والبيولوجيا وعلم النفس الادراكي واللغويات وعلوم التعقيد الاحتسابي،، ،،. أرى أنّ كتاب(المتخفّي Incognito: الحيوات السرية للدماغ) لمؤلفه ديفد إيغلمان - إلى جانب أعمال تشومسكي في اللغويات- علامةٌ بيّنةٌ على الخصيصة الاشتباكية المعرفية لدى الدكتور المزيني.
ثانياً: الشغف المتفجّر بالعمل
الدكتور المزيني لا يحبُّ الاعمال السهلة السريعة. هو يحبّ المطوّلات الرصينة التي تلمح فيها جهداً حثيثاً لا يستطيعه ولا يملك الاصطبار عليه سوى مَنْ جعل هذا النمط من الاعمال سلوكاً يومياً في قراءاته ومتابعاته المعرفية.
ثالثاً: العمارة اللغوية الدقيقة
عندما تقرأ للدكتور المزيني كتاباً أو حتى مقالة لن تفوتك تلك العمارة اللغوية الدقيقة التي يشيدُ بها بناءاته الفكرية. حتى علامات الترقيم مضبوطة ودقيقة بشكلٍ يكادُ المرء يتلمّسُ فيها أنّ صاحبها مسكونٌ بهاجس الكائن الساعي للإكتمال Perfectionest. يتجاوز الدكتور المزيني في عمارته اللغوية تلك التراثيات التي تثقلُ العبارة وترهّلُها، وفي الوقت ذاته لا يجنحُ نحو التيسير اللغوي السياحي تحت تسويغ التبسّط المعرفي. لغته تميلُ إلى الايفاء بالمعايير التي تبتغي - أولاً وقبل كل شيء – الدقّة الوظيفية العالية. أظنّ أنّ كلّ كتابة على هذه الصفة ستقترنُ بجمال وظيفي هو غيرُ الجمال الشكلي التراثي الكلاسيكي.
رابعاً: الهدوء والمسالمة
لو تسنّى لك رؤية الدكتور المزيني على شاشة التلفاز لن تفوتك أبداً تلك السمة الهادئة في شخصيته والنبرة الهادئة في صوته. يتحدّث بصوت خفيض، ويشي حضوره بشخصية أحبّت العلم والبحث، وهو أبعدُ ما يكون عن اشتهاء الاسباب الدافعة للاصطراع مع الآخرين كما هو حاصلٌ في كثير من مؤسساتنا الثقافية - وحتى الجامعية-. مَنْ ينصرفُ للعمل البحثي الرصين لا وقت لديه للمناكفة والسجالات الصراعية؛ لكن لنكنُ واضحين: هذا الهدوء وتلك المسالمة لايعنيان أبداً غياب الشجاعة عندما تكون ضرورة لازمة في ميادين بعينها. هذه الشجاعة الفكرية والثقافية قادت الدكتور المزيني إلى المحاكم. تلك حكاية يمكن لمن يرغب في الاطلاع عليها أن يستزيد من القراءة والبحث في جذورها ومآلاتها ونتائجها.
***
نشر الدكتور المزيني سيرته الذاتية المطوّلة (واستقرّت بها النوى) التي تقاربا الستمائة صفحة. تمنّيتُ لو أنّ نسخة ألكترونية تتوفّرُ من الكتاب لأنّي ما عدت أستطيعُ قراءة الكتب الورقية، وربما هذه تذكرةٌ لمدى أهمية شيوع النسخ الالكترونية من الكتب الورقية بالنسبة لمن لم تعد عيونهم تعينهم على قراءة الكتب الورقية. عندما تتعشّقُ السيرة الذاتية لشخصٍ ما مع السياق الثقافي والحضاري والتعليمي ومع الحراك المجتمعي الحاصل في بلده فحينئذ تكون أكبر من سيرة ذاتية. تصبح سيرة وذاكرة وعنواناً للتطوّر الفكري الشخصي المدفوع بزخم الارتقاء المجتمعي.
الاشارة إلى المثابات العالية في التأليف والترجمة -وعموم الاشتغالات الفكرية الاخرى- ضرورة عملية فضلاً عن موجباتها الاخلاقية. أنت عندما تشيرُ إلى مثابة عالية -مثل الدكتور المزيني- فإنّك توفّرُ على كثيرين جهداً شاقاً كالذي بذلته أنت سعياً للعثور على جواهر مخبوءة بين ركام الغثّ الكثير الذي يشيعُ في حياتنا الثقافية.