الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
برعوشا – بيروسوس: قراءة التاريخ بمعزل عن النص الديني
بقلم : د. حسين الهنداوي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

خصائص المنظور التاريخي للمؤرخ البابلي الرائد برعوشا (بيروسوس) نجدها معروضة بحيثياتها المختلفة، وبشكل واضح ومتكامل، في الجزء الاول من كتابه " الـ Babyloniaca، أو "تاريخ بلاد بابل". وهو منظور تطوري مبتكر في رأينا ودارويني قبل دارون بأكثر من الفي سنة اذا جاز القول، كما تفيد بذلك المقتطفات القليلة التي وصلتنا منه. فعن ولادة الحضارة البشرية كتب برعوشا ما يلي:

"في البدء ظهر البشر اول ما ظهروا في بلاد ما بين النهرين وكان ظهورهم بأمر إلهي لا قرار لهم فيه، وكانوا يعيشون حياة الدواب في حياتهم الارضية الاولى بلا حضارة ولا نظام. الا ان الالهة، لرئاسة اله الحكمة أيا/انكي، قرروا انقاذ البشر من حالة التوحش الاولى، باخراجهم منها الى حالة الحضارة التي كانوا مؤهلين لاكتسابها نظرا الى امتلاكهم موهبة العقل. ولتحقيق ذلك فعلا، قامت الالهة بارسال كائن ضخم وغير ارضي بجسد سمكة ورأس انسان اسمه اوانيس Oannes، فكان يخرج من البحر القريب من بلاد بابل (وهو البحر الأحمر على الأرجح) الى شواطئه القريبة منها ويقوم بتلقين عقلاء البشر مبادئ الحضارة الاساسية وتعليمهم علومها وهي: القراءة والكتابة والفنون والقانون والزراعة والمساحة والعمارة والهندسة والطب والفلك وعلم النجوم والتنظيمات الاجتماعية والسياسية وانظمة الحكم العادلة ومبادئ الحكمة والمنطق والعقائد والعبادات الدينية. ومع غروب الشمس كان اوانيس ينزل الى مياه الأعماق. ومعه هكذا بدأت مرحلة الحضارة الانسانية على الأرض".

وفي نص آخر منسوب الى المؤرخ البابلي نجد ما يلي:

"جاءت الى بابل من أماكن أخرى اعداد كبيرة من البشر، وكانت حياتهم كحياة البهائم حين استقروا في ارض الكلديين. وبعد نحو عام من ذلك، خرج كائن غريب ضخم من البحر الأحمر اسمه وانيس Oannes. وكان جسده الكامل على شكل سمكة ملصوق على رأسها رأس آخر هو رأس انسان، وكانت قدماه كاقدام الانسان ايضا. وظلت هيئته محفوظة في الذاكرة ويعاد تذكرها حتى عصرنا هذا. ذلك الكائن الحي نفسه كان يمضي أيامه بين الناس دون تناول أي طعام، يعلمهم الكتابة والعلوم وكل انواع المهن وانشاء المدن وبناء المعابد والشرائع والهندسة. كما كشف لهم كيف تتم زراعة الحبوب وقطف الفاكهة. وباختصار، فقد قدم لهم كل ما تتقوم به الحياة المتحضرة الى درجة من الشمول والدقة لم يوجد منذ ذلك الحين، أي شيء ذي شأن يضاف الى هذا الفصل. وعند كل غروب الشمس، كان ذلك الكائن البرمائي الغريب وانيس، يغوص في البحر حيث يقضي ليلته في الماء. وفي اوقات لاحقة كائنات أخرى مماثلة تظهر بين حين وآخر..".

هذه التصورات تتطابق في نظرنا مع نصوص بابلية أخرى مكتشفة حديثا، نجد في واحدة منها ان "آدابا" هو الذي يتولى نقل مبادئ الحضارة والحكمة الى البشر، بأمر ورعاية إله العقل أيا/إنكي. ومن الجدير بالذكر هنا ان اسم "آدابا" ورد في بعض المصادر البابلية والآشورية ً بصيغته "أوان" أيضا، ولعله اصل الاسم الذي استخدمه برعوشا كما ذكرنا ودعاه "أوانيس" للدلالة على واسطة انتقال الحكمة الالهية الى البشر. وتنص قصة آدابا في هذا الشأن على ما يلي في اللوح الاول:

"أعطاه إيا الحكمة كلها ليفسر مشيئة الآلهة،

ولم يمنحه الحياة الأبدية مع الحكمة

في تلك الأزمان، وفي تلك السنين،

بل جعله حكيماً وابناً لإريدو

فقد خلقه ليكون روحاً حافظاً بين بني البشر.

حكيماً كان، وأمره لا يعارضه أحد؛

وذكياً، فائق الحكمة، كواحد من الأنوناكي؛

ونقياً، طاهر اليدين،

وقيماً على المعبد وعلى الشعائر الدينية.

وعلى العموم، امتازت كتابات برعوشا بعدد من الخصائص يمكن اجمالها بما يلي:

- اعتماده الموضوعية والتدقيق، وعدم تقبل الامور بصورة عفوية، فمثلا تنسب الكتابات الكلاسيكية الجنائن الشهيرة الى سمير اميس، الا ان برعوشا ينسبها الى نبوخذ نصر، وهو الادق والذي يقال انه شيدها لزوجته الميدية لجعلها تعيش أجواء وطنها الجبلي.

- تقسيمه التاريخ الى ثلاث دورات زمنية، تتدرج في القدم معززة بالدلائل الموضوعية. وهو ما اظهرت النصوص المسمارية المكتشفة حديثا صحته من خلال صحة الكثير من المعلومات التي نسبت له. فعلى سبيل المثال جعل الطوفان حدا فاصلا بين حقبتين (ما قبل وما بعد الطوفان)، اعقبه بايراد قوائم بأسماء الملوك الذين حكموا قبل الطوفان وما بعده. صحيح ان الارقام التي قدمها لسنوات حكم ملوك ما قبل الطوفان مبالغ فيها مثلما هو الحال في النصوص المسمارية. بيد ان الارقام التي قدمها لسنوات حكم ملوك السلالة الكلدانية، جاءت متوافقة مع الارقام التي تقدمها النصوص المسمارية. ومنها قوله ان الملك عند احتلال كورش لبابل هو نابونائيد، اذ يتفق هذا مع الحقائق التاريخية. ونحن نتفق في هذا الشأن مع قول عالم البابليات جان بوتيرو: ان برعوشا "مؤلف جدير بالثقة دائما. لاننا نجد بسهولة في التراث الادبي السومري والاكدي ملاحظات عديدة تؤكد او تتوافق مع روايته للاحداث، او تجعلنا نستشف منها الثقة به، ولا يتردد بوتيرو في وصف مؤلفات برعوشا بانها "نفيسة جدا" انطلاقامن رصانة مؤلفها.

- محاولته في اقسام مهمة من كتاباته التاريخية الخروج من منهج المؤرخ الى منهج المفكر والسعي ضمنا الى بلورة وايصال مفاهيم نظرية عن قصة الخلق الخاصة بحضارته وكذلك عن معارف وعلوم البابليين العملية والنظرية بهدف نقلها الى اليونانيين وباللغة الثقافية اليونانية العليا السائدة ذاتها والتي كانت على درجة مهمة من التطور في استقبال المفاهيم النظرية.

وعلى العموم، صحيح ان ما لدينا من معلومات مؤكدة الى الآن، تفيد بان الانتقال من كتابة التاريخ انطلاقا من المعتقدات الدينية او الأسطورية الى كتابته اعتمادا على الاحداث الواقعية والنصوص المدونة ظهر في بلاد الاغريق منذ مطلع القرن الخامس ق.م، وتحديداً مع هيرودوت وتيوسيديد، ثم انتقلت الى أقطار الشرق القديم لا سيما العراق ومصر وبلاد الشام. بيد ان هذا لا ينفي حقيقة ان الكتابة التاريخية في الحضارات الشرقية تمتلك سيرورة تطور خاصة وموازية ومستقلة في محاولتها رؤية الأحداث الماضية والحاضرة بمعزل عن المضمون الديني. فمحدودية اطلاع مؤرخ كبرعوشا البابلي او مانيتو المصري على الكتابة التاريخية الاغريقية تؤكد بذاتها وجود تلك السيرورة لا سيما وانه بات من الثابت الآن وجود عدد من المؤلفين الذين باشروا في ثقافاتنا الشرقية نوعاً من الكتابة التاريخية المستقلة عن الأسطورة الى هذا الحد او ذاك لعل اشهر من وصلتنا آثارهم الى الآن هما برعوشا البابلي ومانيتو المصري اللذين عاصرا الفترة الهلنستية ومنجزاتها.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 02-04-2024     عدد القراء :  1053       عدد التعليقات : 0