ما أن تحل ذكرى إحتلال العراق في التاسع من نيسان من كل عام، حتى تنبري أقلام تمجّد الطاغية صدّام حسين وحزبه الفاشي وصولاته الدونكيشوتية، وأخرى تهلهل لهذه الذكرى وكأنّها نقلت العراق من بلد متخلّف الى بلد متطور على مختلف الصعد، فهل حقق الإحتلال الأمريكي للبلاد، أحلام الطرفين..؟ يقول بول بريمر في كتابه (عام قضيته في العراق) والذي سنعتمد بعض الفقرات من صفحاته لنرى إن كانت أوضاع العراق بعد واحد وعشرون عاما، تغيّرت مثلما وعدنا المحتلّون ومن يعتبر إحتلالهم تحريرا، وهل تحقّق قول بريمر وهو يقول لجورج بوش الإبن "لأنني أعتقد أنّ أميركا أنجزت عملا عظيما بتحرير العراقيين...؟" (1) وهل فعلا هزم الأمريكيون النظام البعثي الفاشي أم البلد بأكمله وهو يقول "لكنّنا هزمنا نظاما كريها، لا البلد"..؟(2)
سأحاول في هذه المقالة تناول بعض ما كتبه السيد بريمر في كتابه، والذي هو بالحقيقة ترجمة لسياسة الولايات المتحدة بالعراق بعد إحتلاله، ووعود جذّابة لتغيير ليس واقع العراق فحسب بل المنطقة بأكملها لما للعراق من دور محوري وموقع أستراتيجي كما تقول أمريكا وهي تغزو العراق وتدمّر بناه التحتيّة على ثلاثة مراحل، الأولى خلال حرب تحرير الكويت والثانية خلال فترة الحصار الذي دمّر الإنسان العراقي وأذلّه والثالثة خلال حرب "تحرير" العراق..
حول طبيعة الحكم بالعراق وأختزال السلطة بشخص دكتاتور كصدام حسين، يقول بريمر "وعلى غرار هتلر، كان صدام مقتنعا بأنّ القدر اختاره للعظمة"(3) ، وفي مكان آخر يقول "فنحن لم نرسل قوّاتنا الى نصف العالم الآخر لكي نطيح بصّدام حسين ونضع دكتاتورا آخر في مكانه"(4)!! واليوم وبعد واحد وعشرون عاما على إحتلال العراق، نرى أنّ هناك من يؤمن إيمانا كاملا بأنّ المشيئة الالهية هي من أختارته ليكون حاكما بإسم الله كونه مقدّسا ومعصوما، كما وإن أمريكا ومن خلال ما نعيشه اليوم كشعب ووطن، وضعت أكثر من دكتاتور مكان الدكتاتور الذي هرب الى حفرته القذرة كتاريخه وحزبه، والذي كان السبب الرئيس في دمار بلدنا لنرجسيته، ولتستمر مأساتنا ونحن نعيش عهد الفساد والسلاح المنفلت وتعدد مراكز القوى بالبلاد.
يعتبر العراق اليوم بلدا ريعيا بالكامل، إذ لا وجود لصناعات كانت موجودة في العهود العراقية المختلفة والتي أنهارت نتيجة حماقات النظام البعثي وحروبه والحصار الأمريكي للبلاد وتدميره البنى التحتية فيها . والدولة التي أراد بريمر ومن خلفه الإدارة الأمريكية بناء إقتصاد حديث لها ، لازالت اليوم كما النظام الإستبدادي البعثي من حيث الفساد، والتي كانت بسبب "إساءة تخصيص الموارد الرأسمالية العراقيّة بصورة متواصلة ومذهلة"، (5) فهل تغيّر الوضع اليوم ونحن شعب مستهلك ومستورد لكل شيء، كل شيء بمعنى الكلمة، وهل قامت سلطة الإحتلال وحكومات ما بعد الإحتلال بتخصيص الموارد الرأسمالية نتيجة إرتفاع أسعار النفط من جهة وزيادة طاقة الإنتاج من جهة ثانية، والتي تفوق موارد دول عديدة من حيث الناتج المحلي بشكل جيد ليتقدم البلد بشكل مذهل ومتواصل...!؟
لقد عزف بريمر على وتر ما جاء به وببلاده من أجله وهو يقول "إنّ من أولى أولوياتنا إعادة إنتاج النفط الخام والوقود ثانية"(6). وفي سياق وصفه لغرفة التحكّم بمصفى الدورة الذي زاره يقول: كانت غرفة التحكّم بمصفى الدورة في ضواحي بغداد تذكّرني بقُمرات القيادة الزائفة بمركبة الفضاء الصاروخيّة في المسلسل التلفزيوني "فلاش غوردون"الذي كنت أشاهده وأنا صبي: أذرع تشغيل وأجهزة قياس بخاريّة وأذرع تدوير يدويّة...!! (7) لقد أوصل ساسة العراق اليوم البلاد بأكملها الى قمرة قيادة زائفة من خلال مسلسل عراقي بائس تحت عنوان (الفساد والعمالة طريقنا للثروة)، والذي يتفنن العاملون فيه بنهب ثروات البلاد، إذ لا مكان حتّى لأجهزة قياس بخارية وأذرع تدوير يدوية متخلّفة اليوم، كون وجودها يعني وجود صناعة ولو بالحدّ الأدنى، وهذا ما لا نملكه بعد أن أنهارت الزراعة والصناعة وأصبحت بلادنا سوقا مفتوحة لبضائع ، السيء منها أكثر من الجيّد..
على الرغم من المداخيل الهائلة للعراق نتيجة عودته لسوق النفط بطاقة أنتاج عالية وأرتفاع أسعار النفط، فأنّه ليس بواحد من الأقتصادات الناجحة، كتلك التي كان عليها العراق في أوائل السبعينات كما يقول بريمر والذي أضاف قائلا: "وبلغ نصيب الفرد من الدخل القومي ذروته بما يزيد على 7.000 دولار في سنة 1980 ، وهو مع التعليم المجّاني والرعاية الصحية المدعومة ، ما جعل العراق بلدا متوسط الدخل ويحظى بالأحترام" قبل أن يبدد الدكتاتور البعثي ثروات البلاد بحروبه الداخلية والخارجية. واليوم وبعد واحد وعشرون عاما من الإحتلال، فأنّ التعليم والصحة والخدمات وعلى غرار عهد البعث كلّها منهارة، والبلد وهو يعيش تدخلات دول مختلفة لا يحظى بالأحترام، وسلطته لا تحظى هي الأخرى بإحترام الشعب العراقي.
المضحك المبكي هو أنّ بريمر يقول: "ذكرت للرئيس أنّ منح العراق بنية سياسيّة مستقرّة لا يتطلب إنشاء مؤسسات ديموقراطيّة فحسب، وإنمّا أيضا إنشاء ما أسميته مؤسّسات (إمتصاص الصدمة) التي تشكّل المجتمع المدني - الصحافة الحرّة، ونقابات العمّال، والأحزاب السياسيّة، والمنظمات المهنية". وأخبرت الرئيس "أنّ هذه المؤسّسات تساعد في وقاية الفرد من طغيان قوّة الحكومة"...!! واليوم نعيش عصر الصدمة وليس إمتصاصها، وقمع إنتفاضة أكتوبر وقتل الناشطين وملاحقتهم، وإستخدام العنف غير المبرر ضد الوقفات والأحتجاجات السلمية والتظاهرات المطلبية، من قبل الدولة وأذرع الميليشيات المسلحة التي تمتلك ثقلا سياسيا في البرلمان والحكومة، دلالة ليس على فشل الديموقراطية التوافقية التي جاء بها المحتل فقط، بل على فشل السلطة وأحزابها في بناء عراق مستقر ومزدهر. إنّ فشل السلطة في إجراء إحصاء سكّاني، وسنّ قوانين إنتخابية عادلة لتكون المنافسة حقيقية بين الأحزاب العراقية، وفشلها في سنّ قوانين تحكم أنشطة الأحزاب وتمنع في أن تكون لها فصائل مسلّحة تهدد بها الناخبين والمعارضين، هو وصمة عار في جبين الولايات المتحدة وجبين حكومات وأحزاب سلطات ما بعد الإحتلال...
("ذات ليلة، شرحت إستراتيجيّتي السياسيّة " السريعة – البطيئة" ووصفت ما دار في حديث مع الجعفري. "أعتقد من أنّه سيوقّع سيّدي الوزير") .
قال رامسفيلد: "جيّد يا جيري، كيف سيكون ردّ الآخرين"؟
فأجبته "لا أعرف على وجه التأكيد بعد، لكنّني أعتقد أنّهم سيركبون القطار أيضا"
صدقت ايها السيّد بريمر، فقطاركم كان دائما مليء بالركاب، والفرق فقط هو شكل ملابسهم وتاريخ وقوف قطاركم في محطّته....
لا يتم محو وصمة العار التي تؤطر حياة شعبنا ووطننا، من خلال صناديق إقتراع تتحكم قوى السلطة بآلياتها وتحدد مخرجاتها ونسبها ولا من مقاطعة الجماهير لها، بل بعودة الروح لإنتفاضة أكتوبر ومشاركة أوسع للجماهير فيها، فكل يوم إضافي من عمر السلطة، يعني مزيدا من التخلّف والإنهيار المجتمعي، وبالتالي إستمرار أوضاعنا الكارثيّة لعقود على الأقل.
(1) كتاب عام قضيته في العراق للسفير بول بريمر ص 15
(2) نفس المصدر ص 53
(3) نفس المصدر ص 55
(4) نفس المصدر ص 74
(5) نفس المصدر ص 86
(6) نفس المصدر ص 82
(7) نفس المصدر ص 82