وردت أسماء عديدة، قُيّد في سجلاتها، وظلت تتداول عبر التّاريخ، أنَّ الجنّ قد قتلت أصحابها، وبذلك لم يُحكم بالقصاص لهم. فالجنّ إذا قتلوا لا بد من أن يكون الحقّ معهم، فلعلة أقدموا على القتل، ومنها الإساءة الى رئيسهم، أو تدنيس أمكنتهم، أو شعر يُغنى يزعجهم.
كان أبرز القتلى بيد الجنّ الأنصاري سيد الخزرج سعد بن عُبادة (14-16هـ)، وجد ميتاً، أو مقتولاً في أرض حلوان، واعترفت الجنيات بقتله، بشعر صريح: "نحن قتلنا سيد الخزرج/ سعد بن عبادة/ رميناه بسهمين/ فلم نُخطئ فؤاده" (بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث). لم تقبل العدالة الدعوى، لأن هذا التّصريح غير كافٍ، فأغلقت قضيته "لعدم كفاية الأدلة".
لكن تداركاً لما قد يبعث الدّعوى، من جديد، بسعي الأبناء أو الأحفاد أو قبيلة الخزرج، وردت الشّهادة عليه أنه قُتل لذنب لم يُغتفر، ليظهر الحقّ من الجنّ، فالقتل بسبب أنه كان يبول واقفاً، وقيل عندما كان يغتسل في قرية في حوران، أو لأنه بال في جحر في منزلهم، وفي كل الأحوال لا دعوى على قاتل سعد، فمَن يضع الجنّ في قفص الاتهام، ويحاكمهم؟ كان سعد بن عبادة مرشحاً للخلافة عن الأنصار، وما نقرأ عنه من حدث السّقيفة (11هـ)، كان بين قريش (المهاجرين) والأوس والخزرج (الأنصار).
تداولت معظم كتب التّاريخ مقتل سعد بن عُبادة، واعتراف الجنّ بقتله، وكذلك رواية تنجيس منزل الجنّ الطّاهر، وانتهى هذا الرّجل العظيم الشّأن، في زمانه وبين قومه، بتهمة أنه كان "يبول واقفاً"، وبحسب عُرف قضاة "عدم كفاية الأدلة"، المقتول مذنب حتّى يثبت براءته، من جريمة تضليل العدالة، أمّا القاتل فبريء، لعدم توافر الأدلة.
قتلت الجنّ المغني الغرِيض، واسمه عبد الملك أبو زيد؛ كان أحد رؤساء المغنين شجي الغناء، حسنه "وحيد الْمَعْنى غَرِيب الأوزان، ويفخم الْأَلْفَاظ وَيعرف الصَّوَاب وَيُقِيم الْإِعْرَاب ويستوفي النغم الطوَال؛ وَيحسن مقاطع النغم الْقصار ويصيب أَجنَاس الْإِيقَاع ويختلس مَوَاضِع النبرات ويستوفي مَا يشاكلها فِي الضَّرْب من النَّقرات فعرضت مَا قَالَ على معبد فَقَالَ لَو جَاءَ فِي الْغناء قُرْآن مَا جَاءَ إِلَّا هَكَذَا"(الصّفدي، الوافي بالوفيات).
قيل في قتل الجنّ العَرِيض المغني بسبب أبيات شعر غناها؛ في تشييع مولاته "الثّريا"، فأبكى الأنس والجان، فحذرته الجنّ ونهته من النّواح، فتركت الحجاز بعداً من صوته إلى تهامة، لكنه لم ينته، فقتلته. الأبيات التي غناها الغريض وقتلته الجنّ عليها: "ألا يا عَينُ ما لكِ تَدْمَعِينا/ أمِنْ جَزَعٍ بَكَيتِ فتَعْذُرِينا/ أمَ أنتِ مصابةٌ تبكينَ شَوْقًا/ وشَجْوُكِ مثلُه أَبْكَى العيونا"(سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان في تواريخ الأعيان).
من ضحايا الجنّ جد مروان بن الحكم لأمه (تـ: 65هـ)، واسمع عَلقمة بن صفوان بن أُمية، ورد في تأكيد قتله من قبل الجنّ روايةً وشعراً، ورد في الخبر: "والعرب لا تختلف على أنّ علقمة بن صفوان بن أميّة بن حجر الكندي، جدّ مروان بن الحكم لأمّه، قتلته الجنّ".
أما قصة القتل فحصلت في معركة بينه وبين "شق"، وقد اعترض طريقه، وحصلت بينهما ملاسنة بالرجز. فقال علقمة: "شقّ ما لي ولك/ اغمد عنّي منصلك/ تقتل من لا يقتلك". فأجابه شقّ: "عننت أو عننت لك/ كيما أبيح مقتلك/ فاصبر لأمر حمّ لك". "فضرب كلّ واحد منهما صاحبه فخرّا ميّتين" (البكريّ، المسالك والممالك).
و"شق" هذا من جنس الجنّ، صورته على نصف صورة الإنسان، "يعرض للمسافر إذا كان وحده فربما أهلكه"، وهذا ما حصل مع علقمة بن صفوان (الزّمخشريّ، ربيع الأبرار ونصوص الأخيار). يعلق أبو القاسم محمود الزّمخشريّ (تـ 538هـ)، كونه معتزلياً، لا يطمئن لمبدأ "عدم كفاية الأدلة" بسهولة وسذاجة، قال عن هذا الخبر: "ورأيت للأعاريب من الأعاجيب في باب الجنِّ ما لا يوصف" (المصدر نفسه) .
كذلك يروى أنّ الجنّ قتلت حرب بن أمية، ولتبرئة قاتله وجعله من فعل الجنّ، جاء في خبره: قالوا: وقالت الجنُّ: "وقبر حرب بمكان قفر/ وليس قرب قبر حرب قبر"، لصعوبة لفظ هذا الكلام، فإنه من شعر الجنّ، فقالوا: "الدَّليل على أنه من شعر الجنّ؛ أنَّ أحداً لا يقدر أن ينشده؛ ثلاث مرات متصلة، من غير أنْ يتتعتع، ويقدر على تكرار أشق بيت من أبيات الإنس عشر مرات من غير تتعتع"(ربيع الأبرار).
لم يقتل الجنّ فقط، ففي ذروة الصّحوة الدّينيّة، صار الجنّ شهوداً، وحُكم بالقتل على من شهدوا عليه (أتينا بالتفاصيل في كتاب صرعى العقائد.. المقتولون بسبب دينيّ). فلا قيمة للأدلة وكفايتها، حتّى إذا اعترف القاتل بجرمه، وأمام العالم، فإنّ للجنّ رأياً آخر، يمكن أن يغير المعادلة ويحقق "عدم كفاية الأدلة". فقيل لمن قتلته الجنّ، أو قتله عشق النّساء "إلا اقتتل" (ابن قُتيبة، كتاب الجراثيم)، أي لا دعوى له، فشأنه شأن المنتحر، قاتل نفسه.
ليس الجنّ قتلةً أو منفذي القتل، إنما رُبطت بهم الأوبئة والطّواعين، فجاء في الأخبار "ويزعمون أنّ الطّاعون طعن من الشّياطين، ويسمون الطّاعون رماح الجنّ". فقال الأسدي للحارث الغساني: "لعمرك ما خشيت على أبي / رماح بني مقيدة الحمارِ / ولكني خشيتُ على أبي/ رماحَ الجنِّ أو إياك حارِ" (ربيع الأبرار).
قد يسأل سائل: وما هذا الهراء الذي تكتبه، أتريد إضاعة الدّماء، وتغييب العدالة، وتسويف ضمائر القُضاة، والهبوط بالعقل إلى هذا الدّرك؟! لا، ليس كذلك، إنما هذه الحقيقة، وإن استنكرها المعتزليّ الزمخشريّ، لا يعني عدم وجودها في عدالة الأمس واليوم. جمعنا أخبار ضحايا الجنّ كي لا يُصدم النّاس، ببيان تصدره العدالة تتهم فيه الجنّ علانيةً، فتأخذهم الدّهشة إلى حد الصّرع!
نعم، الجنّ وحدها قادرة على قتل ثمانمئة متظاهر عراقي، شقوا عصا الطّاعة على أولياء العدالة، والجنّ وحدها كانت تراقب هشام الهاشميّ، وتتعقب أثره، ومن اعترف بفعل ذلك فقد أصيب بالوهم، وضلل العدالة، أما سمعتم بعبارة "إِنَّ لِلَّهِ جُنُوداً مِنْ عَسَلٍ"(الكنديّ، كتاب الولاة وكتاب القضاة)، ولعمقها ذهبت مثلاً أو كناية "أنَّ للهِ جُنُوداً مِنْهَا العَسَلُ" (الميدانيّ، مجمع الأمثال).
هناك وليّ، خارج الحدود، قاض على قضاتنا، تعدت كراماته كرامات سليمان بن داود، في تسخير الكائنات، ومعلوم أنّ الجنّ والقضاة من الكائنات المُسخرة له. إنها العدالة ومقولتها "لعدم كفاية الأدلة"، وبهذا يسقط حقّ هاشم الهاشميّ، فالأدلة تؤكد قتلته الجنّ، والمقتول بغدارة الجنّ لا دعوى له مثلما شرعه الأولون، أي "إلا قتل".
اعترف أحمد المحمداوي بقتل الهاشميّ، وحكمته المحكمة، ثم برأته محكمة أخرى، وهكذا ظهر هشام الهاشمي متهماً بإزعاج القضاء وتضليل العدالة، وما كان اعتراف المحمداوي بقتل الهاشمي أمام الملايين، من المشاهدين والمستمعين، إلا سهواً وخطأً، صححته العدالة. فليرض آل الهاشميّ بقدرهم، فلا دعوى لمن قتلته الجنّ.