أتحدث شاهد عيان، لا مما كُتب وقيل، مِن هجاء ومديح، فما قرأته وسمعته، كان فرصة ومناسبة لمَن تراجع رصيده الفكري والسياسيّ والاجتماعي، في مصر أولاً، فمن السّهل أن تُكفر وتُزندق، وتُخون، وتسخر،
وهذا الرباعي لا يحتاج إلى فكر ولا روية، يحتاج فقط إلى خفةٍ في الضَّمائر، ومفردات نابية. لذا، التسقيط سهل، وإنّ كان هدفه طه حسين (تـ: 1973)، ونجيب محفوظ (تـ: 2009)، وحامد نصر أبو زيد (تـ: 2010)، وفرج فودة (اغتيل: 1992)، وحسين مروة (اغتيل: 1987)، وسواهم العشرات بل المئات.
حضرت ندوة “التّكوين” في القاهرة، والتي عُقدت يومي الرابع مِن أيار (مايو) 2024 والخامس منه، وشاركتُ في ندوتها “النقد الفكري قبول أم مواجهة”. شارك في هذه النَّدوة، وسواها مِن ندوات المؤتمر، آخرون مِن أصحاب الفكر، شباباً وشيبةً، لكن جميعهم يعدون مَن ذكرنا مكافحين في النّور لا في الظلمة، مِن الذين نالوا قسطهم مِن محاكم التفتيش، والإقصاء والاغتيال، والتفريق عن الزوجات، بدعوى الكفر، وهم لو كانوا أحياء، لتقدّموا الصف الأول في هذه النّدوة وغيرها، حيث قاعة المتحف المصريّ الحديث.
كان ضيف الشّرف طه حسين، مناسبة مرور 50 عاماً على رحيله (1973- 2024)، فما الذي يؤذي أو يُنفر مِن طه حسين؟! الذي كان عنواناً لمؤتمر “التكوين”. يبدو كان هذا الإشكال الأول، بعدها يأتي الاسم “التّكوين”، فقالوا: إنّه سِفر مِن أسفار الكتاب المقدّس - العهد القديم التّوراة، فمعنى هذا أنَّ المؤتمر ذو نكهة يهوديّة، وبالغ البعض وقال “صهيونيّة”. يا سبحان الله، وهل احتُكرت الألفاظ والمعاني، وما عاد لأحد استخدامها، وهي مثلما قيل على قوارع الطّرق والسكك؟ وهناك مكتبات ومؤسسات بهذا العنوان، ولم تثر انتباهاً، ولا فضولاً مَن تناولوا عنوان هذه المؤسسة؟
أتذكّر عندما جرى التّفكير بتغيير العَلَم العراقي، بعد 2003، ليعبّر عن حِقبة عراقية جديدة، تغادر العصبيات، على أشكالها، تقدّم المعمار رفعة الجادرجيّ (1926-2020) بتصميم للعلم الجديد، فرمز بشريط أزرق إلى الرَّافدين، دجلة والفرات، فقامت الضجة والشَّيطنة للجادرجي، على أنَّ هذا العلم يحاكي العَلَم الإسرائيليّ، وبالتالي لم يؤخذ به، وظل العلم العراقي بما اقترحه الإسلامي سوار الذهب (تـ: 2018)، على صدام حسين، نقش عبارة “الله أكبر”، كرمز للجهاد، بعد احتلال الكويت (الدليمي، “آخر المطاف”)، وما تغيّر هو كتابة العبارة بخط غير النّقش الأول.
آخر، وهو ابن رئيس سابق، لم يجد طريقة يغازل بها الإسلاميين، غير استغلال صورة مفبركة، أُخذت في الفندق وليس في قاعة المؤتمر، لجماعة مِن المشاركين، وعلى إحدى الطاولات وضعت علبة “ستيلا” المصرية، فربط ندوات “التكوين” بها، فصار اجتماعاً إباحياً، لكن ابن الرئيس هذا، يعلم أن “ستيلا” وغيرها مِن عهد والده، فعلامَ هذه المزايدة، والمغازلة لخصوم التنوير. مع أنَّ الثائر مِن أجل الدين نفاقاً، لم يحضر ندوات المؤتمر، كي يرى حقيقة ما حصل.
أما ما قيل عن أنّ “التكوين”، ولم أكن عضواً في أمانته، وهم مِن أبناء مصر والشّام، أنهم “ملاحدة”، وبالتالي أن “التكوين” مؤسسة إلحادية، هدفها هدم الإسلام، مثلما أراد طه حسين مِن قبل، وهو ضيف الشّرف، فهل صارت الأبحاث في التاريخ القديم، والأساطير، والتصوف، ودراسات في القرآن، إلحادية؟ نعم تكون إلحادية لأنّها مسّت الجماعات المتطرّفة المسيّسة، لا الدين نفسه، ومَن قال كل ما كتبه أعضاء الأمانة، وما كتبه الطاعنون بـ”تكوين”، كان صواباً، إنّها أفكار قد تُقبل وقد تُرفض، فإذا كل من تبنّى رأياً مخالفاً اتُّهم بالكفر والإلحاد، مثلما حدث في مناظرة معرض الكتاب في القاهرة، واغتيل فرج فودة بسبب التحريض، الذي أطلقه المحمدان عمارة والغزالي، لشُلت الألسن وكُسرت الأقلام، ولم يبق معنى وأهمية لـ”لا إكراه في الدين”، ولا لـ”وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ”، نقول هذا لمن يدّعون أنهّم الأحرص على الدين، وأنَّ كلَّ من خالفهم صار كافراً ملحداً.
هل كان كفراً عندما يُقال إنَّ القبول بين الأفكار، في التراث العربي الإسلاميّ، أقل كثيراً مِن المواجهة، وهل صار إلحاداً عندما يستشهد أحد المتحدثين، من على منصة “تكوين” بثلاث آيات تعطي حقّ الاختلاف: )لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة، آية: 48).
- (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُون) (يونس، آية: 19).
- (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(هود، آية: 118).
هل إلحاد وكفر عندما يُستشهد، من على منصّة “تكوين” بالقول المأثور، ومنهم من اعتبره حديثاً “اختلاف أمتي رحمة”، أو يُستشهد بقول للفقيه سُفيان بن مسروق الثّوري (تـ: 161هـ): “إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأما التّشدد فيُحسنه كلُّ أحد”، والرخصة تعني التفكير وتحترم الاختلاف. أو أن يرتقي المنصة أحد الأزهريين ويدلو بدلوه، فعلامَ هذه الحمية والغيرة الكاذبة على الدين، وأنتم لا تعجبكم هذه النصوص، ولو قدرتم لحذفتموها، ولكن جهدتم بتجميدها، بما تأسس من علم النَّاسخ والمنسوخ.
انتقد أحد المتحدثين، التشدّد الديني والإلحادي أيضاً، واعتبرهما مغذيين لبعضهما بعضاً، وحصل نقاش ثري في القاعة، على أنّ حرية الفكر لا تُجزأ، وما زالت لا تقوم بتفجير واغتيال، لك أن تؤمن أو تكفر، وهذا مشروع في آية قرآنية، لا تحتاج إلى تفسير وتأويل.
طرح هذا وغيره في ندوات “تكوين”، غير أنَّ ما أثير من ضجّة تخوين وشيطنة، لا صلة له بما حدث، فلو كان المؤتمر لعصائب وكتائب دينية، أو مؤتمراً لمفتين بالقتل، لجرى التسبيح له، لكن سوء حظه خصّ مثقفين، وقُدّمت فيه آراء لا فتاوى وقنابل، آراء ممكن الرّد عليها، لا، فهل كنتم عاجزين إلى هذا الحدّ، لا تملكون غير التجريح والتخوين وضجة الشّيطنة؟
إذا كانت هناك جهة أساءت إلى الدِّين، فهي الأحزاب والجماعات الدينيَّة السياسيَّة، التي جعلت مِنه سلّماً إلى السّلطة والثروة، وجلب الأتباع، لا مِن يريد إشاعة ثقافة العقلانيَّة، وما كانت البحوث تتناول الدّين، وتغور في الأُصول، لولا محاولات هذه الجماعات فرض أحكام خارج المنطق الفقهي نفسه، الذي يقول: «تتبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان»، فعندما تتساوى الأزمان، لا يتميز بين القديم والجديد، في إدارة الحياة، مِن المؤكّد يظهر مَن يقف إلى جانب الحياة، وما قُدم مِن على منصّة «التكوين»، لم يخرج عن هذا المطلب.
أقول: مِن حقّ المثقفين، على مختلف توجّهاتهم واهتماماتهم، أدباء وباحثين ومؤرخين وفنانين وشعراء، وقوى الأنوار كافة، قول كلمتهم في مواجهة الواقع المريع، الذي تفرضه قوى الظلام والموت، عقود وهم يتلاعبون بعقول النَّاس، دمّروا التّعليم، وفرضوا ثقافة التّخلف، بصحوات دينيَّة، أشيعت فيها الطائفيَّة والأوهام، ومغيبات العقل كافة.
اختلفوا مع “تكوين” أو غيرها، وهناك مِن التنويريين، اختلفوا مع هذه المؤسسة، التي لم تلد بعد، فقد ظهرت في ندوة لا أكثر، لكن لماذا الأكاذيب والتحشيد، باستغلال الدّين؟! لماذا تجعلون مِن الدّين بضاعة لتجارتكم، مرّة باسم “الإصلاح”، وأخرى باسم “الخير”، وتريدون من الآخرين السُّكوت، والانصياع لتخويفكم، وتهديدكم بالتّكفير!
كنتُ رصدت في كتاب “صرعى العقائد... المقتولون بسبب ديني في الماضي والحاضر” (مركز المسبار- دبي، ودار المدى- بغداد) المئات مِن الفلاسفة، والأدباء والشعراء، وأهل التصوف، ومِن رجال الدّين أنفسهم، ثغبت دماؤهم مِن عروقهم، بسبب كلمة أو بيت شعرٍ، أو فكرةٍ، وأسبابٍ مختلفة، فهل تريدون استمرار هذا الواقع، باختطاف الدّين مِن قبلكم؟ والمطلوب السُّكوت على سفك الدِّماء باسم الدّين.
نعيد القول ونؤكّده، إذا كانت هناك مسؤولية في الإساءة إلى الدِّين فيتحمّلها الإسلام السّياسي، في منظماته السّرية والعلنية، وممارسته السُّلطة في أكثر مِن بلد إسلاميّ، لا جماعة، لا تملك غير الكلمة، تقولها في وضح النهار، فاعتبروا العلمانيّة كافرة، لأنّها لا تريد تمكين الجماعات الدينية مِن السُّلطة، ولا تقرّ أنَّ السياسة عبادة، شأنها شأن الصّلاة والصّيام، ومَن لا يسير في هذا الاتجاه فدمه غير معصوم عند تلك الجماعات.
ما لا تريد الجماعات العقائديَّة فهمه، والتَّسليم به، أنَّ زمن التخوين انتهى، مِن قبل اليمين واليسار، على حدٍّ سواء، بضاعة بارة في خاناتها، ظل يتناقلها الذُّباب الإلكترونيّ، لا تغني ولا تسمن، وإذا كنتم تدّعون المعصوميَّة، باسم الدِّين أو القومية، فلا عصمة في الثقافة ولا الفكر، وهذا ما نقوله لأهل “تكوين” أو سواهم أيضاً.
إذا كنتم ترون مِن حقّكم في النّيل مِن الآخرين، بالتّكفير وسفك الدّماء، لأنكم تملكون الحقّيقة دون غيركم، والحاكميّة الإلهيّة مختصة بكم، فلمن يقع عليهم العبء، طريقه في الدِّفاع عن الحياة، ولا حاجة للضجة والشّيطنة.
ختاماً، أقول: سقى الله مِن شيّد العُمران، وعزَّ شعبه، بروعة البنيان، بتحقيق مقولة “الدّين لله والوطن للجميع”، وهل قال “تكوين” أكثر مِن هذا، وهل طلب المحتفى به طه حسين أقل مِن هذا؟! فعلامَ ضجّة التخوين والشّيطنة، والقصة كاملةً آراء تصيب وتخيب، قيلت في باحة التّاريخ حيث المتحف المصريّ، وكانت الأبواب والنَّوافذ مفتوحة، على مصاريعها، خالية مِن أجواء بيعة لمرشد أو لولي، على حساب الأوطان.
ما حصل كان خطيراً، وربَّما بسبب ضجّة التَّكفير والتزندق، لمجموعة من المثقفين، المصريون منهم على وجه الخصوص، سيتكرّر ما حصل لنجيب محفوظ، أن يتقدّم أحد الجهلة لقتله، لأنّه سمع أنّه كافر، فعندها من يحمل جرائم القتل، التي قد تطال الشخصيات المشاركة، فالمجتمع بجهود الإسلاميين صار مؤهّلاً لمثل هذه الأفعال الانتقامية؟!