الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
تفعيل الأجهزة القضائية المختصة بقضايا المال العام والأجهزة الرقابية

تحرص المجتمعات وخاصة الديمقراطية منها على كفالة الخصوصية ، وتعتبره حقا مستقلاً قائماً بذاته ، ولا تكتفي بتشريع القوانين لحمايته بل تسعي إلى ترسيخه في الأذهان ، وذلك بغرس القيم النبيلة التي تلعب دوراً كبيرا وفعالاً في منع المتطفلين من التدخل في خصوصيات الآخرين وكشف أسرارهم . ولقد حظي هذا الحق باهتمام كبير سواءً من جانب الهيئات والمنظمات الدولية أو من جانب الدساتير والنظم القانونية ، فعلى الصعيد الدولي نجد أن هذا الاهتمام يبرز في صورة اتفاقيات دولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 217 المؤرخ في 10/12/1948 م في المادة (12) منه. لذلك ينبغي تفعيل العلاقة بين الأجهزة القضائية المختصة بقضايا المال العام والأجهزة الرقابية مثل الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة والهيئة العليا للمناقصات والمزايدات. وإستمرار التحري وجمع الأدلة لفترة طويله، مما يؤدي إلى تميّع القضايا الجنائية وهروب البعض قبل المحاكمة. و تشتمل الأنظمة القانونية المختلفة بما فيها النظام القانوني العراقي على مجموعة قوانين تهدف لحماية المال العام إبتداءً من حماية المنابع الأقتصادية والتي تُمَثِّل الجهات الأيراديه والثروات الوطنية المختلفة التي تحقق عائداً للدولة وتهدف الدول من خلال هذه التشريعات ضمان تحصيل كافة الأموال العامة ووصولها إلى الخزينة العامة للدولة والأشراف على عملية استثمار الموارد الناتجة من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن ومنتجات القطاعات الأخرى من الموارد الأقتصادية للبلاد كما تشتمل الأنظمة القانونية على قوانين رقابية وإجرائية وعقابية لحماية المال العام من الأختلاس والنهب أو التلاعب بمقدرات الشعب.

ولذلك تتسم المكافحة الفعّالة للجريمة الاقتصادية والمالية بأهمية حاسمة للتنمية المستدامة وبناء المؤسسات. والإجرام الاقتصادي يعني الأفعال الضارة الاقتصادية والتي يتولى القانون تحديدها لحماية مصالح البلاد الاقتصادية . فثمة نصوص تهتم بحماية النظام الاقتصادي في مجال الأنشطة المختلفة ومن أهمها حماية الأموال العامة والخاصة من العبث أو امتلاكها خِلسة أو حيلة أو عنوة، وتحقيق أرباح غير مشروعة، أو بتوجيه سياسة الدولة لتحقيق مصالح ذاتية ومن بين تلك الجرائم الضارة بالمصلحة العامة إستغلال الوظيفة العامة لتحقيق أغراض شخصية عن طريق الرشوة والتربُّح وإستغلال النفوذ لتحقيق مصالح ومنافع وميزات شخصية. ولمّا كان القانون الجنائي يهتم بحماية المصالح الأساسية للمجتمع الإنساني فإن من أهم هذه المصالح حماية المال من جرائم الاعتداء عليه سواءً كان المال عامًا أو خاصًا. وباستقراء نصوص التشريعات الاقتصادية تتضح سياسة المشرِّع تجاه حماية المال العام من العبث بوصفه جرمًا جسيمًا، وتطبيقًا لذلك فقد نص المشرِّع المقارن على جرائم اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر والاستيلاء عليه بأي صورة أخرى، ومن بينها أيضًا تقاضي عمولات عن صفقات أو غير ذلك من الأفعال، وقد فرضت عقوبات جسيمة لمنع العبث بالمال، ومن أهم الجرائم الاقتصادية جرائم الفساد واختلفت النظم السياسية في شأن محاسبة المسؤلين السياسيين وكبار الشخصيات في حالة انحرافهم بالمسؤلية المنوطة بهم وفساد ذممهم .. إذ تجنح بعض النظم إلى الاكتفاء بالتطهير أو الجزاء الإداري والإقالة في حالة الاتهام بالانحراف والفساد. بينما تأخذ دول أخرى بنظام الجمع بين العقوبة الجنائية والجزاء الإداري مهما كان مركز الجاني الوظيفي وذلك إعمالاً لمبدأ " سيادة القانون" الذي يُعتبر أصلاً من الأصول التي تقوم عليها الديمقراطية.                

هيئة النزاهة العامة كمؤسسة رقابية معاصرة لها اهميتها القانونية والسياسية والاجتماعية ، تكون في اشد الحاجة الى مجموعة التفاعلات والجهود والانشطة والبرامج المتواصلة مع كافة العاملين في الوزارات والمؤسسات من جهة ومع المجتمع ككل من جهة اخرى ، وكل ذلك لايتوفر الا بوجود ادارة حقيقية وفاعلة من العلاقات العامة التي لها اهميتها الكبيرة في بناء اسس راسخة من المبادئ الخاصة بالنزاهة وتوعية المفسدين باتباع المنهج السليم الوطني بعيدا عن الممارسات المشبوهة في ممارستهم للسلطة الممنوحة لهم ، وبصورة عامة تنبع اهمية العلاقات العامة في مكافحة الفساد الاداري والمالي وفي دعم مبادئ النزاهة من خلال الوسائل والاساليب المتبعة في التخطيط لبرامج العلاقات العامة في الهيئة ومتابعة تلك الخطط في ضوء دراسات وبحوث علمية رصينة معتمدة على القياس والتحليل الاحصائي والعلمي للاسباب والمسببات وتشخيص مواقع الخلل والتعثر الوظيفي للعاملين في الوزارات والدوائر الحكومية وغيرها. مؤسسات النزاهة ومكافحة الفساد هي مؤسسات رقابية تتحقق من عدم النزاهة وتكافح الفساد وقائياً وواقعياً، لكنها ليست الجهة التي تحقق في مجرياته وتطالب بإجراءاته الجزائية، وإنما ذلك مناط بجهة مختصة هي هيئة التحقيق والادعاء العام (النيابة العامة) التي يفترض أن تكون فيها دائرة خاصة للتحقيق في قضايا الفساد من خلال قضاة التحقيق المأهلين معرفياً في تشكيلات الفساد وتطوراته. أما الجهة العقابية فهي العدالة القضائية من خلال المحاكم الإدارية والمحاكم الجزائية، التي يفترض أيضاً أن تكون فيها دوائر خاصة بقضايا الفساد في كل درجات التقاضي الابتدائي والاستئناف.      

الفساد يعني سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة وأن الفساد الإداري يحتوي على قدر من الانحراف المتعمد في تنفيذ العمل الإداري المناط بالشخص ، غير أن ثمة انحرافاً إدارياً يتجاوز فيه الموظف القانون وسلطاته الممنوحة دون قصد سيء بسبب الإهمال واللامبالاة ، وهذا الانحراف لا يرقى إلى مستوى الفساد الإداري لكنه إنحراف يُعاقب عليه القانون وقد يؤدي في النهاية إذا لم يُعالج إلى فساد إداري. الفساد الإدارى يُمثل أهم المشكلات والصعوبات التى تعترض برامج وخطط التنمية وأن آثار الخطط السلبية لا تقتصر على المجتمعات النامية بل تمتد إلى كل المجتمعات إلاّ أن الفساد الأدارى يكون أكثر أثراٌ فى المجتمعات النامية والتى تعاني من ضعف البنيان المؤسسي وغياب المشاركة الديمقراطية وتُعتبر ظاهرة الفساد والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ إبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة بالإهتمام في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، كذلك تم تعريفه وفقاً لبعض المنظمات العالمية حتى أضحت ظاهرةً لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها . وتحرص كل الدول على اختلاف حجمها ومستويات نموَّها على إنشاء مؤسساتها الخالية من الفساد والترهل الوظيفي ، كما تحرص أيضاً على تطوير هذه المؤسسات من آن لآخر لقناعتها بأهمية الدور الذي تقوم به دوائر ومؤسسات الدولة ،في نقل الدول إلى مراحل متقدمة من النمو. ويُمثل الفساد قضية اقتصادية واجتماعية وسياسية ، ويترتب على الفساد خلل فى الكفاءة الاقتصادية ، نظراً لما ينتج عنه من سوء تخصيص الموارد الاقتصادية وسوء توجيه الاستثمارات ، فضلاً عن إعاقة الاستثمارات والتراكم الرأسمالى ، ومن ثم ، يعوّق عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، بالإضافة لما يترتب عليه من خلل فى توزيع الدخل والثروة بين أفراد المجتمع ، فضلاً عما يترتب عليه من عديد من الآثار السلبية اجتماعياً وسياسياً وتعوّق تلك الآثار عمليات الإصلاح ، ولذا أصبحت قضية الفساد من القضايا التى تشغل بال الجميع ، نتيجة لزيادة حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل من قبل.            

وسلامة الاقتصاد الوطني عامـل أساسي فـي إستقرار الحيـاة السياسية والاجتماعية ، إذ يوفر التوازن بين الإمكانات والرغبات مما يعطي للسياسة مفهومـها الأصيل . و قد تأثرت حيـاة الفرد إلى درجة كبيرة بالتطور الاقتصـادي والصناعي ، فتطور نهج حياته ، كما تطورت علاقاته الإنسانية ، فَرَضَت بذلك أنماطاً جديدة من السلوك والمواقف ، و قد إتصف بعضها بالتسلط و المادية المُطلقة بحيث أصبح هاجس الربح سائداً بغض النظر عن المساويء الناتجة عن العمليات المؤدية إليه أو الأصناف المنتجة و أصبح الإنسان اليوم يسيطر على قوى الطبيعة وتحويلها إلى خدمة لمصالحه اليومية بصورة لم يعهدها من قبل. و كانت قد برزت في القرنين الأخيرين مجموعات من أصحاب النفوذ المـالي بَدَت كعنصر فعـّال على الصعيدين المحلي والدولي بإمكانها شـراء بعض ممثلي الدول وزجَّهم في مصـالح اقتصادية محضة و يتجلى ذلك في بعض الفضائـح التي تحدثت عنها الصحف و تداولتها وسائل الإعلام حـول الصفقات التجارية غيـر المشروعة بيـن بعض الشركات وبعض الأفـراد الذيـن يمثلون الإطر السـامية و النافذة في تلك الدول .

يعتبر تبييض الأموال أو غسيل الأموال مـن التعبيرات التي تداولت مؤخراً في كافة المحافل المحلية و الإقليمية و الدولية. لقد عمد الغاسلون إلى تبديل الأوراق النقدية من فئات صغيرة إلى كبيرة كما يعمدون إلى إبدال النقود إلى شيكات مصرفية، أيضاً يتم التخلص من السيولة بشراء العقارات والشقق والفنادق والمجوهرات الثمينة والتحف الأثرية واللوحات باهظـة الثمن. كما يقوم البعض بشراء الشركات والمؤسسات الخاسرة، وشـراء الأسـهم والسندات، كما تؤدي شركات الصيرفة دوراً مهماً في عمليات تبيض الأموال. وغسيل الأموال هي عبارة عن مجموعة من الإجراءات المالية التي يقوم بها الأشخاص الحاصلين على مبالغ ماليّة بطرق غير مشروعة، وذلك بهدف إضافة الطابع الشرعي على هذه الأموال وإخفاء مصدرها الأصلي غير القانوني، وكلّ من يساعد في هذه العملية يعتبر مخلّاً بالقانون ويندرج فعله تحت ما يعرف بجريمة غسيل الأموال، وأكثر الأموال التي يعتمد المجرمون على غسلها تلك التي يحصلون عليها نتيجة التجارة في المخدرات. وقد يعمد غاسلوا الأموال و بالذات في العمليات الدولية الكبرى والمُنظِّمة إلى إنشاء شركات أجنبية صورية يطلق عليها في بعض الأحيان الشركات الصورية وهذه الشركات لا تنهض بالأغراض المنصوص عليها في عقود تأسيسها أو أنظمتها الأساسية بل تقوم بالوساطة في عمليات غسيل الأموال غير النظيفة و عادةً ما يصعب تعقب النشاط غير المشروع لهذه الشركات وخاصة إذا كانت تقوم في ذات الوقت بجانب من العمليات المشروعة وعلاوة على ذلك فإن هذه الشركات لا تخضع في بلاد كثيرة لنفس درجة الرقابة التي تخضع لها. وتؤدي عملية غسيل الأموال أيضاً على حصول أصحابها على دخول كبيرة دون أن يقابلها زيادة في إنتاج السلع والخدمات في المجتمع مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. وإذا أضيف إلى ذلك نقص معدل الادخار و نقص إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم فإن ذلك يساهم في زيادة عجز موازنة الدولة و بالتالي ارتفاع الأسعار. وعلى المستوى الدولي تساهم عمليات تبييض الأموال على تصدير التضخم من الدول الصناعية المتقدمة على الدول النامية بسبب خروج أموال ضخمة من الدول النامية إلى الدول الصناعية المتقدمة التي يشعر أصحاب الأموال القذرة أنها أكثر أماناً لأموالهم. مع وجود تيار كبير في الدول الصناعية لا يصاحبه زيادة في العرض السلعي فإن ذلك قد يؤدي – في ظروف معينة - إلى حدوث تضخم في الدول الصناعية و لما كانت الدول النامية تعتمد على الدول الصناعية بنسبة عالية من حجم تجارتها الدولية فإن ارتفاع الأسعار في الدول المتقدمة يعني الزيادة في أسعار السلع التي تستوردها الدول النامية و بالتالي ارتفاع الأسعار فيها(1). وهنالك نمو متزايد في الاستثمارات الاجنبية الخاصة في الدول النامية خلال العقود الماضية ، وقد إرتبطت الشركات المتعددة الجنسية بالاستثمار الاجنبي في عمومه والمباشر منه بوجه خاص . وما يجدر ذكره ان هذه الشركات لا تعمل في مجال التنمية فالهدف هو تعظيم الربح ، لذلك فان غالبية توجهها نحو الدول سريعة النمو في جنوب شرق آسيا ، فهي دائما تبحث عن افضل ربحية وغير معنية بالقضايا التنموية ، الفقر والبطالة وان كانت تحمل معها تكنولوجيا الانتاج ، وانماط واساليب ادارية وترتيبات تسويقية واعلانية فهي مؤهلة لأنشطة لا تخدم الطموحات التنموية للدول التي تعمل فيها. وقد اصبح لها مواقع عالمية تبحث عن الفرص في اي مكان بالعالم ، ولدى بعضها حجم مبيعات يزيد عن الناتج المحلي الاجمالي لكثير من الدول ، وفى هذا الاطار قد تتعارض مصالح هذه الشركات مع علاقاتها بالدول المضيفة ، وتنمو بمعدلات اكبر من معدل نمو الصادرات ، والقوة الاقتصادية في الشركات الصناعية الاساسية الناتج عن حجمها الهائل وقوتها الاحتكارية في السوق يكسبها قدرة فرض الاسعار وجنى الارباح من خلال منع المنافسين والسيطرة . لا تخلو عمليات تبييض الأموال من تدفق نقدي إلى تيار الإستهالك سواء في حالة الغسيل عبر البنوك أو القنوات المصرفية أو عن طريق الذهب والسلع وغيره، وهذا يعني الضغط على المعروض السلعي من خالل القوة الشرائية لفئات يرتفع إليها الميل الحدي للاستهلاك وذات نمط استهلاكي يتصف بعدم الرشو ة أو العشوائية، ولا تقيم وزناً للمنفعة الحدية للنقود، وال تقارن بينها وبين المنفعة الحدية للسلع والخدمات المعروضة في الأسواق. بذلك تساهم عمليات تبييض الأموال في ارتفاع المستوى العام للأسعار أو حدوث تضخم من جانب الطلب الكلي في المجتمع مصحوباً بتدهور القوة الشرائية للنقود، ونظراً لأن عمليات تبييض الأموال وما يرتبط بها من حركة الأموال عبر البنوك المتعددة، ومنه المساهمة بشكل ملحوظ في التوسع في السيولة الدولية ومن ثم تؤدي إلى حدوث ضغوط تضخمية.                      

------------------------

   صقر بن هلال المطيري، مذكرة ماجستير حول جريمة غسل الأموال، الرياض،دراسة حول مفهومها ومعوقات التحقيق فيها وإشكاليات تنسيق الجهود الدولية لمواجهتها ، 2004، ص58

  كتب بتأريخ :  الخميس 30-05-2024     عدد القراء :  939       عدد التعليقات : 0