الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
اجتماعُ الحواس بالمعرفة

في تسعينات القرن الماضي وحتى ما قبل 2003 كنتُ أتمنى أن تكون قناة بي بي سي الثقافية (Cultural BBC) هي القناة الوحيدة التي تتاحُ لي مشاهدتها. ظننتها كافية لتكون بديلاً عن كلّ القنوات التلفازية في العالم. لم تكن خصيصتها الثقافية هي السبب الأوحد؛ بل أنّ وثائقياتها المميزة هي التي حبّبتها لي وجعلتها أثيرة لديّ.

الوثائقيات Documentaries تطوّرت منذ التسعينات كثيراً وبلغت حدوداً جعلت القائمين على أمر بعض الفضائيات العالمية يختصونها بقناة منفردة. أظننا لن نتناسى الجزيرة الوثائقية، وثائقيات BBC، وثائقيات ناشيونال جيوغرافك، وثائقيات القناة الالمانية DW، وربما أحدثُها قناة الشرق الوثائقية.

المعرفة الانسانية تفجّرت في عالمنا المعاصر وبلغت تخوماً غير مسبوقة، ولو أننا اعتمدنا مقارباتنا السابقة في الاعتماد على القراءة الشخصية وسيلة وحيدة في فك بعض مغاليق هذه المعرفة فسينتهي بنا الامر لخذلان كبير. القراءة الشخصية عنصر مهم بالتأكيد لكنه ليس كافياً بسبب المحدوديات المقترنة به من حيث عناصر الزمن والطاقة البشرية الفردية. الزمن ليس هبة مجانية لنا مفتوحة النهايات، وكذلك طاقتنا البشرية؛إذ نحنُ في النهاية لسنا ماكنات قراءة تعمل على مدار الساعة. هناك عنصر آخر شديد الاهمية كذلك: القراءة الكلاسيكية تعتمدُ العقل وسيطاً أوحدَ في مساءلة المقروء، والعين ليست سوى ناقل للمعلومات. لم تشهد الكتب طفرات إخراجية وابتكارات لونية تُبهجُ العين والقلب إلا في عقود قليلة مضت.

إنتبهت الحكومات إلى هذا السيل المتفجّر من المعلومات، ومثلها فعل الافراد؛ فكان إعتماد السلاسل المعرفية من قبل جامعات رصينة -وكذلك بعض دور النشر العالمية- واحدة من وسائل التعامل المعقولة والممكنة مع هذا التفجر المعلوماتي؛ لكن تبقى المحدوديات المرتبطة بفعل القراءة حاكمة حتى مع هذه السلاسل المميزة.

الوسيلة الثانية للتعامل مع حمم البركان المعرفي هي إعتمادُ الوثائقيات الرصينة المخدومة بسيناريو معدّ بعناية. الوثائقيات ليست بدائل عن القراءة المعمّقة في حقل معرفي محدّد؛ لكنها بالتأكيد بدائل ممكنة عن القراءة في حقول معرفية لم نتصوّرْ يوماً أننا سندلفُ أبوابها بأي شكل من الاشكال. من جانب آخر تدفعنا الوثائقيات بسحر إخراجها وثرائها المعرفي إلى إعمال عقولنا وحواسنا وقلوبنا معاً بدلاً من إلقاء العبء كله على العقل (الدماغ البشري). بكلمات أخرى: تساعدنا الوثائقيات على تنشيط حواسنا التي كانت مهملة فيما سبق أثناء عملية التعلّم. هي متعة وفائدة إذن، وهذا هو المطلوب. لا معنى ولا تسويغ مقنعاً لأن تقترن عملية إكتساب المعرفة بحتمية الاجهاد العقلي، وليس من تسويغ لجعل منسوب الاجهاد العقلي دالة لجودة المعرفة وغناها وثرائها. يمكن أن نتعلم الكثير عن طريق عيوننا وقلوبنا وحواسنا. العقل لن يغيب عندما تشتغل العيون والقلوب والحواس. العقل حاضر دوماً وأبداً.

أتابعُ هذه الايام قناة الشرق الوثائقية بكثافة، وثمة ما يغري لمتابعتها: جودة صورتها وألوانها البديعة، وموضوعاتها الثرية متعددة الاهتمامات. تابعتُ قبل بضعة أيام الجزء الاول من وثائقي يحكي قصة الرأسمالية الامريكية وصعود الاثرياء الجدد. ما أبدع ما شاهدت!! كذلك تابعتُ وثائقياً يحكي عن سياسات بوتين الجديدة في منطقة القطب الشمالي. امتدّ الوثائقي قرابة الساعتين، الساعة الثانية منها خصّصها الوثائقي لمعايشة عوائل روسية تعيش في مناطق بعيدة على تخوم القطب الشمالي. الحياة هناك لها قوانينها الخاصة التي لا نتخيلها : كيف يحصلون على الطعام اللازم لتدفئة أجسادهم؟ ماذا يأكلون وكيف يتنزّهون؟ مدارسهم كيف هي؟ وتفاصيل أخرى مثيرة.

أشعر بنفسي ممتنة كثيراً للوثائقيات وصانعيها بمقدار امتناني للكتب ومؤلفيها. تعملت الكثير من الوثائقيات عن الصواريخ والطائرات والتقنيات والحواسيب ومجاهل كثيرة في هذا العالم فضلاً عن شخصيات عالمية عديدة. لديّ همسة أخيرة لكلّ من يشاهد الوثائقيات: لنجرّبْ أن نشاهد وثائقيات في غير نطاق اهتمامنا المهني، ولنسترخِ عند مشاهدتنا لها. لنجعلْها فسحةً للمتعة والتعلّم وتشغيل الحواس المعطّلة.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 03-06-2024     عدد القراء :  1488       عدد التعليقات : 0