رغم أنّ لغة العصر الحديث لم تعد تتحمّل التعامُل مع الإنسان على أساس ديني أو مذهبي أو حتى عرقي، حيث وضعت المجتمعات المتطورة بديلاً راقياً للتعامل فيما بينها، ألا وهو المواطنة الجامعة التي ترتقي على كلّ ما ذكرته، وتكون نسيجاً متماسكاً منتمياً لوطن واحد تنضوي تحت خيمته كلُّ المكونات بمستوى واحد، صغيرة كانت أم كبيرة.
أقول ذلك وأنا أطرح مسألة الكوتا على أساس ديني وعرقي بغياب مفهوم المواطنة، حيث تشعر المكوّنات الصغيرة بالغبن والتهميش في خضم عملية ديمقراطية غير مكتملة، وتعتمد على وسائلَ قبليةٍ وتأثيرات دينية أو مذهبية لحصاد أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، وإزاء ذلك، ومعالجة لهذا الشعور في اول تطبيق ديمقراطي فيدرالي ذهبت النخبُ السياسيةُ إلى منح تلك المكونات تسهيلات تضمن لها عدد من المقاعد بصرف النظر عن التنافس العددي، وايمانا بأن هذه المكوّنات الصغيرة الحجم في عددها والكبيرة في تاريخها وأصالتها، تمتدُّ جذورُها في هذه البلاد ربما أقدم بكثير من المكونات الكبيرة أو الغالبة، لكن الصراعات وخاصة حروب الإبادة الدينية والمذهبية والعرقية حوّلها عبر تاريخ التعايش الأسود في هذه المنطقة إلى مكونات صغيرة الحجم لما تعرّضت له من عمليات تصفية وتغيير ديموغرافي وإذابة منظّمة في بوتقة القومية والدين الأكبر، ولذلك اقترحت بعض النخب منحها هذه الكوتا كتعويض متواضع جداً عمّا جرى لها عبر التاريخ.
في غالبية البلدان المتحضرة والمتعددة المكونات تمنح (الأقليات الأصلية) امتيازات تُشعرها بالاهتمام الكبير بما يكرس الفخر بماضيها وعراقتها، كما انها تمنح المهاجرين اليها فرص تبوء اعلى وارفع مستويات المناصب في رئاسة البلاد أو رئاسة الحكومات أو البرلمانات كما في أمريكا وبريطانيا والعديد من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية، بينما استكثرت المحكمة (الاتحادية) العراقية على سكان العراق الأصليين في برلمان كوردستان مقاعدهم البالغة أحد عشر مقعداً، فألغتها بجرّة قلم لتغتال مشروعاً للتعايش السلمي والحضاري بين المكونات وضعته النخبة السياسية الكوردستانية لتعزيز التعايش السلمي والمواطنة.
إن مكونات العراق الأصيلة تستحق أن تُمنَح مواقعَ في رأس الهرم التنفيذي والتشريعي والقضائي، لما عُرف عنها بأصالتها وإخلاصها ونقاء انتمائها، فالكورد الإيزيديون والمسيحيون بكافة قومياتهم أكبر بكثير من أيّ منصب تنفيذي أو تشريعي، إنهم تاريخٌ من المقاومة والإصرار على البقاء أمام طوفانات من حروب الإبادة الدينية والقومية والاقتصادية والاجتماعية، حقاً إنهم أكبر من كل هذه التسميات والمواقع لأنهم تاريخ شعوب تعرّضت للإبادة خلال مئات السنين، ودفعت خيرة أبنائها وبناتها قرابين من أجل الوجود والبقاء، وكانت من أكثر مكوّنات الشعب العراقي انتظاراً لبزوغ شمس الحرية لتطل منها على عالم جديد ينقذها من تراكمات التهميش والتكفير والإقصاء والإهانة والإبادة والاستعباد لمئات السنين والتي حوّلت قراهم وبلداتهم إلى ما يشابهها في العصور الوسطى، وبدلاً من تلك الأحلام جاء تنظيم (داعش) ليعيد كل ذكريات ومآسي الإبادة، فيبيح قتلهم وسبي نسائهم وحرق قراهم وبساتينهم حتى أصبحوا خارج الزمن.
إنّ تكريم هذه الشريحة وإعادة اعتبارها أكبر بكثير من الكوتا أو أيّ منصب رفيع، إنها أحوج ما تكون إلى حملة وطنية وقومية كبرى لإعادة الاعتبار لها وتعويضها من أجل معالجة جراحاتها المتكلسة منذ مئات السنين، فهي غارقة في البطالة والفقر المدقع والأمية، ويعيش أغلب أبنائها وبناتها تحت خط الفقر في ظروف معقدة، قد لا يصدّقها الكثير في بلد نفطي ميزانيته مئات المليارات، إن زيارة سريعة لقرى ومخيمات هذا المكونات الدينية والقومية ستُكشِف هولَ الكارثة التي تلمُّ بهم من كلّ النواحي الحياتية وخدماتها الأساسية في الصحة والتعليم والماء والكهرباء والسكن سواء النازحين منهم أو الذين عادوا إلى خرائب قراهم وبلداتهم.
إنهم أكبر من كلّ المناصب، ففي تاريخهم من الصمود والمقاومة والانتماء ما يكفيهم أن يكونوا في صدارة كلّ المواقع!
* كوتا (بالإنجليزية: Quota)، تعني حصة أو جزءاً مخصصاً، تستخدم في العربية كلفظة مقابل للحصة النسبية في أنظمة نيابية مثل: الكوتا النسائية.