غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ أحياءٌ بعدُ.
أتابعُ مسلسلات الهجوم المصممة بقصدية واضحة ضدّ الراحل الوردي، وياليتها كانت تتّصف بالقدر الادنى من الموضوعية العلمية والحجاج المنطقي الهادئ. إنها مواضعات مسبقة تكشف عمّا في دواخل مُطلقيها ونافخي النار فيها من حقد وغلّ على رجل آثر الشجاعة في الكشف عن (بعض) مثالبنا وآثامنا بدلاً من الاستكانة الذليلة للخطاب السائد. هكذا يريدونك: أن تبقى أسير الرؤية الآيديولوجية الضيقة التي تترتب عليها مصالح ومنافع لقوم على حساب فقر وقهر آخرين. لن يقبلوا بالطبع بأيّ ممّن يخرج عن الجادة للكشف عن زيف بضاعتهم المغشوشة. سيقطّعون أوصاله وينعتونه بشتى النعوت، وسيلاحقونه حتى ملاذه الارضي الذي ظنّ أنّه واجدٌ فيه بعض الراحة من ألسنتهم السليطة. ليته يعلم اليوم أنّ الموت لم يكن بمُنْجيه من الالسنة الشتّامة.
الاشكالية في قضية الوردي أنها مثالٌ قياسي عن التخابث المقصود في خلط السم بالعسل. عندما يريد البعض تعتيم صورة أحدٍ ما وصولاً إلى إظلامها الكامل سيبدأ أولاً بمحاججة أكاديمية الطابع. سيقول أنّ كتب الوردي أقربُ إلى أحاديث المقاهي. أتساءل هنا: هل كانت رسالة الدكتوراه الخاصة به (في علم إجتماع المعرفة) والتي قدّمها لجامعة تكساس حوالي منتصف القرن العشرين، وترجمتها الدكتورة (لاهاي عبد الحسين) وصدرت عن دار المدى، أتساءل: هل كانت هذه الرسالة التأسيسية عملاً أكاديمياً مرموقاً أم حكايا مقاهٍ؟ لكن لو شئنا الحقّ ليست هذه الرسالة هي ممّا يثيرُ حنق الحاقدين على الوردي والشتّامين له؛ بل هي تلك المصنّفات التي كتبها الوردي وكشف فيها عن بعض المستور والمخبوء وما لا يُراد جعله مادة معلنة للعامة. الوردي يعرف الشخصية العراقية وميلها لأسلوب القص الحكائي، وعلينا دوماً تذكّرُ أنّ الوردي كتب ما كتب في وقت كانت فيه الامية الابجدية تشغلُ رقماً لا يستهان به في المجتمع العراقي؛ فمن البديهي أن يلجأ لتمرير أفكاره بالاستعانة بأسلوب حكائي سهل ميسّر. ثم ما بها المقاهي؟ كانت في بغداد أعدادٌ من مقاهٍ متميزة يؤمها أصحاب الحرف والمثقفون وقد حرصت على إشاعة أنماط من الثقافة الرفيعة والحفاظ على (الاتيكيت) الاجتماعي حدّ أنّ الشاي كان يقدّمُ في بعضها بأكواب وليس بالاستكانات التقليدية، وكانت تقدّم في خمسينيات القرن الماضي مشروباً شاع حينذاك إسمه (النامليت) إلى جانب القهوة والمشروبات الغازية. أليست المقاهي هي عنوان (باريس)؟ ألم تكن المقاهي الباريسية أماكن اجتماع أكابر الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين، ومنها إنطلقت الفلسفات والافكار المستجدة؟
لستُ هنا في معرض الدفاع عن الوردي الراحل، ولو فعلتُ فليس عيباً أو مثلبة. من الواجب علينا جميعاً الدفاع عمّن لا يستطيع الدفاع عن نفسه وبخاصة عندما نشعر أنّ مظلمة كبيرة وقعت عليه. لماذا لا يلجأ الشتّامون للحوار الهادئ؟ أذكر مرّة أنني كتبت في هذه الفسحة الاسبوعية مقالة ناقشتُ فيها موضوعة التناشز الحضاري في شخصية العراقي، تساءلت حينها: هل يمكن أن تكون شخصية سياسية-ثقافية مثل الراحل (محمد فاضل الجمالي) متناشزة؟ من حق العراقي أن يشعر بالفخر وهو يرى الجمالي ببدلته السموكنغ وشعره المقصوص بعناية وهو يلقي خطاباً بلغة إنكليزية متمكنة وبارعة في الاجتماع التأسيسي لمنظمة الامم المتحدة (مؤتمر سان فرانسيسكو) عام 1945؛ فهل تكون مثل هذه الشخصية متناشزة؟ تساءلت بمحبة ورغبة في تحريك جو نقاشي محترم قصدت منه إثارة الموضوعة الكلاسيكية الموصوفة بِـثنائية الطبيعة (الوراثة الجينية) مقابل التنشئة (البيئة) Nature vs. Nurture. (عليوي) في النهاية لن يظلّ ماكثاً تحت جلد العراقي القادم من أعماق القرى النائية أو قلب الريف أو البيئات الموصوفة بالتشدد الاصولي (الديني) عندما يحتك هذا العراقي مطوّلاً بما يعمل على كبح مفاعيل (عليوي) في داخله، وربما سيبقى (عليوي) لدى البعض ذا غلبة وسطوة حتى لو عاش كلّ حياته في حاضرة كوسموبوليتانية أوربية أو امريكية. الموضوع معقد يتطلب إحصائيات وليس محض أهواء مرسلة بفيض من المجانية والاطلاقية اللتين تضمران نوازع شخصانية أو طائفية/ قومية مركّبة. أعيد القول: تساءلت بمحبة ورغبة مؤكدة في المعرفة بعيداً عن الرغبات المريضة في إطلاق مخزون متراكم من الكراهية ضد الراحل الوردي.
عِلْمُ الاجتماع علمٌ خطير وبخاصة في بلد مثل العراق يراد له جعل البشر فيه يغطّون تحت أغطية ثقيلة من الجهل والتجهيل. كل ما فعله الوردي هو أنه نكأ هذه الاغطية وحاول إحداث ثقب صغير فيها بغية معرفة بعض الخفايا التي يراد لها المكوث في قعر المستنقعات المظلمة. هذه هي خطيئة الرجل التي بسببها صار شتمه والتطاول الفج عليه فضيلةً يتفاخرُ بها عراقيون كثرٌ ومنهم عراقيون إستوطنوا الحواضر الاوربية والامريكية البعيدة.
هل بات أمراً شاقاً عليكم أن تجعلوا روح الوردي (وكلّ الراحلين أمثاله) بعيدة عن مرمى سهامكم السامة؟