أقام ديوان الكوفة بلندن (1993) أسبوعاً عنوانه «التُّراث الحي في حضارة وادي الرّافدين»، ففاجأنا دكتور بعلم الأحياء، معترضاً على إحياء «الأصنام»، وبينها كَوديا. لم نأخذه على محمل الجد، حتى كسرت «طالبان» تمثالي بوذا (مارس2001)، فالخراب يبدأ فكرةً ثم فأساً. لم يعصم قِدم الدهر التّمثالين، «نُقرا في الجبل من أسفله إلى أعلاه، يسمى أحدهما سرخبد والآخر خنكبد»(الحمويّ، معجم البلدان). بين دكتور الأحياء و«طالبان» اختلاف المذهب، ووحدة الرأي. أمَّا فضائح «داعش» مع الآثار والبشر فما زالت جراحها مفتوحةً.
غير أنَّ اهتمام رجل دين بالآثار بدا لي مخففاً مِن الصدمة، عندما قدم محاضرة، عنوانها «القرآن وعِلم الآثار»(نوفمبر 2000)، وعلق على شخصية «كوديا» أنه كان يعتمر عمامة. انسحبتُ من المنصة - كنتُ أقدمه - إلى مكتبة الديوان، وعدتُ بصورة كوديا، فعرضتها أمام الحضور، إلى جانب المحاضر، وهو يعتمر العِمامة، فأثنى واستجاد، ورحتُ ناشراً مقالةً عنوانها «فلان: نسيج عِمامتي مِن عمامة كوديا»(جريدة المؤتمر)! لكنه غضب واستنكر، والسَّبب مِا أثير، في وسطه الإسلاميّ، ضده من التّشبه بصنمٍ.
ذَكَّرتُ بما حدث، بمناسبة إزالة تمثال «كوديا» بمدينة «الدَّواية»، التابعة لمحافظة ذي قار، فقبل أربعة أعوام(2020) تزينت ساحتها بتمثال لحاكم «لكش»(2144-2124 قبل الميلاد)، حيث الدّواية اليوم. نحته شاب أخذ النَّحت عن جده، الذي تعلمه مِن عمله مع منقبي الآثار بأور. كان كوديا، في التمثال، يحمل إناء(اينكور) الفوار، رمز المياه الجوفيَّة عند القُدماء(رشيد، الأمير كوديا 1994).
عندما أُسقط التمثال وسط بغداد صبيحة 9 أبريل 2003، أُشير إليه بالصّنم، كحدٍّ فاصل بين الإيمان والشُّرك. جاء ذلك توظيفاً خاطئاً لفتح مكة(10هجرية)، وانعكاساً لما تركته الحرب مع إيران مِن تبادل التُّهم، وعلى الرّغم مِن تصالح النّظامين، ظلت المعارضة محتفظة بأجوائها.
لم تأت القوى القادمة مِن الغرب، والخارجة مِن فواجع الحصار والحملة الإيمانيّة، بجديد، أزالت نصباً وجداريات لتحل محلها بعددها وأكثر، منها لغير عراقيين.
بعدها أُخذ يُلتفت إلى ما لا يُناسب الوضع الجديد، فثاروا ضد تمثال أبي جعفر المنصور(ت: 158هجرية)، على أنه قاتل جعفر الصَّادق(ت: 148هجرية)، تيمنا بـ «والله ما منا إلا مقتول شهيد»(القُميّ، مَن لا يحضره الفقيه).
لكنَّ الشّيخ المفيد(ت: 413هجرية)، صحح لأستاذه القُمي(ت: 381هجرية)، قائلاً: «فالخبر بذلك يجري مجرى الإِرجاف»، والإِرجاف تعني الفتن، معتبراً الصّادق لم يُقتل(المفيد، تصحيح الاعتقاد)، فالمنصور هو الذي لقبه بالصّادق (الأصفهانيّ، مقاتل الطَّالبيين).
قامت النَّائرة لرفع التِّمثال، مع أنَّ صاحبه أحقُّ ببغداد، فهو ممصرها عاصمةً(149هجرية)، وسع ظلها الآفاق. لا أقتبسُ خيال شَاعرٍ، بل رواية مؤرخٍ: «ويَكادُ يُجهلُ أنَّ بغداداً بها/ كانت يدُ الدُّنيا تطولُ وتُقصرُ»(الجواهريّ 1951)، تم هذا بفضل المنصور وأولاده، لذا، التذكار مِن حقّه. لم يقتل الصّادق لأنه لم يساند ابني عمّه محمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بخروجهما عليه(145هجرية)، ولا عمه زيد بخروجه(المرتضى، المُنية والأمل)، لأنه رجل عِلم، قال عمه زيد(قُتل: 122هجرية): «مَن أراد السَّيف فإليَّ، ومَن أراد العِلم فإلى ابن أخي جعفر(ابن عباد، الزّيديَّة).
عندما تقرأ لعالم مختص كفوزي رشيد(ت: 2011)، تقتبس باطمئنان، ويبدو لا المختص بالأحياء ولا المعمم المشغوف بالآثار، قرآ لرشيد، كي يعرفا مَن كوديا: انشغل بالإعمار، طرد المجرمين والمرابين(الفاسدين)» فنعمت مملكته بالاستقرار«، جعل للنساء إرثاً، أدخل الثّلج وجعله قرباناً، لم يخض حرباً إلا واحدة دفاعاً. معنى اسمه «الرَّسول أو المنادى مِن قِبل الآلهة»(رشيد، الأمير كوديا).
أرى وجود تذكار للحاكميَن - كوديا والمنصور- فائدة للحاضرين، تتخذ إنجازات كوديا مثالاً، ويعاد بناء بغداد، مثلما تركها المنصور: «بَغْداد في البلاد كالأستاذ في العباد»(الثَّعالبي، يتيمة الدَّهر)، واتركوا «الإرجاف» لزمنها، بما شخصه المفيد، وكان بغداديَّاً، إنْ فعلتم ذلك ستخلدكم الأجيال بتماثيل وتواريخ.