عنوانٌ لافت لكتاب عثرت عليه في موقع (أمازون) عام 2022: حربُ الرقائق Chip War. تحول الكتاب سريعاً لأحد البيستسيلرز كما توقعت. قرأت بعض المراجعات عنه وعرفت أنّ الرقائق الالكترونية هي الساحة المتقدمة للصراع التقني بين القوى العظمى.
إسترجعتُ قبل بضعة أيام ذكرى هذا الكتاب وأنا أشاهد الوثائقي الرائع (حرب الرقائق الالكترونية) على قناة الشرق الوثائقية، وللمرء أن يتعلّم الكثير في وقت قصير بمشاهدة مثل هذه الوثائقيات المبهرة عظيمة الفائدة. ليست بديلاً كاملاً عن الكتب التخصصية؛ لكنها تقدم لك فكرة عمّا يدور في هذا العالم بدل البقاء في نطاق الأمية السياسية – التقنية المركبة. حتى يكون المرء فاعلاً سياسياً وثقافياً يجب أن يحوز الحد الادنى من المعرفة التي تشحذ لديه قدرة الفعل. الفعل المؤثر في النهاية لا يأتي من الفراغ بل من المعرفة.
الدوائر الالكترونية قلب حضارتنا الحالية في جانبها التقني، والتصغير Miniature هو الفلسفة المعتمدة في صناعة هذه الدوائر. السبب بسيط: كلما استطعت تصغير هذه الدوائر فسيكون بمقدورك زيادة قدرة المعالجة الحوسبية من غير زيادة حجم المكان اللازم للعدة الصلبة (الهاردوير). هذا ما حصل مع تاريخ الصناعة الالكترونية، ولعلّنا نتذكر الصمامات الالكترونية (اللمبات) التي كانت تعمل بها الراديوات والتلفزيونات قبل ظهور وانتشار الترانسستورات في ستينيات القرن الماضي، ثم تنامت فلسفة التصغير حتى بلغت اليوم نطاق الابعاد النانومترية (النانومتر يساوي واحداً من مليار (بليون)- متر).
حرب الرقائق الالكترونية واحدة من الساحات المتقدمة للحروب بين القوى العظمى. بلغت التقنية الامريكية حدّ العمل في رقائق لا تزيد عن ثلاثة نانومترات؛ في حين أنّ التقنية الصينية بلغت حاجز التسع نانومترات، وهناك من يعتقد أنها تجاوزته نحو السبع نانومترات. الفرق بين التقنيتين يقع في نطاق خمسة نانومترات. هذا الفرق هو مؤشر خطير على التفوق التقني لأنّ الصين لم تزل تستورد الرقائق من العالم الغربي ممّا يشكّلُ أحد عناصر الضغط الممكنة عليها، ولا أظنها ستقبل الرضوخ لشروط الغربيين.
الامر له منعكساته السياسية أيضاً. في العالم المعاصر لا حدّ فاصلاً بين التطور التقني والتوظيف السياسي. (العلم- التقنية- الاقتصاد- المال- السياسات العالمية) أضلاعٌ في شكل خماسي منتظم هو الذي يحدّدُ الوضع الجيوستراتيجي لكلّ بلد. قضية (تايوان) مثلاً أكبر من بقايا شيوعية في التاريخ الصيني، ولو كانت كذلك لما إهتمّ بها أحد. تايوان هي مستقر واحدة من أكابر شركات تصنيع الرقائق في العالم (شركة TSMC).
هل جرّبت أن ترى الرئيس الصيني؟ ستراه هادئاً على الدوام؛ لكنّ عقله مثقلٌ بقضايا كبيرة في مقدمتها هذه الخمسة نانومترات التي تشكلُ الفارق في قدرة التصنيع التقني الصيني عن مثيلتها الامريكية. لا أظنّه سيهدأ له بالٌ حتى يحصل تصغير حاسم للفجوة وصولاً لرأبها ومن ثم التفوّق على الغربيين فيها.
كلما رأيتُ برنامجاً حوارياً أو وجهاً لسياسي عراقي أزدادُ حزناً وأعرفُ مدى الهوة المظلمة التي انزلقنا إليها. يؤثرون فارغ الكلام ورميمه على الكلام المنتج الذي يسعى لتأسيس فارق حضاري وتقني. أظنهم رؤوساً باردة من تعب التفكير بالمستقبل. "لدينا النفط نعيش عليه": هذا ما صرّح به أحدهم من غير خجل. لعلّك لو سألت أحدهم عن حرب الرقائق الالكترونية سيقول لك بكلّ برود وبلا استحياء: ما لنا وهذه الحرب؟ نحن لسنا طرفاً فيها؛ فلماذا ننشغلُ بما لا يعنينا؟
قبل أربعة عقود لم تكن كوريا الجنوبية أو تايوان تعني شيئاً في عالم الصناعات التقنية المتقدمة، واليوم صارتا عملاقين تقنيين. لو أردنا في العراق اليوم ان نصبح مثلهما بعد عقد أو عقدين فهذا ممكن وليس خيالاً جامحاً. كل ما نحتاجه رغبة في التطور والعمل الجاد وتعليم جيد ومغادرة أفخاخ التاريخ القاتلة، وقبل هذا صُنّاع سياسات لا يذهبون لأسرّتهم ليلاً بضمائر ميتة ترى الفشل وترتضي به لمجرّد أن تبقى أسماؤهم تتصدر المشهد العراقي.
هل ثمة قيمةٌ لأن تكون صانع سياسة في بلد لا يضمُّ سوى أرواح ضجرة بالحياة وتعتاشُ على مخلفات الآخرين؟
أما تعبتم؟ أما سئمتم؟ ألا تشعرون ببعض الغيرة من الرئيس الصيني؟ وقبل هذا: هل فكرتم بنانومترات الحاضر بدلاً من التفكير بماضٍ يصنع الازمات وتفصله عنا مئات السنوات؟