من أين ينبعُ الجشع؟ من الأرواح الخاوية التي استوطنها الظلام وصيّرها ثقوباً سوداء. هذه الأرواح الموبوءة بعفن الفساد عندما تغيب عنها قبضة القانون ستفعل كل ما نتخيّله أو ما يستعصي تخيّله من حِيَل المخاتلة واللعب على الحبال سعياً وراء ما تحسبه حقوقاً حصرية لها.
السياسيون العراقيون أسوأ من ثقوب سوداء. يعملون بنظرية (احصل على كل شيء ولا تبقِ شيئاً للآخرين. اتبع كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. امسك بلحظتك ولا تفلتها من يديك فهي لن تأتيك كل يوم). و فضلاً عن التهامهم كل شيء تجدهم يعمدون إلى تخريب كلّ القيم الرصينة التي كرّستها تقاليدُ بناء الدولة العراقية عبر العقود الماضيات.
لنقرأ هذا الخبر الصادم: "كشف مسؤول في وزارة التعليم العالي العراقية عن حصول ما لا يقل عن 500 سياسي ومسؤول حكومي وحتى على مستوى قضاة ومستشارين وبعض مشاهير الإعلام المحلي من مقدمي برامج الحوارات السياسية اليومية، خلال السنوات الأربع الأخيرة، على شهادات الدكتوراه، غالبيتها كانت من بيروت وطهران. وأضاف أنّ جزءاً كبيراً من هؤلاء ناقشوا أطروحات الدكتوراه وحتى الماجستير عن بعد، ولم يذهبوا إلى مقر الجامعة التي منحتهم الشهادة…..". مابقيَ مرفق في الدولة لم يجعل منه السياسيون والمسؤولون ميدان مغانمة، ويبدو أنّ الوقت قد حان للتزاحم على (شراء) الدكتوراه. يقولون أنّ كلّ (البيعة) تحصل في حدود العشرة آلاف دولار ولو أنّ هناك من يقول أنّ تخفيضاتٍ كبرى طالتها وقزّمتها إلى حدود الثلاثة آلاف دولار.
كنّا نتندّرُ في زمن سابق على بضعة أنفار حصلوا على الدكتوراه وهم في مواقع أبعد ما تكون عن الحاجة إلى إثراء أكاديمي، وكنّا نعرف فيهم أنهم يريدونها لوجاهة فارغة لا لشيء آخر، وقد استغلّوا مواقعهم الوظيفية وقدرتهم في التأثير على رؤساء الاكاديميا العراقية. ما يحصل اليوم صار حالة مشاعة أساءت للجهد الاكاديمي الحقيقي. يبحث ساسة اليوم من قادة الاحزاب وحتى مستوى المدراء العامين على وجاهة مزيّنة بدال ونقطة، وسيغضبون كثيراً لو تغاضيتَ عن كلمة (دكتور) تسبق أسماءهم. هل تصدقون أنّ أحد الوزراء (المؤمنين) أصدر إعماماً وزارياً على دوائر وزارته يشترط فيها أن تتم مخاطبته بلقب (معالي الدكتور الوزير…….. المحترم)، ثم فرّ بعد سنوات عديدة وقد عزز رصيده (البريطاني) بعدة مليارات من الدولارات.
غريبٌ أمرُ هؤلاء الساسة والمسؤولين ورؤساء الاحزاب، وكأنّهم ماجاءوا إلا لينتقموا من العراق والعراقيين. متصاغرون في كل شيء، حاسدون لبعضهم، ربما عرفوا أنّ أحد زملائهم حصل على الدكتوراه فآثروا الحصول عليها بكلّ السبل والوسائل. استبدلوا البناء بالنميمة والتحاسد فهم لا يعرفون سواهما. بعد كلّ سرقاتهم المفضوحة لن يتأخروا عن سلوك أي سبيل يأتي لهم بزيادة على رواتبهم، ولن يرف لهم جفنٌ إذا ما قيل لهم لقد خرّبتم التقاليد الاكاديمية الرصينة. إنهم (مقاولو تفليش) كما وصفهم أحد أقطاب العملية السياسية الخَرِبة في العراق.
ما يثيرُ الدهشة أن يحصل هذا التدافع على شراء شهادات الدكتوراه الرقيعة في وقت يشهد العالم فيه مراجعة جادة لنمط التقييم الاكاديمي. كثيرون في العالم يرون أنّ التراتبية الاكاديمية في نمط منح الشهادات (بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه، مابعد الدكتوراه) صارت متقادمة ولم تعد تتناغم مع العصر الجديد: عصر الثورة التقنية الرابعة. من المفيد أن نتذكّر كيف أنّ أساطين التقنية الرقمية لم يحوزوا على شهادات عليا؛ بل حتى لم يحوزوا الشهادة الجامعية الاولية. الانفتاح المعلوماتي والبيانات الكبيرة لا بدّ أن تعيد ترتيب طرائق البحث المنهجي بكيفية لم تعد الطرائق القديمة متماشية معها. ثمة العديد من الشخصيات الاكاديمية الكبرى في العالم ممّن كتبوا دراسات معمقة اعلنوا فيها أن كيفية إعداد اطروحات الدكتوراه والماجستير صارت غير منتجة وشكلانية إلى حد كبير.
هذا بعض ما يفكّر فيه العالم، بينما لايعرف المسؤولون العراقيون شيئاً سوى التفنّن في شراء شهادات تكفل لهم الطرب على وقع كلمة (دكتور)، أو تتيح لهم إضافة دال ونقطة قبل أسمائهم.
ستلعبون كثيراً، وسترقصون على الحبال طويلاً، ولكنكم لستم في النهاية سوى (مقاولي تفليش) كما قال أحد دكاترتكم قبل عقد من السنوات.