كانت المعركة الفكرية السياسية الدينية التي دارت رحاها على صفحات الصحف الأميركية خلال ثمانينيات القرن الآفل حول مفهوم "معاداة السامية" من أعنف وأهم المعارك في تاريخ الصراع الفكري الأيديولوجي في الولايات المتحدة ذي الأبعاد الطبقية، وقد تفجر الصراع على خلفية جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي خلال اجتياحه للبنان 1982،حيث أعتبر الصهاينة المتطرفون أن أي نقد في الصحافة الأميركية لتلك الفظائع، ولو كان مخففاً أو مقتصراً على تفاصيلها، يندرج ضمن مفهوم" معاداة السامية"، وهذا ما أثار حفيظة إعلاميين وساسة أميركيين من بينهم يهود. على أن توسيع مفهوم "معاداة السامية" من قِبل غلاة الصهاينة الأميركيين المتطرفين لم يكن في واقع الأمر وليد جدل الثمانينيات، بل تعود جذوره إلى كتاب " "اللاسامية الجديدة" للمؤلفين أرنولد فورستر وبنجامين إبشتاين على إثر إحساسهما بخفوت فزاعة المفهوم التقليدي لمعاداة السامية تجاه يهود أوروبا في أعقاب تحرير الحلفاء لمعسكرات الاعتقال اليهودية في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم خشيتهما من ضمور شعور اليهود بالحاجة إلى الهجرة إلى فلسطين. ومن هنا جاء تطويرهما لمفهوم "معاداة السامية" ليشمل كل من ينتقد أي سياسة من سياسات الدولة الصهيونية العبرية، باعتبارها تشكل مكانة مركزية مقدسة في وجدان كل يهود العالم لا يجوز مسها، لأن مس هذه المكانة بالإساءة إلى قادتها من شأنه أن يخلق شعوراً لدى غير اليهود بأنهم ليسوا ضحايا.
وقد وجد هذا المفهوم الجديد المطوّر صداه الإيجابي في عدد من المقالات من أبرزها: مقال ناثان برلموتر، الذي نُشر في "واشنطن بوست" في 5 يونيو 1983،ومقال بيتر دافيد هورنك المنشور في صحيفة Midstream في مايو 1983، الذي حض اليهود الأميركيين على الهجرة لإسرائيل محذراً إياهم من الاطمئنان لمهنهم في الدوائر المهنية والتوهم بأنهم في بيئة غير معادية للصهيونية، ومقال بودهورتز بعنوان " إني أتهم" بصحيفة Commentary في سبتمبر 1983 حيث وصم فيه كل الإعلاميين الأميركيين، وبضمنهم العاملون في شبكة التلفزيون، بمعاداة السامية 1983،
وقد تصدى لتلك المقالات المسعورة في تبنيها للمفهوم الجديد لمعاداة السامية، الليبرالي جورج فيدال، والمحافظ جوزيف سوبران، فكتب الأخير في صحيفته National Review منتقداً بشدة إسرائيل، وساخراً بمرارة من اتهامه بمعاداة السامية واصفا إياها-المعاداة الجديدة- بأنها تحمل نفحة نازية، لأن مؤداها أن من لا يوافق عليها فهو بالضرورة يوافق على غرف الغاز. وهذه النفحة في جدل الثمانينيات وجدناها بالضبط فيما حُشر فيه رئيسات الجامعات لدى التحقيق شبه البوليسي معهن تحت قبة الكونجرس في ربيع هذا العام؛ لعدم صرامتهن تجاه الطلبة المحتجين على حرب الإبادة في غزة. وهذا الانقسام الحاد بين اليهود الأميركيين حول المفهوم الجديد لمعاداة السامية دفع اليهودي جون أوكس، المحرر السابق في "نيويورك تايمز" أن يكتب فيها مقالاً بتاريخ 21 يونيو 1983 مهاجماً فيه عمدة نيويورك اليهودي ادوارد كوخ، لتبنيه ذلك المفهوم، واتهامه اليهود الأميركيين المخالفين له في هذا الرأي بأنهم جبناء، واعتبر أوكس مثل هذا الموقف يلحق أبلغ الضرر بالديمقراطية الأميركية والديمقراطية الإسرائيلية، وبسمعته كعمدة لمدينة متعددة الأعراق. واللافت أن مواقف الصهاينة الأميركيين كانت متطابقة في الغالب مع المصالح الطبقية لكبار الرسماليين أياً تكن خلفياتهم الدينية.
وإذ نجح أنصار الابتزاز الفكري، من خلال نفوذ اللوبي الصهيوني المتغلغل في مفاصل الدولة والإدارة الأمريكية، في قفل أبواب النقاش الحر، فلعل المتابع لمجريات معركة ذلك الجدل يلحظ غياب أي صوت عربي في الدخول على خط المعركة حينذاك، سواء من قِبل السفارات العربية في واشنطن، أو من قِبل ممثلية جامعة الدول العربية في الأمم المتحدة بنيويورك، تماماً كما هو الحال الآن، لا بل هو أسوأ من وقتذاك!