كلُّ من عشق الحضارة الرافدينية بكلّ تلاوينها الرائعة لا بدّ أن يتذكّر كتاباً نشرته (دار الرشيد) العراقية أوائل ثمانينيات القرن الماضي. عنوان الكتاب (الفكر السياسي في العراق القديم)، وهو في الاصل تطوير لرسالة دكتوراه كتبها الباحث الدكتور عبد الرضا الطعان وقدّمها في جامعة كامبردج عام 1978. قدّم الكتاب صورة بانورامية شاملة للاشتغالات السياسية في العراق القديم (الرافديني)، وهو إذ فعل هذا فقد ضمّ العشرات من المصادر الحديثة التي تدرس الفكر السياسي والنظريات السياسية، منها على سبيل المثال الكتاب المرجعي للمؤلف جورج سباين George Spine الذي يتناول تطور النظريات السياسية. يخرج القارئ من هذا الكتاب -إلى جانب متعة الاطلاع المكثف على الفكر السياسي في العراق الرافديني- بإطلالة معمّقة تؤكّد أنّ السياسة علمٌ وصناعة بشرية لا تكتسبُ بغير التفكّر والمشقة وحساب الاحتمالات الممكنة، وليست خصالاً أو مزايا بشرية يحوزها بعض المخصوصين من البشر.
كنتُ أتابعُ منذ شهور عديدة لقاءات تلفازية مع من يفترضون أنفسهم ساسة في المشهد السياسي العراقي الراهن. أقول: كنتُ أتابع؛ لأنني اليوم ما عدتُ أتابع أياً من هذه اللقاءات البائسة الخاوية. إنها لغو كلام: أصوات زاعقة قد لا تخلو من فاحش القول ورميمه، وحناجر متورمة ترى أنّ العالم لا يؤخذُ إلا بالاصوات الزاعقة، وهرطقات تتمحور على بضعة قادة يتصور البعض انّ ماكنة العالم لا تعمل إلا بأوامرهم. سيلٌ لا ينقطع من المؤامرات والالعاب الصبيانية وبعثرة مليارات المال العام بقلوب حاقدة على مستقبل العراقيين.
حصل غير مرّة في بعض تلك اللقاءات أن خاطب أحدهم الآخر بعبارة"انت ما تفهم سياسة". يقولها بيقينية قاطعة وكأنه هو من وضع قوانين السياسة العالمية وألّف عشرات الكتب فيها. هذه العبارة "انت ما تفهم سياسة" هي في التحليل المعمّق دليلٌ شاخص على جمود النظرة والعقل من حيث اعتبار المقاربة السياسية التي يعتمدها القائل - وهو يمثل حزباً- هي المقاربة المطلقة الصحيحة الوحيدة، وانّ حزب القائل هو الحزب الاوحد الذي يجب أن يقود القاطرة السياسية في العراق.
ينظر الساسة العراقيون إلى السياسة وكأنها سحرٌ مستغلقٌ على الفهم، وهم وحدهم من يفهم مغاليق هذا السحر بمفاتيحهم الشفرية الخاصة، ويرون الحزب مثل طائفة حصرية مغلقة Cult لها محفلها ومدوناتها السرية الخاصة. هذه أوهام خالصة نشأت بسبب حالة الاضطهاد السياسي الذي مورس على تلك الاحزاب فضلاً عن شعور موهوم بأنّ الممارسة الحزبية هي نتاج عقول متفوقة على سواها. ترتّب على هذه الاوهام مغالطات كثيرة مؤذية ومدمّرة للعراق وشعبه.
من هذه المغالطات تلوّن السياسة بالمزاج الشخصي للقائد الحزبي، وتتفاقم مفاعيل هذه الشخصنة الحزبية عندما يصبح القائد الحزبي رئيساً للدولة أو الحكومة. هذه الحالة عشناها وتلمسناها في السنوات السابقة مثلما نعيشها اليوم. القانون الاساسي في السياسة أو الاداء السياسي للبلد تحكمه المعادلات الجيوستراتيجية الدولية وقدرات البلد العلمية والاقتصادية والتقنية، وليست نتاج قدرات شخصية أو استجلاباً لقوى غيبية. العفرتة ومحاولة صناعة مكانة شخصية عالمية بأساليب قسرية لا مكان لها في السياسة، وهي مهلكة مؤكدة.
الامر الثاني في السياسة هو موضوعة البراغماتية. يصف أحدهم سياسياً عراقياً في باب المديح بأنه براغماتي من الطراز الاول. هو يريد القول أنه متآمر ولعوب من الطراز الاول. المعنى الدقيق للبراغماتية السياسية أنّ القوانين التي تصلح للفرد قد لا تصلح للجماعة (الدولة). قد يكون الرئيس مثلاً نزيهاً طهرانياً يحيا حياة متقشفة مسالمة؛ لكنّ هذا الامر لا يصلح مع سياسة الدولة. خزائن الدولة يجب أن تمتلئ بالمال، ويجب أن تكون الدولة مهابة الجانب قوية في الجوانب الدفاعية العسكرية، وفي سبيل تحقيق هذا الغنى وتلك القوة يجب أن يسلك المرء (القائم على أمر السياسة) كل الوسائل الممكنة. التهاون في غنى الدولة وقوتها العسكرية مسألة غير مقبولة أو مطروحة للمناقشة.
الامر الثالث هو كون السياسة علماً وليست مزايا شخصية متوهّمة. يجب أن يدرس السياسيون السياسة. كتبتُ غير مرّة أنّ معظم رؤساء الوزارة في النظم البرلمانية الغربية هم دارسون للسياسة والاقتصاد معاً، وأذكر في هذا الجانب أنّ أغلب رؤساء الوزارة البريطانية هم خريجو منهاج دراسي ثلاثي في الفلسفة والسياسة والاقتصاد PPE. نتذكر مثلاً رئيس الوزراء البريطاني (بوريس جونسون) بشعره المبعثر وسلوكه الذي يبدو منطويا على غير قليل من العبثية والصبيانية. هذا الرجل ألّف كتباً ممتازة تناول فيها تشرشل، ومدينة روما القديمة، وتاريخ مدينة لندن، كما كتب في جائحة كوفيد وواقعة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي (البريكست)، والسيارات السريعة، وتربية الاطفال. الاهم من هذا أنه خرج من رئاسة الوزارة من غير أن يفرغ الخزينة البريطانية بسرقات مغطّاة او مكشوفة.
لهذا الذي يعيبُ على الآخرين انهم لا يفهمون سياسة مثلما يفهمها هو، نحتاجُ أن نهمس بأذنه: يكفي أن ننظر لواقع العراق المخرّب وسنعرف حينها مبلغ علمك في السياسة.
السياسة هي ما تفعل على الارض وليست عمائر تبنيها في الهواء وتسعى لإيهام الآخرين بأنها ناطحات سحاب في قلب بغداد.
انضم الى المحادثة
قناديل المدى