يحسبُ الانسانُ نفسه، وبكثير من الغطرسة والمباهاة وحس التفوق، أنّه كائن عقلاني، وأنّ عقلانيته ميزةٌ عليا فيه. هل تظنّ نفسك عقلانياً؟ كتب (برتراند رسل) في مقدّمة كتابه (هل للإنسان مستقبلٌ؟) قائلاً أنّ الانسان العاقل Homo Sapiens يحسبُ نفسه إنساناً وعاقلاً تماشياً مع توصيفه الانثروبولوجي؛ غير أنّ قروناً عديدة برهنت لنا أنّه ليس بإنسان، وليس بعاقل!!. نحنُ لسنا عقلانيين، والأهم مِنْ هذا نحنُ نحتاجُ هذه الجرعة اللاعقلانية لكي نعيش حياة مستطاعة في حدودها الأدنى. فكّرْ في هذه المفارقة: ستعيشُ وتكدحُ حياة شاقة (لا تخادعْني وتقولُ أنّ الحياة جميلة. هي جميلة كبناء ذهني مدفوع بدوافع حسية وقتية؛ غير أنّ المشقة حاضرة كنسق دائم كلّ حين). الحياة مشقة صراعية مستديمة. حتى المرويات اللاهوتية والدينية تؤكّدُ أنّ الحياة عقابٌ قاسٍ وليست هدية جميلة، وأنّ تحمّل الكدح فيها أمرٌ شبيه بالأعمال الشاقة في سجن كبير. ثم ماذا بعد هذه المشقة؟ تلاشٍ بيولوجي في هوّة العدم، ورقمٌ محفوظ في سجلات الموتى. تبدو الحياة رحلة سيزيفية مكروهة كما يخبرُنا الفيلسوف الاسباني (ميغيل دي أونامونو) في كتابه الأشهر (الحس المأساوي بالحياة). نحن كائنات نعيش في دوامات ثقيلة من المأساة أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، وسبعة أيّامٍ في الأسبوع في كلّ أيام حياتنا. لا إجازة ولا إنفكاك من المأساة. أنت حي؛ إذن أنت تعيش مأساة يومية. هذا ما يفترضه العقل المنطقي البارد، وما تقودنا إليه العقلنة الخالصة.
حتى تعيش حياة مقبولة تغالبُ فيها كفّة الموت لصالح كفة الحياة لا بدّ من اعتماد مقاربات غير عقلانية. أولى هذه المقاربات هي الالهاء Distraction. لا تجلسْ وحيداً لكي تتفكّر في الموت أو فلسفة البدايات والنهايات. يرى بعض فلاسفة الوجود البشري أنّ البشر كيّفوا أنفسهم مع حالات الالهاء الكثيرة في الحياة، وما الواجبات سوى أشكال متنوعة من الالهاءات، ولكلّ طور عمري إلهاءاته المناسبة له: التعليم والدراسة واللعب والسفر و تهيئة طعام طيب المذاق والزواج والمشي في غابة،،،،،، هذه كلها ليست سوى إلهاءات تبعدنا عن التفكير بالحس المأساوي الكامن في حياتنا، وهو حسٌّ جوهري وأساسي سيجتاحنا كلّما بطل تأثير الالهاء في حياتنا. ربما لهذا السبب يختارُ الرهبان البوذيون والمتصوفة الانزواء في أماكن قصية لكي يكبحوا عوامل الالهاء الدنيوية إلى أقصاها بغية جعل أنفسهم مسارح حقيقية لتَمثّل لعبة الموت والحياة من غير إلهاءات تشتيتية. أظنّ أنّ وودي آلن Woody Allen هو المخرج الذي عرف هذه الحقيقة ولامسها كثيراً وبأشكال مختلفة في أفلامه الجميلة.
المقاربة الثانية هي تفعيل مخيالنا البشري. التخريجة هنا ببساطة أن نفتح نافذة تتيح لنا الاطلالة على عوالم متخيلة تسود فيها قوانين تتخالف مع القوانين الحاكمة لعيشنا على المستويين البيولوجي والعقلي، وحينها سنقولُ (الادقّ سنقنعُ أنفسنا): لماذا أضعُ حدوداً قسرية لحياتي وبوسعي تخيّلُ حيوات أخرى هي أقربُ لعوالم موازية؟ لماذا أفترضُ ضرورةَ وحدانيةِ القوانين الحاكمة لكلّ العوالم؟ نحن هنا نلاعب الآلهة (أو الاله الواحد الاحد كلي المعرفة والقدرة) ونفترضُ أنّ في مستطاعنا كسرَ الغلاف الذي يرادُ لما المكوث داخل قشرته. لا يخلو الامر من حسّ بطولي وإن كان لا يخلو أيضاً من عنصر الالهاء. مِنْ بين هذه النوافذ المخيالية الثمينة: الشعر، الرواية (وإن كانت لصيقة أكثر من الشعر بقوانين الارض)، الانشغالات العلمية الحقيقية،،،. الشعراء والروائيون والعلماء الحقيقيون هم أعاظمُ الرائين الميتافيزيقيين في العالم.
هناك مقاربة ثالثة، عنفية الطابع، توظّفُ مطرقة نيتشة الثقيلة في عيش حياتنا المأساوية. مُعتمدو هذه المقاربة لا يحبّون الإلهاء أو التغافل أو غضّ الطرف عن حقيقةِ مأساويةِ الوجود البشري؛ لكنهم يسعون لدور بطولي في الحياة. لا يجلسون في التَكْيات أو الزوايا القصية ينتحبون، ولا يسلكون مسالك إلتفافية على حقيقة الموت المؤكّد؛ لكنهم بدلاً من هذا يعتمدون المقاربة الابيقورية التي تسعى لمزاوجة التجريب الحسي بالقداسة الانسانية. مغامرون، مرتادو آفاق، محبون من طراز رفيع، معطاؤون، لا يحسبون الامور بكثير من التقتير كما يحسبها مرابٍ شايلوكي عتيد. يريدون عبّ الحياة عباً حدّ أن لا يتركوا للقبر سوى (اللحم الجاف والعظام النخرة). الحب هو الطاقة المزوّدة لتعبئة بطاريات هؤلاء النيتشويين الافذاذ.
هل يبدو هذا الكلام غريباً؟ ليكنْ. الحياة صنيعة الغرابة والدهشة والمفارقات غير المحسوبة ولا المتوقّعة. المنشغلون بالإلهاءات يعيشون حياة يحتملون مأساويتها، ومُفعّلو المخيال البشري يصنعون أموراً رائعة؛ لكنّ النيتشويين يحققون صنائع عظيمة. بالطبع ليس من الضرورة اللازمة أن تكون الافاعيل العظيمة بمقياس عالمي كبير، يكفي أنهم يشيعون البهجة والحس البطولي في حياتهم ولا يجعلون منها عبئاً تنوء به ظهورهم المنحنية دوماً وأبداً.
ألم تفكّرْ يوماً أياً من هؤلاء أنت؟ وأي حياة إرتضيتَ أن تعيش أو أريد لك أن تعيش؟