نصف مليون قتيل لضمان تدفق النفط الاندونيسي
استلهاما لمخطط الانقلاب البعثي الناجح في 8 شباط 1963 الذي نفذته في العراق وأطاح بنظامه الوطني وسط بحيرة من دم، بادرت الـ (سي أي اي) الى تنفيذ مخطط مماثل في اندونيسيا في 1965، فبدأت بتنظيم الجماعات المناوئة لحكومة الرئيس سوكارنو، وبينهم ضباط عملاء لها او تدربوا في الولايات المتحدة، وجهزتهم بالمال والسلاح تحضيرا للإطاحة بنظامه المتهم بالانحياز الى موسكو لمجرد وجود بعض الشيوعيين في الائتلاف الحاكم في بلد كان الامريكيون يعتبرونه ساحة مهمة لمواجهة النفوذ السوفييتي والصيني في جنوب شرق آسيا.
وكان احمد سوكارنو (1901-1970)، الذي حقق سمعة عالمية كزعيم تحرري اثر مؤتمر "عدم الانحياز" المنعقد بباندونغ عام 1955 وفي قمة "عدم الانحياز" بالقاهرة عام 1964، وأقام علاقات اقتصادية وثيقة مع بكين وموسكو، عمق مخاوف واشنطن من احتمال اقدام حكومته على تأميم شركات نفط أمريكية كبرى عاملة في اندونيسيا التي كانت منتجا رئيسيا للنفط في العالم.
وكشفت وثائق للـ (سي أي اي) رفعت عنها السريّة في عام 2017، عن تبلور إجماع على أعلى المستويات بين الحكومتين الأمريكيّة والبريطانيّة على "تصفية سوكارنو"، كما جاء في مذكّرة لوكالة الـ (سي أي اي) تعود الى عام 1962. لكن تخطيطها الفعلي للانقلاب بدأ منذ تموز 1965 وبالتنسيق مع المخابرات البريطانية والاسترالية، باجراء اتصالات سرية واسعة مع ضبّاط الجيش والشرطة المناهضين للشيوعيّة ولسوكارنو فيما اولت المؤسّسة العسكريّة الأمريكيّة اهمية خاصة لتفعيل العلاقات مع أكثر من 1200 ضابط تدربوا في الولايات المتحدة من قبل "بما في ذلك كبار الشخصيّات العسكريّة"، كما ارسلت أسلحة ومساعدات ماليّة لهم تحضيرا للانقلاب العسكري الذي تم في مطلع تشرين الأول 1965 بقيادة الجنرال سوهارتو (1921-2008)، الضابط السابق في جيش الاحتلال الهولندي ثم في القوات اليابانية المحتلة قبل ان يلتحق بالجيش الإندونيسي الذي تأسس بعد استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وقد اقترن الانقلاب بتنظيم مذابح شاملة للشيوعيين في كافة انحاء البلاد بموجب مراسيم عسكرية تشبه تماما ما يعرف بـ "بيان 13" سيء الصيت الذي أصدره البعثيون عام 1963 في العراق والذي نص على "تخويل القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي ابادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن".
وهكذا، وبتنظيم متقن واشراف امريكي شبه مباشر، جاء انقلاب سوهارتو بذريعة ضمان عدم وقوع إندونيسيا في أيدي الحزب الشيوعي الاندونيسي، ثالث أكبر حزب شيوعي في العالم آنئذ بعد الحزبين الشيوعيين الحاكمين في بكين وموسكو وحليفهما الايديولوجي. وكما في العراق عام 1963، تم التهيئة للانقلاب باتهام الشيوعيين بتنظيم انقلاب مزعوم وغامض قتل فيه خمسة جنرالات كانوا قد تدربوا في الولايات المتحدة. وبهذه الذريعة بدأ الانقلاب باعمال قتل واسعة، شارك فيها مليشيات تابعة للأحزاب اليمينية والدينية وشملت الشيوعيين والاشتراكيين وانصار حركات السلام والمرأة والطلبة والمثقفين وكذلك المواطنين من أصول صينية وغيرهم (كما يذكر تفاصيلها كتاب "المذابح الإندونيسية 1965-1966"، لروبرت كريب نيويورك). ويذكر تقرير "سرّي للغاية" اعدته وكالة الـ (سي أي اي) في عام 1968، أن تلك المذابح التي بدأت في تشرين الأول من عام 1965، ووصلت إلى ذروتها خلال الفترة التالية حتى منتصف عام 1966، "تحتل المرتبة الأولى ضمن أسوأ عمليّات القتل الجماعي للقرن العشرين". وبالفعل وعلى مدى عام كامل، اسفرت تلك المذابح، عن مقتل ما لا يقل عن نصف مليون شخص بل واكثر من ذلك حيث ارتفع العدد الى اكثر من مليون حسب بعض التقارير الدولية فضلا عن سجن أكثر من مليون شخص مات الكثير منهم تحت التعذيب الجسدي والنفسي فيما مكث بعضهم في الاعتقال لسنوات عديدة واحيانا حتى عام 1979.
ورغم ان الـ (سي أي اي) نفت دائما تورطها في عمليّات القتل تلك، فان الوثائق الأمريكيّة التي رفعت عنها السريّة في عام 2017 كشفت أن الحكومة الأمريكيّة كان لديها معلومات مفصّلة عن عمليّات القتل الجماعي منذ بدايتها، وأنها دعمت الجيش الإندونيسي فيما قام مؤرخون وصحفيون امريكيون واوروبيون بفضح تواطؤ وتعاون الولايات المتحدة الأمريكية في عمليّات القتل والاعتقالات تلك، وشمل ذلك التعاون تنظيم قوائم موسّعة عن اعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي في كل المناطق وتسليمها إلى قيادات فرق القتل الحكومية اولا بأول. وهذا التواطؤ حصل مثله في العراق اثناء انقلاب 8 شباط 1963 عندما قامت بتزويد انقلابيي شباط بقوائم بأسماء شيوعيين وقاسميين كانت تبث من محطة اذاعية أمريكية تم انشاؤها في الكويت، كي يتم قتلهم من قبل فرق اعدام تابعة لميليشيا الحرس القومي او اعتقالهم وارسالهم الى اقبية السجون البعثية، وكان وضع تلك القوائم يتم من قبل عملاء يعملون في مكاتب الـ (سي اي آي) في عدد من الدول العربية. وهي ممارسات استخدمت أيضا خلال انقلاب الجنرال زاهدي في ايران عام 1953 بقيادة وانقلاب الجنرال بينوشيه في تشيلي عام 1973 وانقلابات مماثلة أخرى.
والـ (سي اي آي) تغاضت بل شجعت أحيانا ارتكاب الممارسات الوحشية ضد الضحايا والمعتقلين اليساريين خلال تلك الانقلابات لا سيما في العراق واندونيسيا. فبالاعتماد على المصادر العراقية والإندونيسية الأساسية، صنَّفت تلك الممارسات بتفاصيلها الشنيعة، ليُثبت دور الطغمة الانقلابية المحوري في المذابح. وهي تفاصيل من الصعب تحمُّل قراءتها لكثيرين. ومثلما حصل في العراق خلال انقلاب شباط 1963 من اعمال قتل وانتهاكات بشعة، يُظهِر أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس جيفري روبنسون في كتابه "موسم القتل: تاريخ المذابح الإندونيسية 1965-1966"، أن الإبادة التي ارتُكبت بحق البشر، الذين وصفهم أحد ضباط الجيش الإندونيسي بأنهم "أقل من الحيوانات"، لم تكن تفاصيلها عادية أو غير مُشخصنة. اذ كان الناس يُقتلون رميا بالرصاص، أو بقطع الرأس، أو الخنق، او الشنق، أو الضرب حتى الموت، أو إخراج أحشائهم برماح من البامبو، أو تُقطع أجزاء أجسامهم بالسكاكين أو المناجل أو السيوف أو معاول الجليد، وغالبا ما كانت النساء يتعرضن للاغتصاب قبل أن يُقتلن. وكان التعذيب أمرا روتينيا، وكان السجانون يضربون المحتجزين بالهراوات أو أسلاك الكهرباء، أو يسحقون أصابع أقدامهم، أو يكسرون أصابع أيديهم، أو يحرقونهم بالسجائر، أو يُعرّضونهم للصدمات الكهربائية. وبعض المحتجزين كانوا يُجبرون على مشاهدة تعذيب أزواجهم أو أطفالهم.
والحال، لم تكن الفظائع المُرتكبة في إندونيسيا والعراق نتيجة حتمية للتناحر العِرقي أو النزاعات الاجتماعية الاقتصادية، كما هو الحال في دول شهيرة انتشرت فيها الوحشية الجماعية مثل البوسنة ورواندا، وإنما كانت حملة مُنظمة ومُمنهجة نفَّذتها السلطات السياسية. ويجادل روبنسون بطريقة مُقنعة بأنه لولا تقديم الجيش الإندونيسي التدريب والتنظيم والتشجيع لما كان تسبَّب أفراد ضيّقو الأفق يملؤهم الحقد في كل ذلك الدمار واسع النطاق. وعلى الرغم من أن السلطات على مستوى رسمي كان لديها حرية اختيار طرقهم في التعذيب، فإن الأنماط المروعة التي لوحظت على مستوى البلاد تُظهِر مخزونا من العنف المؤسسي، ومن تلك الأنماط التي كانت شائعة: قطع الرؤوس، والإخصاء، والعرض العام لأجزاء من الجسم أو للجثث، وأشكال أخرى معينة من التعذيب. كانت تعمل المليشيات المحلية دائما تقريبا إما تحت إمرة السلطات العسكرية وإما بمباركتها عبر تسويق مبررات أيديولوجية لأعمال القتل التي يرتكبها عن طريق تجريد الشيوعيين المتهمين من إنسانيتهم ووصفهم بأنهم "شياطين"، و"عاهرات"، و"إرهابيون"، و"حيوانات"، و"ملحدون"، وهذا الوصف الأخير كانت تُكرِّره المليشيات الإسلامية الاندونيسية خصوصا.
ويرى روبنسون أن الولايات المتحدة تلوّثت يداها بدماء ضحايا هذه المذابح التي ارتُكبت باسم القضاء على الشيوعية في إندونيسيا متهما مسؤولين أميركيين، مثل السفير الأميركي في جاكرتا ومدير مركز "سي آي إي" هناك، بنشر سجلات مُضلِّلة لتبرئة بلادهم وإعفائها من المسؤولية. كما رفضت الحكومة الأميركية أو خبّأت، لعقود متتالية، طلبات برفع السرية عن وثائق ذات صلة بموجب قانون حرية تداول المعلومات. وفي عام 2017، وتحت ضغوط من مؤرخين ونشطاء، وتوم أودال السيناتور الديمقراطي من ولاية نيو مكسيكو، نشرت الحكومة أخيرا سجلات قوامها 30 ألف صفحة تابعة للسفارة الأميركية في جاكرتا في الفترة بين 1964-1968.
وأخيرا، وكالبكر في العراق وبينوشيه في تشيلي فان الجنرال سوهارتو الذي سام شعبه القهر والهوان، كما خان رفيقه سوكارنو شر خيانة في منتصف الستينات، مات ميتة بائسة وهو مطارد من التاريخ بتهمة قتل مليون مواطن اندونيسي، ومن القضاء باختلاس 570 مليون دولار من اموال الشعب فضلا اتهامه بسرقة 15 مليار دولار الامر الذي قاد منظمة الشفافية الدولية الى وصفه بـ"اكثر الحكام فسادا وسرقة في كل الازمان".