الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
طرابيشي: لن تكفينا محطّاتُك الست

غادر (جورج طرابيشي) الحياة عام 2016 وهو لم يكتب سيرته الذاتية. اكتفى بستّ محطّات في سيرته. أتمنى أن يقرأ من يهوى القراءة هذه المحطّات الست؛ فهي خلاصة موجزة لمسيرة عقل مشرقي مجتهد جعل القراءة والكتابة عنواناً لحياته طيلة ستين عاماً مكتنفةٍ بإشكاليات شتى في منطقة الشرق الأوسط العربي بخاصة حيث منابع النفط والمأساة والدم والدموع. دفع طرابيشي بعض أثمان السياسة الشرق-أوسطية سجناً لسنوات عديدة وهو في عنفوان شبابه، وقد حكى الراحل عن بعض معاناته وهو نزيلُ السجن في واحدة من محطات سيرته. ربّما كِتابُ زوجته الكاتبة والمترجمة (هنرييت عبّودي) الموسوم (أيّامي مع جورج طرابيشي) يقدّمُ للقارئ الشغوف بمسيرة طرابيشي بعضاً من التعويض عن إحجام الراحل أو تردده في كتابة سيرته. لعلّه أراد تخصيص كتاب زوجته ليكون إشهاراً لسيرته الذاتية، وكأنّه أراد القول أنّ حياته لا يمكن أن تُحكى تفاصيلها بمعزل عن حكاية زوجته التي ربما كانت أمهر منه في إلتقاط التفاصيل الصغيرة في حياتهما المشتركة وهو الذي كرس كلّ حياته للكتابة والكتاب وكلّ ما يتّصل بهما من فعاليات. هذا تسويغي الشخصي، ولو صحّ فلستُ أحسبه سوى تكريم وشعور متسامٍ بالعرفان من طرابيشي لزوجته.

عرفتُ الراحل طرابيشي بدء في كتابه (شرق وغرب انوثة ورجولة) وعرفته اكثر عبر البوّابة الفرويدية ثمّ عبر البوّابة الماركسية. هو المترجم الأوّل لكتابات فرويد عن الفرنسية، وقد قاربت ترجماته الثلاثين كتاباً. ثمّ عكف على الماركسية ليترجم أمّهات تصانيفها المرجعية. طبيعة ترجمات طرابيشي تعكس الأطوار التطوّرية لتفكيره ورؤيته السياسية والفلسفية العامة: بدأ قومياً متحزّباً، وعندما شاء الإنفكاك من قبضة التحزّب عوقب سجناً بغيضاً لسنوات عدّة؛ لكنّه لم ينس نسقه الثقافي العربي بل حلّقَ به نحو آفاق أرحب وأكثر انفتاحاً انسانياً، ثمّ حلّت المرحلة الماركسية والوجودية في حياته، وانتهى بعد كلّ هذه الأطوار والنكبات في مشرقنا العربي -وبخاصة عقب الحرب الأهلية اللبنانية- ليتخفف من كل القيود الآيديولوجية والحزبية.

يكمنُ جانب كبير من سحر طرابيشي في لغته. وهي لغة عربية يسيرة رائقة لم يعتمد فيها على عضلات لغوية مفتولة!!. كتب ما كتب لأنه يمتلك أفكاراً غزيرة أراد مراجعتها وإخضاعها للمساءلة والتدقيق ولم يكن مهتماً بتحويل اللغة إلى ميدان مصارعة أو طوافٍ حول طواطم شاخصة، مثلما يفعل بعض الذين يدورون في مدارات اللغة بدلاً من التركيز على أفكار جوهرية يعرضونها للقارئ. سأكتب عن هذا الأمر بتفصيل أكثر في مقالة قادمة. أكتفي هنا بالقول: اللغة البسيطة البعيدة عن الاستعراض ستكون أقرب للسحر عندما تمتحن أفكاراً جوهرية وتناقشها بدقة ووضوح.

ثمة مفصل زمني تتمحور عليه حياة طرابيشي الفكرية في ثنائية ما قبل/ ما بعد، وأعني بذلك مطارحته السجالية المشحونة مع الراحل الدكتور محمّد عابد الجابري في سلسلة كتبه عن العقل العربي وبخاصة كتابه الأوّل في هذه السلسلة (نقد العقل العربي). ساهم طرابيشي في التسريع بنشر هذا الكتاب عن دار الطليعة البيروتية، ورأى بأنّ هذا الكتاب قادر على التغيير بمعنى أنّ المرء قبل قراءة الكتاب لن يبقى كما كان بعد قراءته. ثمّ قادته ملاحظة صغيرة في الكتاب بشأن المعاداة المزعومة لِـ (إخوان الصفا) المعتزليين للمنطق والفلسفة ليخصص أكثر من عشرين سنة من الطور الأخير من حياته لمراجعة أمّهات كتب التراث العربي، ودفعته تلك المراجعة لنشر سلسلة من خمسة كتب بعنوان (نقد نقد العقل العربي). تكشف لنا هذه السلسلة عن تفاصيل كثيرة مؤلمة في حياتنا الفكرية، وهي تفاصيل يراد دوماً حجبها بأغطية ثقيلة خشية انكشاف أسرارها حتى وإن كانت أقرب للفضيحة التي يعلمها الجميع لكنّهم مع هذا يتواطأون على جعلها في قائمة المسكوت عنه.

بعيداً عن التفاصيل الفكرية في سيرة طرابيشي فإنّ قراءة المحطات الست في حياته تعلّمنا درساً مفيداً في تقنية كتابة السيرة الذاتية. يمكن أن تكون هذه السيرة سلسلة من محطات (موتيفات) كثيرة تختصُّ بموضوعة محدّدة بدلاً من أن تكون فصولاً لأطوار زمنية خطية متتابعة. بهذه الكيفية تقترب السيرة الذاتية من نص سينمائي ترى فيها المَشاهِد أمامك بدلاً من قراءة سيرة بسياق كلاسيكي صارم. أظنّ أنّ طرابيشي برَع هنا في تحقيق هذا الشرط؛ فجاءت هذه المحطات في غاية السحر والامتاع.

أوقنُ أنّ طرابيشي كان شحيحاً علينا في سرد محطّات حياته. ربما لو شئنا ملامسة بعض جوانب حياته الحافلة بالمعرفة والحراك العقلي والفلسفي فلن تكفيه ولا تكفينا ألفُ محطة ومحطّة.

  كتب بتأريخ :  السبت 26-10-2024     عدد القراء :  816       عدد التعليقات : 0