بدأت تهب علينا رياح الانتخابات التي شاهدناها وساهمنا في عملياتها السابقة، غير أننا قد ظللنا على يقين بأنها شبيهة بمزنة مطر صيف، لا تترك لها اثراً من شأنه أن يبلل حتى الريق المتيبس تبعاً لجفاف العملية السياسية، بل العكس يبقى الحال موميائياً محنطاً بشكله الماضي لا روح فيه، ولذلك لم ترض أصابع السبابة ان تنغمس بحبر البنفسج، لأنها لم تهجس تغييراً يذكر فاصطفت على رصيف المقاطعة. هل ان الايادي الوطنية النظيفة يناسبها خندق الانعزال والمقاطعة مهما كان السبب وهي” ولية الدم " بجدارة قبل غيرها لحال الوطن ...؟، وطالما السواعد السمر الثائرة وفي ذات الوقت ناصعة البياض، فمن حقها ان تبقى شامخة، وتخوض المعترك وتتزاحم حتى بالمناكب لكي تحتفظ بمكانها الضروري، اما وجود العقبات والصعاب فينبغي ان لا يساور أحد الظن بأنها دائمة. وان كانت مربوطة خيمتها بحبال الخارج. لأن رياح التغيير كفيلة بقلع اوتاد تلك الخيمة وتجارب التاريخ خير شاهدة.
إن المشاركة في الانتخابات هي بمثابة المشي في طريق الحق حتى وان كان موحشاً. ولكن المنطق يقول لا ينبغي التجرد من امتلاك الوسائل الضامنة لغاية الوصول إلى الفوز، والوقوف على ناصية هذا الطريق لانقاذ البلد من الهلاك المنتظر. وهذه المهمة النبيلة تستحق الابتعاد عن السبل الفاشلة وتكرار الاختيارات العشوائية غير المدروسة ولا بأس من الاستفادة من التجارب الناجحة، على ان تُحسّن وفقاً لمتطلبات العملية الانتخابية وراهنات ظرفها. هذا كله يلزم توفرعدالة القوانين وبيئتها النظيفة وسلامة الديمقراطية، فلا يجوز القبول بما يفصله الفاشلون الفاسدون. لان ذلك يحول السائرين من سلوك طريق الحق إلى التوهان في طريق الفشل، الذي توهم البعض الخيّر من ولوجه.
ومما لا شك فيه سيكون تكرار الفشل كفيلاً على عدم الصمود أمام الانجراف نحو قلة الوزن والعوم، وما أدراك ما هو العوم في السياسة. بمعنى التحول إلى هامش بائس لا يحقق حاجه الناس، وعبارة عن خرائب واطلال لا تنتظر الا الازاحة من الساحة. وبهذا يمكن ان تسمى الحالة بـ " العقوبة الذاتية"، التي تفرض نفسها ولا مرد لها.. وهنا استوجب ان نجعل كلامنا أكثر وضوحاً، ولنؤكد بان حصاد الخيبة المشار اليه اعلاه لايوجد في ضيعة الثوار المدنيون الديمقراطيون على وجه التعيين، لكونهم يمتلكون رؤية سليمة ومرجعية سياسية علمية تراكمت فيها الخبر والتجارب الفذة، وهم اهلها لا تفارقهم عزيمة التضحية ولا شجاعة النهوض العارم لاداء المهمة. وكانت انتفاضة تشرين الباسلة خير شاهد تبعث على الثقة والتصديق .
هنا اقتضى العودة على بدء، بالقول ان الانتخابات البرلمانية والمشاركة فيها تفرض تفهماً لفلسفتها، التي هي الاخرى لها مبادئ، وتاتي في صدارتها رصانة العلاقة الوثيقة مع الجماهير، على ان تكون منتسبة إلى مدى تاريخي سابق، اذ انها لا تتم وفقاً للحاجة الانية. فتخيلوا كم هو الجهد الذي من شأنه بناء الترابط مع الناس، الذي لم يترسخ من خلال رفع الشعارات الفضفاضة والاغرائية الخادعة، بل يتطلب التماهي مع متطلبات الحياة اليومية المباشرة لأوسع الجماهير وسلوك دبلماسية البراكماتية، والتصدي بحزم لكل من يحاول اغتصاب هذه الحقوق والاستحواذ المسلح على مقدرات الناس، كما من مبادئ فلسفة خوض الانتخابات تقديم " سيفي" له معزز برصيد نضالي تاريخي مشهود، ولا ياتي ليشارك" بفلوسة " او بنفوذ سلطوي ممنوح له مقابل تخادم مع اسياده.. لان الجماهيرلا تمنح الثقة اعتباطاً، بل من يريد هذه الثقة عليه ان يعطي من اجل الجميع، قبل ان يأخذها لذاته، بمعنى ان يجود بعطاء ليس مقيداً بفئة او جماعة عرقية او اثنية، ومصحوباً بالعطاء السامي للوطن العزيز ولا يقل عنه شأناً. كما ينبغي اعتبار العملية الانتخابية بمثابة المتاريس الاخيرة للمعارك السياسية.التي لا يجوز ادارة الظهور لها.
بذلك يعتبر من يريد المشاركة بالانتخابات قد اوفى بثمن كارت دخول معترك الانتخابات عن جدارة، ومن دونه يصبح مثل ذلك الذي يريد مشاهدة لعبة كرة القدم وليس لديه بطاقة دخول الملعب. فيضطر لتسلق الجدار والقفز بين الحضور فلا يجد له مقعداً يجلس عليه في المدرّج.. وحينئذ ليس امامه الا البقاء واقفاً على قدم واحدة مراوحاً بالقدم الاخر.. وإلى متى ...؟ فعنده الحساب!!؟ لنا عودة.