الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
النهضة الأدبية والفنية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في العراق
بقلم : بلقيس شرارة
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

نمت الحركة الوطنية وازدهرت في العراق، في عقد الأربعينات وبداية الخمسينات، خاصة بعد الإنفتاح الفكري والسياسي الذي تلا الحرب العالمية الثانية، فأجيزت الأحزاب وصدرت الجرائد الوطنية، ولعب روؤساء الأحزاب دوراً مهماً في تنوير الفكر العراقي، وكان لهم دور مهم في توعية الشعب ومساءلة السلطة. كما كان للجرائد دور مهم في بلورة تلك الأفكار.

بسبب هذا الإنفتاح تمخض عقد الأربعينات عن ظهور حركة ثقافية واسعة، واكبت الحركة الوطنية في العراق، وانقلبت إلى ثورة فكرية في جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والإجتماعية. فازدهرت الأفكار الماركسية والاشتراكية والليبرالية والقومية. كما برزت حركات أدبية كانت في صراع مع الأفكار اليسارية هي البودلورية والوجودية والفرويدية. كانت بغداد هي المركز والبوتقة التي تفاعلت وانصهرت فيها جميع الأفكار والحركات المختلفة الجديدة.

وظهرت في تلك الفترة في الشعر والأدب مجموعتان، مجموعة تؤمن بالحرية الفكرية الفردية، كانوا يلتقون في المقاهي، واشتهرت مقهى "واق واق" في الأعظمية في لقاءات أولئك الشعراء والأدباء الذين كانوا متأثرين بالبودلورية التي ترجع إلى الشاعر الفرنسي شارل بودلير، والوجودية، التي (ترتبط بالإنسان كفرد حي، وتتفق على مبدأ أنه لا يوجد هدف واحد أو حقيقة واحدة يعيش من أجلها الجميع، وكل فرد في الأرض له الحق والحرية الكاملة في اختيار الحياة التي يرغبها والهدف الذي يسعى له ويعيش من أجله وليس حق الغير تحديد خيارات الآخرين، فوجهة نظر الوجوديين ترجع بالقيمة المهنية للتفكير الوجودي إلى الحرية، إلا أن القيمة الأساسية هي الأصالة كمفهوم فلسفي). كان الجدل والنقاش يستقطب تلك اللقاءات، حيث كانوا يؤمنون بالعبثية بمفهومها الإيجابي وذلك كردود فعل أو ثورة على تقاليد المجتمع البالية.

واسسوا في البداية جمعية "الوقت الضائع"، التي استلهمت اسمها من رواية "الوقت الضائع" للروائي الفرنسي مارسيل بروست، وقد ولدت تلك الحركة كتعبير عن حالة فرار من واقع مأزوم. وكان من بين اعضائها شعراء وأدباء وفنانون، منهم جواد سليم واخيه نزار سليم ونزيهة سليم، وفؤاد التكرلي، نهاد التكرلي، جميل حمودي، عدنان رؤوف، إبراهيم اليتيم وبلند الحيدري.

اما المجموعة الأخرى من الشعراء والأدباء فكانت تلتقي في دار محمد شرارة، حيث عَرف منزله اللمسات الأولى لبداية الشعر الحديث، وما كان يجمعهم في تلك اللقاءات حبهم للأدب والشعر، بالرغم من التباين والإختلاف الذي كان في آرائهم السياسية، فقد كان من بينهم الشاعرة نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة وأكرم الوتري ومن الأدباء حسن الأمين وحسين مروة ومحمد حسن الصوري وصادق الملائكة وكريم مروة.

كانت دار محمد شرارة تقع في الكرادة الشرقية في محلة سبع قصور، وهي ضاحية من ضواحي بغداد تطل على نهر دجلة، حيث كانت داره ليس فقط ملتقى للأدباء والشعراء بل ملتقى للشخصيات السياسية والإجتماعية أيضاً. وكان الجميع يحبون الثقافة ويمارسون صنوفاً منها إبداعاً ونقداً وقراءة ونقاشاً، وكان معظمهم في عمر الشباب أو الفتوة والصبا، لا تتجاوز اعمارهم سن الثلاثين. مطلعون على ما يحدث في العالم، إن كان في الأدب أو المسرح، أو في السياسية. واستمرت تلك اللقاءات الأدبية متصلة لا تعرف الإنقطاع حتى عام 1949.

إذ برز قبل ذلك جيل من الشعراء في العراق من امثال جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري في الثلاثينيات من القرن الماضي، لكنهم استمروا في نظم الشعر الكلاسيكي أو الشعر المقفى. لذا شكلت الندوة الإسبوعية بداية النهضة الشعرية، وتركتْ آثارها على الشعر الحديث ليس فقط في العراق وإنما في العالم العربي. كان الجدل والنقاش حول تجديد الشعر وجعله بعيداً عن القافية التي تحدد الشاعر في قالب معين.. كان الجو ناضجاً لولادة مثل هذا الشعر الذي اطلق عليه فيما بعد "بالشعر الحر"، إذ كان بدر السياب يحس برتابة العروض التقليدية ومحدوديتها، وكان يتابع مزج البحور في القصيدة الواحدة.

كانت الندوة الشعرية تعقد عصر يوم الخميس في دار والدي، وكان الصمت يهيمن عندما تقرأ القصائد، من قبل الشعراء، ويتحول المستمعون الى آذان صاغية، ولا ينقطع الصمت إلا بارتفاع الأصوات المعجبة بإعادة بيت شعر أو مقطع من القصيدة. كان والدي محمد شرارة لا يرحم في نقده اللاذع أحياناً، إذ كان يعتبر الشاعر ضمير المجتمع، والصوت الذي غنى الملاحم والمآسي خلال العصور التي مرّت على المجتمع العربي قبل فجر الإسلام، لذا عليه أن يلعب دوراً مهماً في المجتمع، وهذا ما أكد عليه بدر السياب في شعره في تلك الفترة. وقد صدر آنذاك "ديوان عاشقة الليل" لنازك الملائكة، وديوان "أزهار ذابلة" لبدر السياب. وديوان "خفقة الطين"، لبلند الحيدري.

أما الشاعر بلند الحيدري، فقد كان في تلك الفترة وجودياً، بل تشرّب بالفلسفة الوجودية، كما كان بوهيمياً في انتقاء الحياة التي عاشها آنذاك، وطغت على سمعته من انه لا يتقيد بالأعراف الاجتماعية. ومن تلك القصائد التي تجلى بها تحرره من القافية والوزن، في ديوانه "خفقة الطين" :

مضغَ الحزن شبابي يافعاً

فامضغي بالشهوة القصوى مصيري

لست أهوى جنة الله… ولا

ولا أتمناها رجاء في شعوري

لا… ولاأخشى سعيراً

وصدى سخرية الحزن المرير

فدعي الظن الذي قدسته

نصباً

في معبد الوهم الغرير.

غيّرت هذه الدواوين بدورها مفهوم الشعر، وهزّت الأسس التي يقوم عليها من كلام موزون مقفى، وخرجوا عن الأنماط السائدة التي كان متعارف عليها في نظم الشعر وحققوا مفاجئات كبيرة في الرؤيا الشعرية، فقد أدخل هؤلاء الشعراء أساليب جديدة، محررين الشعر من قيوده القديمة من الأوزان والإيقاعات، كما نأى شعرهم عن المديح أو الإرتهان لجهة معينة، وأصبح حاجة وجودية وإبداعية، حققوا من خلال شعرهم ذاتهم الإبداعية.

وذكر بدر :"إن الأديب حين يصّور هذا الصراع، لا يقف منه موقف المتفرج المحايد- لأنه قبل كل شيء- القضية قضيته والمعركة معركته. وهكذا كان الأدب، وما يزال، سلاحاً من اسلحة الإنسان التي شق ويشق بها طريقه نحو حياة أفضل". كما ذكر بدر أيضاً في مقدمة ديوانه "أساطير":

"أنا من المؤمنين بأن على الفنان ديناً يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه، ولكنني لا أرتضي أن نجعل الفنان – وبخاصة الشاعر- عبداً لهذه النظرية. والشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كل نواحيها، فلا بد من أن يعّبر عن آلام المجتمع وآماله، دون أن يدفعه أحد إلى هذا. كما إنه من الناحية الأخرى يعّبر عن آلامه هو وأحاسيسه الخاصة، التي هي في اعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد المجتمع".

وعندما صدر له ديوان "أزهار ذابلة" في عام 1947، اخذ ينتقل من يد إلى أخرى، وهذا ما وصفه بدر في إحدى قصائده، حيث يقول:

ياليتني أصبحتُ ديواني أختالُ من صدر إلى ثانٍ

قد بتُ من حسدٍ أقول له ياليت من تهواك تهواني

ألكَ الكوؤس ولي ثمالتها ولك الخلود وإنني فانِ

ياليتني أصبحتُ ديواني أختالُ من صدر إلى ثانِ

وهذه القصيدة هي دليل على خيبة الشاعر في هذا الصدد، وقد كتبتْ عنه شقيقتي حياة شرارة :(إذ لم يكن في مقدوره أن يلفت أنظارهن إلى شخصه، وكان ثمة حاجزاً فاصلاً يقوم بين شخصه وشعره، فالأول متوار في الظل لا يلحظه المرء رغم حضوره، والثاني يتألق في الفضاء الرحب المشمس جاذباً إليه الأبصار).

كان بدر يحن إلى مدينته "جيكور" وقد نظم قصيدة حاملاً خيبته وباحثاً فيها عن طفولته:

وتلتفُ حولي دروبُ المدينة

حبالاً من الطين يمضغن قلبي

ويعطين، عن جمرة فيه، طينه،

حبالاً من النار يجّلدن عريَ الحقول الحزينة

ويحرقن جيكور في قاع روحي

ويزرعن فيها رماد الضغينة

***

كما تنبه بدر في وقت مبكر إلى قيمة الأسطورة بوصفها أداة مهمة من أدوات التعبير عن التجربة الشعرية الحديثة. وشاركه بهذا الموضوع الشاعر عبد الوهاب البياتي، وقد برزت المرأة في الأساطير واللاهوت ولا تزال رمزاً جمالياً حيوياً في الحياة المعاصرة. وقد جعلها بدر محطة يستلهم منها السكينة في اجواء الحرمان، فغدت هي الأم والحبية وظل عطشاً لحب المرأة إلى آخر حياته.

فيقول عن أمه التي توفيت عام 1932، أي لم يبلغ بدر الستة أعوام من عمره:

كأن طفلاً باتَ يهذي قبل أن ينام

بأن أمه-التي أفاق منذ عام

فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال

قالوا له: بعد غدٍ تعود

لا بد أن تعودْ

ونظم في ديوانه الثاني " اساطير" قصائد بالشاعرة لميعة عباس عمارة، التي بادلته الحب، (حسبما تدَّعي)، وكانت تلميذة معه في دار المعلمين العالية، ولكن انتهت العلاقة بالخيبة والفراق. فيقول عنها في إحدى قصائده، بعد أن رفضت عرضه بالزواج منها، لأن اختلاف دينهما لا تسمح به تقاليد المجتمع:

أساطير من حشرجات الزمان

نسيج اليد البالية،

***

وهذا الغرام اللجوج

أيرتد من لمسة باردة..

على أصبع من خيال الثلوج

واسطورة بائدة

وتجيبه لميعة بدورها بقصيدة عنوانها "شهرزاد" التي قرأتها في تلك اللقاءات التي كانت تعقد في دارنا، ملّوحة فيها إلى الإختلاف الديني:

أساطير نمقها الأولون

واشباحُ موتى تجوبُ القرون

لتخنق أجمل أحلامنا

وتعبث فينا، فيا للجنون

***

وقد ذكرها بدر عندما ذهب للمعالجة في لندن، في آخر ايام حياته:

ذكرتك يالميعة والدجى ثلج وأمطار

كما ظل بدر يحن إلى قريته جيكور والعراق عندما اضطر إلى العيش في الكويت، إذ تظل العلاقة بين المكان والإنسان متجذرة في أعماق النفس البشرية، فيقول في إحدى قصائده:

الشمس أجمل في بلادي من سواها / والظلام- حتى الظلام، هناك أجمل/ فهو يحتضن العراق

ومن الشعراء الذين اهتموا بالإسطورة، الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان من مواليد عام 1926، وهو العام الذي ولد فيه كل من الشاعر بدر شاكر السياب و بلند الحيدري، وكان له دور في تحديث الشعر، واصدر ديوانه الأول "ملائكة وشياطين" في نفس السنة التي تخرج بها عام 1950. وقد وظّف الأسطورة توظيفاً فكرياً لخدمة اغراض سياسية واجتماعية وللتعبير عن قلق الانسان ومعاناته. وتتعمق علاقته بالاسطورة في ديوانه "الذي يأتي ولا يأتي" الصادر في عام 1982، فتظهر العوالم الأسطورية جلية، فيقول:

عبثاً نحاول ايها الموتى-الفرار/ من مخلب الوحش العنيد

من وحشة المنفى البعيد/ الصخرة الصماء للوادي، يدحرجها العبيد

"سيزيف" يبُعث من جديد من جديد / في صورة المنفي الشريد

واستخدم هنا صورة "سيزيف/ Sisyphus" للتعبير عن صور العذاب والآلالم التي يواجهها الإنسان في عصرنا، ومعاناة انسان اليوم ما هي إلا امتداد لمعاناة انسان الأمس "سيزيف". حيث يمثل بطلها الأسطورة المأساوية، لأن بطلها واعي، ليس لديه أمل في النجاح.

كان عبد الوهاب البياتي ثائراً على الأوضاع مثل بدر، حيث اعتقل مرات عديدة، مما اضطره ان يترك العراق. وهو أحد الأربعة الذين ساهموا في تأسيس مدرسة الشعر العربي الحديث في العراق وأحد رواد الشعر الحر.

فيخاطب حبيبته ذات الشعر الأحمر، ويصف عطرها باللون الأحمر أيضاً، وفي هذه القصيدة يرمز بها إلى توظيف اللون إلى القوة والسيطرة لما يتميز به من خصائص.

يا شعرها الأحمر! ياوردةًّ

أرّقُ ليلي عطرها الأحمر

قلبي شراعٌ حائرٌ واجف

يهوى به شلالك المسكر

شلال ضوء في ضلوع الدجى…

أما نازك الملائكة فقد كانت ثائرة أيضاً حين كتبت في مقدمة ديوانها "شظايا ورماد":

"فنحن عموماً، ما زلنا اسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها اسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة وسدى يحاول افراد منا ان يخالفوا، فاذ ذاك يتصدى لهم ألف غيور على اللغة وألف حريص على التقاليد الشعرية التي ابتكرها واحد قديم ادرك ما يناسب زمانه، فجّمدنا نحن على ما ابتكر واتخذناه سنة". واعتبرت نازك ان القافية هي ذلك الحجر الذي وقف في طريق تطوير الشعر العربي وحرمته من كتابة الملاحم، رغم انها وجدت عند الأمم الأخرى.

وقد كتب عنها الكاتب كريم مروة، "أما نازك فكانت نموذجاً آخر من الشعراء، نموذجاً آخر من النساء. كانت سوداوية بطبيعتها، بسيطة وهادئة لكن عميقة الإحساس بالحياة. حمّلتْ شعرها الجميل الغني بالصور الإنسانية المنفتح على ثقافة عصرية واسعة."

وفي رأي محمد شرارة ظلت نازك شاعرة وجدانية، واكثر قصائدها في تلك الفترة تدور حول العواطف الذاتية، وبرز ذلك في ديوانها "عاشقة الليل" و "شظايا ورماد"، ولكن بعدئذ تطورت نازك تطوراً ملحوظاً. ونظمت في تلك الفترة قصيدتها بعنوان "الكوليرا" عندما انتشرت في مصر واقتات عددا غير قليل من ضحايا البلد، واعتبرت مفتاح تحديث الشعر العربي وتجديده، فقد خرجت هذه القصيدة عن التقليد الصارم في النظم وعمدت إلى كسر عمود الشعر، كما لقيت التقدير والإهتمام لأنها قصيدة تدور حول القضايا الإجتماعية والشعور بمعاناة الناس. فتقول في القصيدة:

سكن الليلُ

أصغ إلى وقَع صَدى الأناتْ

في عُمق الظلمةِ، تحت الصمتَ، على الأمواتْ

صرخاتٌ تعلو، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

يتعّثر فيه صدَى الآهاتْ

في كل فؤادٍ غليانُ

في الكوخِ الساكنِ أحزانُ

في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظلماتِ

في كل مكانٍ يبكي صوت

هذا ما قد مزقّه الموتُ

الموتُ الموتُ الموتْ

يا حُزنْ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ".

اما قصيدتها "في وادي العبيد"، فكان لها صدى كبير في تلك اللقاءت، إنها تعّبر عن معاناتها، وصرخة التمرد في مجتمع الذي لم يفهمها ولا يقدر موهبتها:

لا أريد العيش في وادي العبيد

بين أمواتٍ… وإن لم يُدفَنوا…

جثثٌ ترسَفُ في أسرِ القيودِ

وتماثيل اجتوتْها الأعيُنُ

آدميون ولكن كالقرود

وضباعٌ شرسةٌ لا تُؤمَن

***

قلبي الحرُ الذي لم يفهموهُ

سوف يلقيِ في أغانيه العَزاء

لآ يظنوا أنهم قد سحقوه

فهو ما زال جمالاً ونقاءَ

وعندما اقترنتُ برفعة الجادرجي في عام 1954، وجدت تشابهاً كبيراً بين اجتماعات الشعراء والأدباء في منتصف الأربعينات من القرن الماضي في دار والدي، واجتماعات الفنانين والمعماريين في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. كانت معظم تلك الإجتماعات تعقد ليلة الخميس، حيث يسهرون لساعات متأخرة، وهم في جدل مستمر عما يجب ان تكون عليه وظيفة الفن بالنسبة للمجتمع، كانت في البداية معظم الإجتماعات تعقد في دار الرسام فائق حسن، ثم أصبحت دارنا مكان التقاء المعماريين والفنانين يوم الخميس وأحياناً تقام في دار الرسام محمود صبري.

فقد أسس الرسام فائق حسن مع جواد سليم فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة، في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، كما كان رئيس "جماعة الرواد"، المعروفة سابقاً بجماعة الأس بيSociety Primitive/، بعدما عاد من دراسته في باريس، كانوا في تلك الفترة، مجموعة من الرسامين يرسمون الطبيعة كالرسامين الإنطباعيين في القرن التاسع عشر في فرنسا. ولكن بعودة الفنانين خريجي جامعات إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، الذين درسوا الحركات الفنية المختلفة في أوربا، من التكعيبية والتجريدية والسريالية، لم يعد هذا النوع من الرسم يشبع تطلعاتهم، بل كانوا من الشباب المتمرد والمتحمس الذي يحاول إيجاد أسس جديدة لخلق حركة فنية جديدة في العراق، وابتكار طابع عراقي متميز. كما كانوا متتبعين ما يحدث في العالم ولم تقتصر معلوماتهم على الفن فقط، وإنما شملت المسرح والبالية والآدب.

كان من مؤسسي "جماعة الرواد"، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، فائق حسن ونوري الراوي و من اعضائها اسماعيل الشيخلي والدكتور خالد القصاب والدكتور قتيبة الشيخ نوري وزيد صالح ومحمود صبري وعيسى حنا وغيرهم.

كانوا يلتقون في دار فائق حسن، كانت النقاشات في تلك الأمسيات تتطور ثم تتبلور في ضرورة استحداث فن عراقي حديث متأثر بالمجتمع العراقي، وتكون له قاعدة معاصرة متقدمة، على أن تكون له في نفس الوقت مسحة عراقية خاصة. وكانت تلك المجموعة تؤمن بأن الفن يجب ان يكون ذا موقف انساني، ورابطة اجتماعية يشارك في نقلة الإنسان من التقاليد والجمود الذي يرزح تحته ويعوقه عن التقدم. وبذلك انتقل فائق وجماعته الى مرحلة جديدة في مزج الحداثة وفي نقل جوانب من الحياة الاجتماعية في العراق. كان موقف فائق في البداية، هو يتعين على الفن آلا يكون له علاقة في أي مسألة سوى التقانة المتميزة، ولكن تغير بعد ذلك، عندما انتج فائق اول صورة يصّور بها فتاة أعرابية مع ماعزة، وكان لهذه الصورة أهمية كبيرة، إذ كانت أول صورة استخدمت فيها تقنية مهنية متقدمة، وفي ذات الوقت تمثل موضوعاً محلياً له مسحة ولون وروح عراقية.

كما كان للفنان محمود صبري دور مهم في توجيه الفن نحو المساهمة في الحركة التقدمية بحيث يصبح جزءاً منها، فبدأ عمل محمود وموقفه من الفن يؤثر في الفنانين الآخرين من حيث يعلمون او لا يعلمون. واخذ يقودهم نحو قناة جديدة من فن يعكس حياة اجتماعية ذات واقعية معينة بل ذات صبغة خاصة هي صبغة الثورة العمالية الفلاحية كما يتصورها. فرسم محمود العامل والسجين والنساء الكادحات كالعلابيات، بالوان داكنة وخطوط متناسقة صُهرت لتعّبر عن البيئة العراقية بقوة وأصالة، وانعكست مفاهيمه اليسارية في فنه، لكنه لم يتبع المدرسة السوفياتية الواقعية.

اما المجموعة الثانية، فكانت برئاسة جواد سليم وكان من مؤسسي "جماعة بغداد" عام 1951، ومعه شاكر حسن آل السعيد ومن اعضاؤها أيضاً نزيهة سليم ونزار سليم وخالد الرحال ومحمد غني حكمت، والكاتب جبرا إبراهيم جبرا، والمعمار قحطان عوني. كانت هذه المجموعة تؤمن بأن الفن يجب ان يكون له ابعاد فكرية أخرى، ويجب ان تتوفر الحرية اللازمة للفن وهي حاجة ماسة له في الإبداع، وكلاهما ركّز على الخصوصية العراقية في الرسم والنحت.

كان التطلع نحو الحضارة الغربية بما تنطوي عليه من تكنولوجيا معاصرة في الرسم من جهة، والتعرف على الحضارة العراقية المندثرة من جهة اخرى والتي يكشف عنها النحت السومري والبابلي والآشوري. هذان القطبان المتجاذبان أديا إلى نشوء القفزة إلى النظرة الفنية لدى الفنان العراقي، ولعل هذه القفزة قد حصلت عند جواد بالذات قبل غيره، فقد ذهب جواد في ذلك الزمن المتزمت إلى المبغى العام ورسم هناك العاهرات، كما رسم مرضى الملاريا.

وذكر رفعة: "وأخذ الفنانون الآخرون، بادراك منهم لهذا الإتجاه أم بدونه، يعملون ضمن فن واقعي ذي صبغة معّينة. وقد تجلى هذا ببعض اعمال فائق في مواضيع مثل بيوت الشَعْر والأعراب ومضاربهم، واعرابي مع دلة القهوة والأعرابيات الساذجات. كما تجلى ذلك في أعمال جواد في مواضيعه مثل "البغداديات" و "ليلة الحنة" و"القيلولة"، واشارت زوجته لورنا" من انه كان مفتوناً بمنحوتات وادي الرافدين" .

كان جواد يهدف لخلق لغة فنية فريدة للعراق، مبنية على الفن العظيم لحضاراته الماضية، سومر، بابل، آشور وبالطبع الفن الإسلامي ولكن بلغة القرن العشرين".

وهو اول من حاول كفنان للرسم والنحت الإعتماد على تراث بلده وتوجيه الفنانين المحليين نحو الاسلوب العراقي المميز". وقد كتب عنه الكتاب جبرا ابراهيم جبرا:

" لا يوجد فنان واحد كان له مثل هذا التأثير الكبير على الفن في العراق.. تأثير فاض من حدود العراق إلى بقية العالم العربي".

أما لورنا زوجة جواد سليم فقد اتجهت نحو رسم البيوت البغداية، ذات الشناشيل. عندما أخذت المعاول في هدم البيوت البغدادية القديمة، لتحل محلها البيوت الحديثة التي تمثل معالم التقدم الحضاري بالنسبة للسلطة، وانتبهت لورنا إلى إزالة معالم بغداد القديمة واسلوب العمارة التقليدية التي لم يعرها أهمية الآخرين من الفنانين والرسامين.

كما برز من النحاتين المهمين آنذاك، النحات خالد الرحال الذي درس في معهد الفنون وكان زائرا بانتظام للمتحف العراقي، وابدى اهتماماً كبيراً بمنحوتات وادي الرافدين، قبل أن يدرس في روما، حيث اكمل دراسته فيها و أنضم إلى "جماعة بغداد" في عام 1953. وقد كلف بنحت تماثيل عدة في مدينة بغداد، وصمم العديد من المعالم الأثرية لإحياء ذكرى الشخصيات العراقية التاريخية، مثل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وبناء النصب التذكاري للجندي المجهول، كما قام برسم لوحات زيتية أيضاً.

أما النحات الآخر الذي كان أصغر سناً من خالد الرحال، فهو محمد غني حكمت، الذي أغنى مدينة بغداد بتماثيله أيضاً. كان من جماعة "الرواد" ثم التحق "بجماعة بغداد"، حاول سد الفجوة بين التقاليد والفن الحديث، وله مجموعة من النصب التي تعد من أبرز معالم مدينة بغداد، منها الشاعر المتنبي، وشهرزاد وشهريار من قصة "الف ليلة وليلة"، كما ساعد جواد سليم في فلورنس في نصب 14 تموز.

أما الرسام زيد صالح فقد اهتم في رسم الحصان العربي والمشاهدات الواقعية للطبيعة. ونشأ في بيت يمتهن الفن، فوالده محمد زكي صالح كان من الفنانين التشيكليين، يمثل فنانين العشرينات والثلاثنيات مثل عبد القادر الرسام، ووالد جواد الحاج محمد سليم، وعاصم حافظ وغيرهم.

لم يقتصر البحث على تجديد الشعر والرسم والنحت في العراق فقط، وإنما شمل العمارة أيضاً. فقد عاد في الأربعينيات والخمسينات من القرن الماضي معماريون تخرجوا من الجامعات في أنكلتر والولايات المتحدة، وكان لهم أثر في تطوير العمارة العراقية، كما كانوا جزءاً من الحركة الفنية، حيث اصبحوا بعد فترة من الزمن قادة العمارة في الشرق الأوسط، مثل محمد مكية ورفعة الجادرجي وقحطان عوني وقحطان المدفعي. وبرزت ثلاث أتجاهات:

المعمار محمد مكية الذي استعمل الزخارف والنقوش الإسلامية من غير تطوير جذري ملموس، ولكنه وضعها ضمن هيكل معاصر متقدم ودمجها في العمارة الحديثة كنقوش فقط.

والنقلة الثانية هي التي قام بها رفعة الجادرجي، وقد صهر التراث بالحداثة، وآلا يكون عبداً للتراث، وإنما التراث وسيلة لإعطاء طابع محلي بتقنية حديثة، بما في ذلك مسألة الهوية.

وقد كتب رفعة في كتابه الإخيضر والقصر البلوري: " أخذتُ أبحث عن أسلوب أو عن سنن أتمكن بموجبها من استحداث أشكال زخرفية أو إدخال معالم في العمارة تعطيها طابعاً عراقياً، بالإضافة إلى إيجاد الحلول للمشاكل البيئية والمناخية التي كنت أفكر فيها وأعمل على إكتشافها.. إن نقل الزخارف نقلاً حرفياً جعلته من الأمور المحظورة بل المحرّمة عليّ، ذلك لأن النقل يعني بالنسبة لي شكل معين من غير اللجوء إلى استخدام تلك التقنية وبكامل مكوناتها التي ولّدت الشكل أصلاً. وبما أن التقنية التي ولّدت الزخرفة الإسلامية قد انعدمت، أو إن أهم مكوناتها قد بليت نتيجة التطور الحاصل في أساليب الإنتاج. فإن النقل إذن سيكون عبارة عن مسخ للشكل القديم ومسخ للتقنية الحديثة ومسخ للفن المعاصر الذي يجب أن يتوافق معه توليد الشكل الجديد ويكون أحد نتاجاته".

كان رفعة يصور اعماله من بداية الأسس حتى نهاية المشروع. سألته ذات مرة لماذا تصور اعمالك منذ بدايتها، أجابني: لأنني أعلم أن معظم الأبنية التي اصممها لن يبقى منها إلا القليل، فنحن من الدوارس، وقد هدمت بعض الأبنية التي صممها وهو ما زال على قيد الحياة، مثل نصب "الجندي المجهول" وبناية "التأمين الوطنية" في الموصل.

أما قحطان عوني فقد حاول ان يعطي طابعاً محلياً عندما صمم جامعة المستنصرية باسلوب حديث. كما إن بعض المعماريين التزموا بالأشكال المعمارية الغربية من غير الإلتفات إلى مفهوم متطلبات الحاجة والمتطلبات المحلية، مثل هشام منير.

بالإضافة إلى ذلك فقد دعت وزارة الإعمار خلال الخمسينيات من القرن الماضي، أهم المعماريين الأوربيين وألامريكيين الذين كان لهم دور مهم في تطوير الهندسة المعمارية نحو الحداثة في تلك الفترة، وكان معظم الذين دعيوا قد شاركوا في تأسيس حركة الباوهاوس في المانيا، مثل المعمار ولتر كروبيوس/ Walter Gropius، الذي كُلف في تصميم جامعة بغداد، وهو الذي أسس الباوهاوس في فايمار في ألمانيا، وقلبت تلك الحركة المفاهيم المعمارية آنذاك، وركّزت على البساطة والوظيفة وقابلية الوصول في التصميم إلى المتلقي. وبدأت تلك الحركة، في عام 1919 حتى 1933، وكان لها تأثير كبير على التصاميم الحديثة. وجمع فيها المفكرين من المعماريين والرسامين والمصورين ومخرجي السينما، ويعتبر كروبيوس من المعماريين الطليعيين الذين كان لهم أثر مهم في المدرسة الحديثة، والأسلوب الذي عمّ العالم، وما قامت به مدرسة الباوهاوس من الجمال والنوعية في العمارة. كما كان لها تأثير على الحركة الفنية ومن الذين عملوا معه الرسام بول كلي/ Paul Klee، والرسام فاسلي كاندنسكي/ Wassily Kandinsky، والفتوغرافي لازلو ماهولي ناكي/Laszlo Moholy-Nagy .

كما دعي أيضاً في تلك الفترة إلى بغداد، المعمار الأمريكي فرانك لويد رايت الذي انيط به تصميم أوبرا في بغداد، والمعمار الفرنسي لوكوربوزية الذي قام في تصميم ملعب الشعب.

ولكن – مع الأسف- معظم هذه المشاريع لم تنفذ بل ظل بعضها تخطيط على الورق. لكن استمرت هذه النهضة أثناء عقد الخمسينيات حتى ثورة 14 تموز، واستمرت في تطوير الفن خاصة، إذ بعد ثورة 14 تموز، طلب عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء آنذاك من رفعة الجادرجي الذي كان مدير الإسكان آنذاك، تصميم ثلاثة أنصبة، أحدهم: الجندي المجهول والثاني نصب ثورة 14 تموز والثالث نصب الحرية.

فصمم رفعة نصب الجندي المجهول، وذهب إلى دار جواد، ودار الحديث بينهما: قال له: لقد طلب مني عبد الكريم قاسم تصميم نصب لثورة 14 تموز، وسيكون النصب في بداية حديقة الملك غازي سابقاً التي سميت بساحة التحرير. وسأجهز لك المكان الذي يوضع فيه النصب، والموضوع سيكون عن: ما قبل الثورة، والثورة وما بعد الثورة. وسيكون لافتة بخمسين متراً. تحّمس جواد جداً للفكرة، وأجاب رفعة: إنه لم ينُحت نصب بهذا الحجم منذ زمن الآشوريين.

وبعد أن صمم رفعة لافتة نصب 14 تموز، عرض التصاميم الأولية على جواد سليم، وقال له" "هذه لافتة طولها خمسون متراً وارتفاعها عشرة أمتار، فهل تستطيع ملأها بنحت برونزي؟ فتأمل جواد قليلاً، وقال إن هذه أعظم فرصة في حياتي، وإن هذا العمل سيجعلنا نرتبط بالآشوريين وإنه سيكون أكبر عمل في العراق لمدة طويلة".

وطلب منه رفعة كما ذكرتُ سابقاً، ان يقّسم الجدار ما قبل الثورة فيرمز إلى التهيوء لها، والثورة، وبعد الثورة الذي يرمز إلى الإزدهار المتوقع في الصناعة والزراعة.

وقد اكُمل النصب بعد وفاة جواد سليم المفاجئ، في عام 1961.

في عقد الستينيات، ظهر جيل آخر من الفنانين، الذين كان بعضهم تلامذة الجيل الأول، واستمرت الحركة الفنية خلال ذلك العقد، بالرغم من الأوضاع السياسية والانقلابات التي حدثت وأدت بدورها تدريجياً إلى هجرة العقول من العراق.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 28-10-2024     عدد القراء :  264       عدد التعليقات : 0