أعلنت لجنة الصحة والبيئة النيابية في (26 /10 /2024) عن تحركها لتشريع قانون الصحة النفسية وزيادة التخصصات الطبية، فيما أشارت الى أن الفحص المبكر لمدمني المخدرات سيشمل طلاب الجامعات والمتزوجين. واضافت بأن اللجنة بصدد تشريع قانون الصحة النفسية لأن الوضع العراقي بحاجة للقانون لوجود الكثير من الحالات النفسية مع ضعف وقلة المؤسسات الصحية النفسية.
ومع ان هذه الخطوة جاءت متأخرة، فأن الجمعية النفسية العراقية التي تضم المتخصصين في الصحة النفسية والأرشاد النفسي في الجامعات العراقية تبارك هذه الخطوة، وتتقدم بعدد من المقترحات لتضمينها،متفضلة، في القانون.
اننا ننطلق من حقيقة ان ما جرى في العراق خلال الأربعين سنة الماضية ( 1980- 2020) انه صار مختبرا حقيقيا لعلم النفس تعرّض فيها ملايينه الى حروب كارثية، بدءا من الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثمان سنوات وما نجم عنها من فواجع وفقدان أحبة، الى حرب العراق على الكويت، الى ثلاث عشرة سنة من حصار اكل فيها العراقيون خبز النخالة المعجون بفضلات الصراصر، فالحرب الأمريكية على العراق (2003)، فالحرب الطائفية (2006- 2008) التي اوصلت العراقي الى ان يقتل اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة( ما اذا كان الآخر اسمه عمر او حيدر او رزكار!)..الى حرب داعش وسقوط الموصل..ووصولهم الى مشارف بغداد..الى تناقضات ومفارقات في علاقة السلطة بالناس بعد 2003 وما احدثته من تغييرات في الشخصية العراقية..من أخطرها، ما اصاب الفرد العراقي من تدهور في صحته النفسية.
وما لا يدركه كثيرون ان ما اصاب الصحة النفسية من ضربات موجعة ومتتالية، هو السبب الرئيس في تضاعف عدد حالات الطلاق والانتحار والمخدرات..التي وصف حالها في العراق رئيس لجنة مكافحة المخدرات النيابية السيد عدنان الجحيشي في (9 / 9 / 24) بقوله:(ان العراق قد يمسي زارعا ومصنّعا ومنتجا ومصدّرا للمخدرات،وانه لا يستبعد تورط سياسيين في تجارة السموم، وقد يأتي يوم يكون فيه رئيس الوزراء..تاجر مخدرات!).
ومن جانبنا.كنا قدمنا اكثر من عشر محاضرات وندوات عن المخدرات في عدد من المدن العراقية، آخرها ثلاث محاضرات هذا الشهر(تشرين اول) في كلية المنصور الأهلية، وكلية العلوم الأسلامية، وكلية الآداب بجامعة بغداد، فيما لم يقدم أي طبيب نفسي عراقي محاضرة في التوعية الجماهيرية عنها..ما يعني ان الصحة النفسية لا تخص الأطباء النفسيين فقط ولا تسعها عيادات الطب النفسي.
المقترحات
بهدف ان تكون مبادرتكم النبيلة بـ(تشريع قانون الصحة النفسية) مجدية لملايين العراقيين الذين ما يزال عدد كبير منهم يعاني من حالات اكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. وانطلاقا من حقيقة ان المفهوم الصحيح للصحة النفسية او الصحة العقلية (Mental Health) لا يعني غياب الضيق أو الكرب (Distress) أو إنعدام الصراع داخل الذات، بل يعني التفكير بوضوح وبشكل عقلاني وعلى نحو منطقي مصحوباً: بالتمكن من مواجهة التغيرات التي تفرزها الحياة، وكيفية التعامل مع الضغوط، والقدرة على التصدي للصدمات وتحمل وطأة الأخفاقات والفشل، والمحافظة على الاستقرار الانفعالي والاتزان الوجداني..وصولا الى تحقيق ما اكدته نتائج البحوث الحديثة بأن الأشخاص الذين يتمتعون بالصحة العقلية والنفسية، يتصف سلوكهم بـ: إدراك الواقع كما هو، تقبل البيئة الطبيعية والبشرية، النظرة الواقعية الى تحديات الحياة، تحمّل المسؤولية، تقييم النفس بشكل متوازن، إقامة علاقات إنسانية حميمة، العمل بما يتلاءم والقدرة العقلية، الشعور بقيمة الإنجاز وثمرة الجهد، وتعزيز الجانب الروحي بالمعنى الإيجابي للإيمان.
وواضح ان هذه الأمور أوسع من عيادات الأطباء ولا يستطيع الطبيب النفسي تحقيقها لوحده، وانها اذا اقتصرت على الأطباء النفسيين فقط فأنهم سيكونون هم الوحيدون المستفيدون، ولن تكون مجدية على صعيد اربعين مليون عراقي هم المحتاجون الحقيقيون لها.غير ان مبادرتكم الأنسانية هذه ستضمن تحقيق هذه الفائدة ان تضمن مشروع القانون المقترحات الآتية:
أولا: الزام الأطباء النفسيين بأن يكون في عيادة كل واحد منهم، استشاري نفسي متخصص في الصحة النفسية ولديه ممارسة في واحد او اكثر من اساليب العلاج النفسي (السلوكي، المعرفي، التحليل النفسي، العلاج بين الأشخاص..) يساعد الطبيب في علاج بعض الحالات، والتشاور معه فيما اذا كان المراجع بحاجة الى علاج نفسي فقط ام دوائي فقط ام كليهما..والجمعية النفسية العراقية يسعدها التعاون مع زملائنا الأطباء النفسيين.. وبما يرضيهم.
ان تحقيق هذا المقترح ليس سهلا، ذلك أن الأطباء النفسيين في العراق ينظرون الى اساتذة علم النفس في الجامعات العراقية نظرة استعلاء، وقد صارحناهم بذلك فتم في 2004 عقد اتفاقية تعاون بين رئيس جمعية الأطباء النفسيين العراقيين الصديق الدكتور نصيف الحميري وبيننا بصفتنا رئيس الجمعية النفسية العراقية. غير ان ذلك لم يتحقق عمليا، دليل ذلك ان وزير الصحة الحالي الصديق الدكتور صالح الحسناوي عيّن مستشارين في الوزرة من اطباء نفسيين فقط، بينهم من ليس مقيما في العراق!، برغم ان الجمعية النفسية العراقية رشحت احد اعضائها الكفوئين، ولم يستجب رغم عتبنا الأخوي.
ثانيا: اشاعة الثقافة النفسية
يفهم من القانون بأنه خاص بالأطباء، وكأن المسؤول عن الصحة النفسية هم الأطباء النفسيون فقط، وان علاجها يكون داخل عياداتهم فقط..وهذا فهم قاصرينطلق من حقيقة ان الذين يحتاجون الى مراجعة الطبيب النفسي هم القلّة، وأن الكثير من الذين يحتاجون المراجعة لا يراجعون لأنهم يعتبرونها وصمة اجتماعية،فالذي يراجع الطبيب النفسي هو ( مخبل) بالتعبير العراقي..ما يعني أن الأهم في تحسين الصحة النفسية للعراقيين هو اشاعة الثقافة النفسية بين ملايينهم عبر وسائل الأعلام المسموعة والمرئية والمقروءة..ولنا في ذلك تجربة ناجحة.
التجربة- حذار من اليأس
في العام 1991 قدمنا برنامجا دراميا اذاعيا استمر الى عام 2007، ويعد اطول برنامج درامي اذاعي على صعيد الأذاعة العراقية والأذاعات العربية. تقوم فكرته على تحويل مشكلة اسرية، نفسية، اجتماعية، عاطفية… ترد من رسائل المستمعين بتحويلها الى دراما. ولأن البرنامج يتمتع بالمصداقية في طرحه مشكلة واقعية، ولأنه كان يستقطب خيرة الممثلين والممثلات وباخراج مميز، فأن معظم العوائل العراقية كانت تضع مؤشر الراديو على اذاعة بغداد كل يوم جمعة الساعة العاشرة. ونظرا لنجاحه فقد طلب تقديم البرنامج تلفزوينيا ايضا وقد حصل. وحين توقف البرنامج بسبب ما حصل في مؤسسة الاذاعة والتلفزين بعد 2003،واصلت تقديمه صحفيا في جريدة الصباح بصفحة كاملة..دخلت الآن سنتها العاشرة في تجربة اعلامية لم تحصل على صعيد الأعلام العربي ان برنامجا دراميا وصحفيا يستمر ربع قرن.. ويبقى مطلوبا!.
وهناك شهادة بحقه موثقة بأسم المستشار الاسبق في وزارة الصحة الدكتور( صباح صادق)، اذ قام بطبع كتاب بعنوان (حذار من الياس) على نفقة الكلية البريطانية – فرع الشرق الاوسط، جاء في تقديمه له:( ان الجهود التي بذلها الدكتور قاسم حسين صالح على مدى العشرين سنة الماضية في اشراك الاعلام الهادف للنهوض بالصحة النفسية المجتمعية واشراك الجهات الرسمية وذوي الاختصاص في هذا المشروع يدعو الى الفخر والاعتزاز). وما نتمناه عليكم هو ان تتبنوا هذه التجربة في ايجاد من يخلفنا بعد ان نغادر الدنيا.