الكاتب والباحث الاجتماعي الدكتور علي الوردي كان مثيراً للجدل والإثارة التي تتعايش معها الأجيال تحت طاولة البحث والنقد، وما استجد من ادوات ومناهج علمية مبتكرة في تقييم الأفكار وخاصة أفكار الوردي رحمه الله، سيما أفكار المتابعين المتعددة الفهم.
صدر عن دار لندن للطباعة والنشر عام 2023م الطبعة الثانية للكاتب والباحث صادق جعفر الروازق، كتابه الموسوم (علي الوردي… مقاربات إصلاحية في فهم الدين والذات)، والكتاب من القطع الوزيري الذي احتوى على (292) صفحة، وزين الغلاف بصورة الراحل الوردي.
كُسرَ الكتاب إلى مقدمة للطبعة الأولى والثانية وثلاثة عشر موضوعاً وخاتمة، وقراءات حول الطبعة الأولى من قبل الكُتّاب منهم: (الأديب قاسم شاتي، د. صلاح كاظم جابر، الشيخ عيسى الخاقاني، د. عدنان يوسف، الناقد ثامر أمين).
تناول الروازق في كتابه موضوع (الوردي في دائرة التعريف)، في ص15 تناول سيرته الذاتية والجامعية ونشأته وكتاباته في عقد الثلاثينيات أديباً مثابراً، ثم تخصصه في علم الاجتماع واصداره أول مؤلف عام 1951م تحت عنوان (شخصية الفرد العراقي)، ومن ثم كتابه (خوارق اللاشعور)، و(وعاظ السلاطين)، و(مهزلة العقل البشري)، و(اسطورة الأدب الرفيق)، و(الأحلام بين العلم والعقيدة)، و(منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته)، و(دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)، و(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بأجزائه الستة.
ويذكر الكاتب في ص16 من الكتاب؛ ما اشار إليه الوردي من اشتغالاته بكتاب تحت عنوان (تاريخ الصراع الطائفي في العراق)، وكتاب آخر (حول طبيعة البشر)، والأخير كان وفق وصف الوردي أنه كتاب العمر الذي وضع فيه حصيلة دراساته وتجاربه. كما أن هناك عنوان مشروع لكتاب الوردي (الحقيقة الضائعة في الإسلام)، يتحدث فيه عن موضوع الخلافة وخلافة الإمام علي خاصةً. إلا أن جميع تلك المؤلفات الثلاثة الأخيرة؛ لم ترَ النور.
في هذا السياق، سنحاول استعرض نظرية الإصلاح الاجتماعي عند عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، باعتباره مفكراً كبيراً ومصلحا متميزاً في الدراسات السوسيولوجية ذات الطابع النقدي، وبالأخص فيما يتعلق بحركة الإصلاح الاجتماعي حول المجتمعات العربية والإسلامية لمعرفة أسباب التخلف والجمود فيها وسُبل الخروج من هذه الحلقة المفرغة.
وقد عرفت مؤلفات الوردي بنقدها الصارخ للفكر الديني وبعض رجالات وعاظ السلاطين، فضلاً عن نقده للعادات والتقاليد الشعبية السائدة والمعروفة في المجتمع العراقي، فكان المعروف عنه وفق ما طرحه الاستاذ الروازق في ص17 إن الوردي في جميع كتاباته، كتابات (مقنعة وترضي كل شرائح المجتمع العراقي… لا سيما نقده الصارخ لأشياء لم يكن نقدها مألوفاً، تكاد تكون بمنزلة الثابت المقدس من قبيل بعض أدبيات الفكر الديني وبعض رجالاته من وعاظ السلاطين).
ومن السمات التي تميزت بها طروحات الدكتور الوردي، يطرح الكاتب الروازق في ص19 وما بعدها خمسة عشر سمة يتمتع بها الوردي منه: (التواضع، الجدلية، الديمقراطية، الوطنية العراقية، تبنيه للتيار الليبرالي، تحديده معالم اعمدة الشخصية العراقية، إيمانه بالموروث الفكري، اعتماده في كتاباته على المصادر التاريخية، نقده للعلل الاجتماعية، اسلوبه الحكواتي في الكتابة، حواره المؤدب ونقده الشجاع، لم يعرف تحامله على الدين، يرى الوردي صعوبة تحرير الدين من الفكر العشائري، لم يكن سياسياً، وأخيراً تمسكه بالقيم الأخلاقية).
كما يطالعنا الكاتب في ص22 إلى مصادر مؤلفات الوردي مشيراً إلى (الكتب والمقالات والبحوث والنشرات، ملاحظاته الشخصية)، ثم يدرج الكاتب أهم اعمال من كتب عن الراحل الوردي، وقد تجاوز عددهم الـ(19) كاتباً وباحثاً.
أما الموضوع الآخر من الكتاب فقد تطرق حول موضوع ازدواجية الشخصية في الفرد العراقي، في ص27، سلط الضوء، قائلاً: (حقيقة هذه الظاهرة تكمن في القراءة الخاطئة من خلط المفاهيم، فالدكتور الوردي ومن خلال ادواته البحثية في علم الاجتماع استطاع أن يوضح هذا الخلط من خلال حالة التمييز بين ازدواج الشخصية كمرض وبين ازدواج الشخصية كظاهرة اجتماعية تحصل في اغلب المجتمعات، وحتى المجتمعات الراقية منها).
فالأزدواج يعتبر من الناحية النفسية مرضاً نادراً يعتري بعض الأفراد من جراء عوامل وظروف خاصة بهم. أما ازدواج الشخصية وفق منظور علم الاجتماع فهي لم تكن مرضاً نفسياً وإنما ظاهرة اجتماعية بسبب ثنائية الصراع بين القيّم والصراع الثقافي، لذلك نجد الفرد العراقي من خلال حياته اليومية متقمصاً لشخصيتين مختلفتين.
ويعقب الكاتب في ص34 حول ما تركه الوردي من نظريات وآراء، قائلاً: (العجيب الغريب المحبب في نفس الوقت، أن يترك الوردي نتائج نظرياته وآرائه بأعلى درجات الصراحة والصدق، ولن يأخذ اعتبارات الرد والنقدية لرجال الدين وطبيعة قيم المجتمع العراقي، ولم يخشَ من غضب عوام الناس).
كما طرح الكاتب في ص35 موضوع الدوافع القهرية في الإنسان وفق توجهات الوردي وفق وجه المقارنة بين فرد وآخر، وهي (الحسد، الوسوسة، المشاكسة، دوافع السرقة، دوافع المماطلة، دوافع الحرص، دوافع الإيذاء، دافع الاستهزاء، دافع الكذب، دافع الاغتياب، دافع الكلام، دافع الخصام، دافع العصبية)، وهناك دوافع قهرية أخرى لا يستحسن ذكرها لارتباطها بالجنس. ولا ننسى الأمراض التي اصابت الفرد العراقي من عقدة النقص والجدال البيزنطي والتفرد.
ويعتبر الوردي أحد الكُتّاب الذي كان لهُ موقف من معالجة ازدواج الشخصية العراقية المتأصلة جذورها بسبب التمسك بالمثل العليا وصراعها مع القيم الاجتماعية والدينية والعشائرية، فقد برزت بعض الظواهر الاجتماعية في الفرد العراقي في عهد الدكتاتورية البعثية؛ بين النفاق والوشاية، وهذا بسبب اساليب الترهيب والترغيب الاجباري وقسوة الحروب وأزمنة الحصار. وقد طرح الكاتب في كتابه، من أن الوردي فاته (أن يدرس ظاهرة الغلو عند الفرق الإسلامية، ومدى ارتباطها بظاهرة ازدواج الشخصية عند الفرد العراقي).
أما حول موقف الوردي من موضوع الخلافة، ففي ص55 يطرح الكاتب حول موضوع الخلافة وخطورتها في المجتمع العراقي تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً؛ وفق آراء الوردي في كتبه المتعددة. ويقف الوردي كثيراً من طبيعة النزاع التاريخي بين اصحاب علي واصحاب عمر، وحول ذلك يتساءل (ما هو السبب الذي جعل “علي وعمر” متباعدين بعد موتهما، بينما كانا في حياتهما متقاربين تقارباً واضحاً)، ومن يرغب في التوسع في هذا الموضوع مراجعة كتاب الوردي (مهزلة العقل البشري ص200 وما بعدها). فضلاً عن أن الكثير من الكُتّاب يعتقد إن الإمام علي (ع) لم يكن له ميل كبير لاستلام منصب الخلافة بعد وفاة الرسول (ص)، ومنهم: ابن أبي الحديد في كتاب شرح نهج البلاغة، ج6، ص11-13، والسيد أحمد القبانجي في كتابه (خلافة الإمام على بالنص أم النصب)، أما الشيخ محمد مهدي شمس الدين فيطرح رأيه الاستاذ الروازق وفق ما جاء في مؤتمر الوحدة الإسلامية في لندن، وقد نشرته مجلة الموسم في عددها السابع – المجلد الثاني لعام 1990: (إن الإمامة ليست بالضرورة قيادة سياسية، وإنها بالدرجة الأولى إمامة تشريع وليست حكومة كما استقر مؤخراً في الوعي الشيعي العام، هو أيضاً ممن يقولون بولاية الأمة، إلى غير ذلك من الآراء المهمة والمثيرة للجدل).
أما ما طرحه الوردي كما ورد في ص59 من كتاب الروازق (يقول الوردي: كان علي (ع) يرى أنه أولى بها من غيره، بينما كان عمر يريد الخلافة لأبي بكر يتولاها من بعده… إن هذا الأمر طبيعي لا داعي للعجب منه، فمن حق كل إنسان أن يطمح إلى الرئاسة إذا وجد في نفسه الكفاءة لها، وعلى هذا قام نظام الديمقراطية أو نظام الشورى كما سماه الإسلام)، ومن يرغب بالتوسع والاطلاع مراجعة كتاب الوردي (مهزلة العقل البشري ص200).
لذلك نجد الوردي يأسف على وعاظ السلاطين الذين يأخذون من الدين ظاهرة بعيداً عن الغور في مبادئه ومضامينه، فيفضلون خليفة على آخر. ويؤكد الروازق في ص73 من الكتاب قائلاً: (مما يؤسف له ونحن بصدد بيان منهج علي ودفاعه عن الشيخين صدور مؤلفات عديدة لمؤلفين بعضهم ممن شهد لهم الوسط الشيعي بشيء من العلمية والباع في التحقيق، ورسمت مساراً خلاف منهج أمير المؤمنين تضمنت الكثير من سب وشتم الصحابة).
لذلك نجد الدكتور الوردي قد درس موضوع الخلافة وما ترتب عليها من صراع وتنازع وخلاف بين فقهاء وعلماء الفرق الإسلامية، وكانت الدراسة وفق ادواته البحثية وما يتطلبه منهج علم الاجتماع. ويطرح الروازق رأيه حول الأحتراب والمحاصصة الطائفية في ص79 من الكتاب، قائلاً: (لا شك أن عملية المحاصصة الطائفية هي عملية احتراب يبدأ بها من جنس آخر. وما أحرى بعلماء الطائفتين التحلي بالشجاعة الرافضة لهذه الفرقة وهذا التمزق التاريخي الذي نخر جسد الأمة الإسلامية وجعلها أمة خاوية لا تفقه إلا مسائل الخلاف والتفاضل بين هذا الخليفة وذاك مع ما عندها من ثقافة السب واللعن والإلغاء).
ثم يطرح الكاتب في كتابه عن الديمقراطية والاستبداد في الإسلام ورأي الدكتور الوردي فيها، والتشريع الإسلامي ورأيه في الارتداد وحكم المرتد وفق مفاهيم مشاهير المفكرين امثال: السيد محمد باقر الصدر والسيد ابو القاسم الخوئي والزمخشري والسيد قطب والسيد محمد حسين الطباطبائي والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين والدكتور عبد الكريم سروش.
لا ننسى أن طبيعة الإنسان قد يمر بمراحل فكرية وعقائدية عديدة وفق الظروف الموضوعية والاجتماعية والاقتصادية التي يكون لها أثر كبير في تغير معتقده، فمن الصعوبة أن تحكم على الإنسان بجريرة ما أقدم عليه، لكن قد تتغير افكاره وسلوكه وفق اطلاعه على افكار وعقائد الآخرين.
إلا أننا نجد الدكتور الوردي أحد المتتبعين والمنصف للاصلاح الاجتماعي ودعوته إلى العدالة الاجتماعية في كتاباته مع ما طرحته النظرية الماركسية لا كما يطمح له الشيوعيون. والدين لدى الوردي هو ثورة العدالة الاجتماعية ورمز هذه الثورة الامام علي بن أبي طالب وصاحبيه أبي ذر وعمار بن ياسر، والدين الإسلامي يختلف عن دين الشعائر والطقوس، فهو دين العدل والمساواة وتقليص الفوارق الطبقية.
ولهذا لم يكن للوردي موقف سلبي من الدين كما يعتقد البعض، لكن الدين وفق مفهومه وظيفة التغيير النابعة من الإسلام نفسه، حيث هدفه الأسمى الإنسان. ويرى الروازق حول معتقد الوردي في موضوعات الدين كما ورد في ص178، قائلاً: (يعتقد الوردي أن بعض موضوعات الدين ما يجب أن تكون ذات حركة واسعة في المجتمع، والأدق أن في بعضها ما يدفع إلى تعبئة الأمة نحو تغيير واقعها سواء كان عن طريق الثورة أم عن طريق المطالبة السياسية).
أما موضوعة (المرأة في القراءات الإسلامية) فيرى الروازق حول موقف الوردي في هذا الموضوع كما ذكر في ص187، قائلاً: (وما دفاعات الوردي عن المرأة وبعض شطحاته بهذا الخصوص فهي مثلما جاءت أشبه بردود فعل قوية للقراءات والتفسيرات التي اوردها علماء المسلمين).
أما موضوعة الشعائر والطقوس التي وصفها الوردي في دائرة النقد، يذكر الكاتب الروازق في ص209 حول ذلك ما يلي: (الدكتور الوردي يرى في ممارسة بعض الشعائر، دخول الخرافة والأساطير في الدين الإسلامي، وكما عرف عن الوردي أنه ينظر إلى الدين كوسيلة للتحرر من الانعتاق والعبودية. وينظر له على أنه ثورة على كل ما ينافي الإنسانية، والذوق الإنساني وفق ما يتقبله العقل). ويعتمد الروازق على طروحات الوردي وفق مؤلفاته واهمها مهزلة العقل البشري.
أما موضوعة (الغلو عند المذاهب)، فقد اتفق معظم علماء الشيعة على الوقوف ضد الغلو والغلاة ومنهم: الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ محمد الخالصي والدكتور كامل مصطفى الشيبي والدكتور أحمد الوائلي، ويذكر الروازق في كتابه ص229 رأي الدكتور الوردي، معلقاً على كلمات الشيخ محمد جواد مغنية في رد الأخير على الدكتور طه حسين (وإذا كان مذهب التشيع يقوم على اساس الثورة على الظلم والاستبداد فهل نحن شيعة حقاً! وهل نحب علياً وبنيه!)، وكان يطلق الوردي على هذا الرد قائلاً: (إن هذه كلمة رائعة حقاً، يجدر أن توضع في بيت كل مسلم يدعي حب علي بن أبي طالب أو التشيع له). ثم يطرح الكاتب في كتابه ص235 حول الشعر الجاهلي وثورة طه حسين.
ومن خلال هذا الموجز للكتاب نجد الكاتب والباحث الأستاذ صادق جعفر الروازق قد سلط الضوء على مواقف وأفكار الدكتور علي الوردي في مجال الدين والذات وفق قراءة تنويرية لأفكار وآراء الراحل الوردي رحمه الله.