في هذا الملف نسلط الضوء على سوء الإدارة البيئية والتخبط والفشل في عمل وزارة البيئة العراقية ومؤسساتها، خلال العقدين الأخيرين، متضمناً استعراضا لقرارات وخطط وبرامج ومشاريع وطنية مقررة لتحسين البيئة، لم تُنفذ، أو فشلت، أو ظلت حبراً على ورق، نتيجة للتخبط والعشوائية وحتى التقصير، والضحك على الذقون بالوعود المعسولة التي لم تتحقق...
تأريخياً، يُسجل لحماة البيئة العراقية أنهم أول من طالب باستحداث وزارة للبيئة، واستبشروا خيراً حال تشكيلها في عام 2003، معولين ان تنهض عاجلا، بمعالجة التركة الثقيلة من المشكلات البيئية، وفي مقدمتها التلوث البيئي، خاصة التلوث الإشعاعي، والنفايات، خصوصاً المخلفات الحربية، وتحسين جودة الهواء والمياه والتربة، ودرء تداعيات التغيرات المناخية، الى جانب إدارة الموارد الطبيعية، وبالتالي تحسين الواقع البيئي المزري..
بيد أنه سرعان ما خاب التعويل على وزارة البيئة إثرَ افتقارها طيلة سنوات لتخطيط بيئي استراتيجي سليم، بل وتخبطها وانتهاجها للعشوائية في اتخاذ القرارات وإنجاز المهمات، وبالتالي لم يحصل أي تحسن في معالجة المشكلات البيئية، بل وتفاقمت أكثر.
ولابد من توضيح ان ذلك يعود لعوامل عديدة، ومنها ما فرض على الوزارة فرضاً وأثر كثيراً على عملها..
ومن أبرز العوامل التي أثرت على الوزارة وأعاقت عملها:
أولا- اعتبار مهمة الوزارة رقابية، وليست تنفيذية. والإصرار على ذلك مع أنه كان بالمستطاع جعلها رقابية وتنفيذية في اَن واحد.
تانياً- وجهت للوزارة ضربة موجعة بتجريدها من استقلاليتها، عبر دمجها بوزارة الصحة، مما أربك عملها كثيراً.
ثالثاً- أفضى تكرار جعلها مرة مستقلة ومرة مُدمجة ومن جديد مستقلة، الى عدم استقرارها، وشل عملها، وجعلها تتخبط وترتبك وحتى الفشل في جوهر مهماتها الأساسية المأمولة - تحسين وحماية البيئة.
رابعا- تجاهل الحكومات المتعاقبة بشكل صارخ للمشكلات البيئية القائمة، مجسداً بإهمال دعم عمل الوزارة، وعدم توفير كل ما احتاجت إليه من كوادر علمية وفنية ومعدات حديثة، وغيرها.
خامساً- بؤس المخصصات السنوية. يكفي ان تعرفوا ان مخصصاتها التشغيلية والاستثمارية في عام 2023 كانت (0.03 في المائة) من إجمالي الموازنة العامة (198 تريليون دينار). وقد أعاق ذلك تنفيذ الكثير من المشاريع الحيوية.
علماً بان الفقر المالي للوزارة جعلها ان لا تكون ضمن قوائم المؤسسات الخاضعة المحاصصة الطائفية والإثنية، وليست مرغوبة من قبل الأحزاب المتنفذة.
سادساً- تناوب على إدارتها 8 وزراء، أغلبهم لا علاقة له بالبيئة ومشكلاتها، ولذا لم ينجحوا في إدارتها.
سابعاً- الظاهرة المُعيبة في إدارة الوزارة، والوزارات الأخرى، ألا وهي انعدام المراجعة وتقييم الأداء، حيث لم يكلف غالبية الوزراء أنفسهم عناء متابعة وتدقيق ما صدر من خطط وإجراءات في الفترة السابقة لهم، ليستفيدوا، ولا نقول ليتعلموا من إيجابيات ما تم إنجازه، وتطويره، الى جانب الوقوف على الأخطاء والنواقص لتجنب تكرارها. وقد تجسد ذلك بإهمال كل وزير جديد لمنجز من سبقه، بما في ذلك من قرارات وتوجهات مهمة، مدروسة ومقرورة.
ثامناً- تجاهل وإهمال الوزارة لكل ما قُدِمَ لها خلال عقدين من دراسات ومشاريع ومقترحات وتوصيات علمية وبناءة، وبضمنها لمؤتمرات علمية دولية كُرِست لمعالجة التلوث باليورانيوم في العراق. وتجاهلت حملة دولية نُظِمت لمساعدة العراق على تنظيف بيئته من المخلفات المشعة، وغيرها.
تاسعاً تستر (مركز الوقاية من الإشعاع) التابع للوزارة على خطورة التلوث الإشعاعي، وخاصة إشعاعات اليورانيوم المنضب، الناجمة عن استخدام الأسلحة المصنعة من نفايات نووية خطيرة على العراق في حربين مدمرتين. وبدلا من توعية المواطنين بمخاطره، انزلق الى مستوى الكذب نفياً وتعتيماً عليه، وأوقع نفسه في فضيحة مجلجلة، مغطياً على حجم المواقع الملوثة وعلى ما أحدثته الأسلحة المذكورة من كوارث صحية وبيئية وخيمة، على حساب صحة وحياة العراقيين، فقد حصدت الأمراض السرطانية، والولادات الميتة والإجهاضات والتشوهات الخلقية، وغيرها من العلل غير القابلة للعلاج، مئات الألاف من ضحايا الإشعاعات..
عاشراً- المبالغة وتضخيم إعلام الوزارة لما يصرح به كل وزير جديد، لدرجة اعتباره "إنجازاً كبيراً" و "رؤية متقدمة" و"خطة لا مثيل لها"، وما الى ذلك، ولم يتم بعد البدء بتنفيذه.
وهذا جزء من ظاهرة شاخصة وهي كثرة التصريحات والمبالغات.
حادي عشر-التستر والتعتيم، من جهة، والمبالغة والتضخيم، من جهة أخرى، وكثرة الوعود المعسولة التي لم تنفذ، جميعها أثرت كثيراً على مصداقية الوزارة، وجعلت المواطنين يفقدون الثقة بمشاريعها، واقترانا بذلك رفضوا تنفيذ تعليماتها والتعاون معها.
ثاني عشر- لم يغتنم وزراء البيئة فرصة وجودهم على رأس (مجلس حماية وتحسين البيئة الاتحادي) بوصفه أعلى سلطة بيئية، قانونياً، لتحقيق إنجازات بيئية مهمة. وظل عمل المجلس روتينياً حتى يومنا هذا.
ثالث عشر- تجاهل أو عدم إدراك بان نجاح تنفيذ أي خطة أو مشروع وطني مرتبط وثيق الارتباط بالحالة الاقتصادية- الاجتماعية لغالبية المواطنين، الى جانب مستوى الوعي البيئي في المجتمع. وان النجاح لن يتحقق في ظل مستوى معيشة متدني ويعاني المواطنون من الفقر والحرمان، وأرباب العوائل عاجزين عن تأمين لقمة عيش أطفالهم، وجل اهتمامهم منصب على ذلك، ولا مجال للمواطن للتفكير بالبيئة.,
رابع عشر- عدم إدراك ان تنفيذ الخطط والمشاريع الوطنية المطروحة لا يتوقف على الوزارة وحدها، وإنما يستلزم مشاركة جماعية فاعلة من قبل كافة الوزارات والمؤسسات المعنية، إضافة لمنظمات المجتمع المدني ذات العلاقة.
لقد لوحظ بان جميع وزراء البيئة دعوا الى هذه المشاركة، ولكن نادراً ما تحققت. ولم نعثر على دراسة وزارية بحثت في أسباب ظاهرة عدم حصول المشاركة الجماعية فعلياً. وهذا يعني عدم الاهتمام بها.
خلاصة القول: ان كل ما مر ذكره، بدءاً من الإصرار على ان مهمة الوزارة رقابية وليست تنفيذية، وعدم جعلها رقابية وتنفيذية، في اَن واحد، ودمجها مع وزارة الصحة، وبذلك تم تجريدها من استقلاليتها، وعدم وضع الحكومات المتعاقبة أزمة البيئة ضمن أولوياتها، والمخصصات البائسة، وعدم إجراء متابعة ولا مراجعة ولا محاسبة، لعملها، طيلة عقدين، الخ، جعل الوزارة ومؤسساتها موضع انتقادات موضوعية وجدية كثيرة، وجهت وتوجه لها لكونها غير فعالة في عملها، ولا دور لها يذكر في معالجة المشكلات البيئية. وبالتالي فشلت في تنفيذ الإستراتيجيات والخطط والبرامج العديدة التي أطلقتها رغم مرور أعوام طويلة على إعلانها، وبالتالي لم يتحسن الواقع البيئي المزري، بل وتفاقمت المشكلات البيئية أكثر.
ولا أدل على ذلك من تذيل العراق في "مؤشر الأداء البيئي العالمي" (EPI)، منذ عام 2012. وهذا المؤشر منجز من طرف جامعتي بيل وكولومبيا الأميركتين بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، مكرس لقياس الأداء البيئي لكل دولة، من أصل 180 دولة في أرجاء العالم، بالاستناد لتقييم 40 مؤشراً حيوياً، شاملة الصحة البيئية، وحيوية النظام البيئي من خلال جودة عناصر البيئة(الهواء والماء والتربة) والتغيرات المناخية، رابطة نتائج السياسات الجيدة بالثروة (نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي)، وما يتيحه الرخاء الاقتصادي للدول الاستثمار في السياسات والبرامج التي تؤدي إلى نتائج مرغوبة، وينطبق هذا الاتجاه بشكل خاص على قضايا الفئات الواقعة تحت مظلة الصحة البيئية، اَخذاً بنظر الاعتبار ان بناء البنية التحتية اللازمة لتوفير مياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، والحد من تلوث الهواء، والسيطرة على النفايات الخطرة، والاستجابة لأزمات الصحة العامة، يحقق عوائد كبيرة لرفاهية الإنسان..
وتواصل في العراق تردي الأداء البيئي، وبعد 10 سنوات، أي في عام 2022، احتل العراق المرتبة 14 عربياً، والمرتبة 169 عالمياً، بحصوله على 27.80 نقطة من 100. وبين المؤشر عدم حصول تحسن، وإنما تراجع 5.30 %..
وتواصل الاتجاه العام لأداء العراق البيئي نحو الانحدار، حيث انخفضت درجة العراق من 43 من 100 في عام 2018 الى 39، وهبطت الى 27.8 في عام 2022، وارتفعت الى 30 في عام 2024.. أما مرتبته، فقد ارتفعت من 153 في عام 2018 الى 169 في عام 2022، والى 172 في عام 2024 وأصبح ترتيب العراق دولياً أكثر تراجعاً، حيث انخفض بحدود 17 مرتبة (fcdrs.com)..
لم يصدر عن وزارة البيئة ولا عن الحكومة العراقية ما يوضح أسباب هذا الانحدار في الأداء البيئي، ومن يتحمل مسؤوليته، وإنما صدرت عن مسؤولين تشكيكات بصحة الأرقام التي وردت في المؤشر العالمي، دون إثباتات تؤكد شكوكهم، ساعين للتشويش على الحقائق، زاعمين بأنها " ليست" نتيجة حتمية لعدم ايلاء المشكلات البيئة العراقية الاهتمام المطلوب، في وقت تضع حكومات الدول، حتى الفقيرة منها، البيئة في سلم أولوياتها!
وفوق ذلك، حل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024. فمن أصل 193 دولة شملها المؤشر حل العراق بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا.
وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر، السعودية ثم العراق.
ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل.
واقترانا بذلك لابد من التوقف عند الخطط والمشاريع الوطنية لحماية وتحسين البيئة العراقية، التي أطلقتها وزارة البيئة خلال الأعوام الـ 15 المنصرمة..