بعد يومين سنشهد خاتمة السيرك الأمريكي الذي يزورنا كلّ أربع سنوات. الإنتخابات الأمريكية صارت أقرب لسيرك عالمي يشهده الجميع، يتبارى فيه المتنافسون أوّل الأمر وقبل سنتيْن على الأقلّ من موعده بأسلحة خفيفة، ثمّ تستحيل الأسلحة الخفيفة وسائل خشنة لن ترتدع عن إستخدام كلّ الممكنات -حتى لو كانت تشويهاً للسمعة الشخصية وضرباً تحت الحزام- سعياً وراء كرسي الرئاسة الأمريكية. فقدَ التنافس على هذا الكرسي الكثير من شرف الخصومة والتحاور، ولعلّ كثيرين من أمثالي يذكرون جلسات المناظرة بين المتنافسين على الرئاسة الأمريكية التي كنا نقرأ عنها ونشاهد بعضها في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، وأظنّنا لن نغالي لو قلنا أنّ هؤلاء سيكونون أقرب لكائنات مفرطة في رفعتها الأخلاقية لو قورنوا بما يحصل اليوم؛ لكنّها أمريكا التي تجوّزُ لنفسها ما تحرّمه على غيرها، وهي السبّاقة دوماً في صناعة إعلانات سياسية جديدة حتى لو كانت إنتخابات أمريكية باتت أقرب لسيرك حقيقي عالمي الأبعاد.
لنتّفقْ أنّ الإنتخابات الامريكية سيرك حقيقي. ماذا في ذلك؟ لنكتفِ من الأمر بالمتعة والترفيه عن النفس ونحن نرى أحد الأطراف تصف الآخر بأنّه فاشي سيقتلُ الديمقراطية الأمريكية ويقود البلاد إلى عهد ديكتاتوري لأنّه صديق الطغاة في العالم ولا يخفي إعجابه بهتلر، ثمّ يأتيك الردّ سريعاً من الطرف الآخر ليتّهم الأوّل بأنّه كتلة غباء ستكون ألعوبة بيد حكّام روسيا والصين. يمكنُ أن نرتشف فنجان قهوتنا الصباحية ونحن نشهدُ هذا القتال الصاخب بين المرشّحين في معركة (تكسير عظام) يشتدّ أوارها يوماً بعد آخر حتى موعد الإنتخابات؛ لكنّ الواقع يخبرُنا أن ليس الأمر على هذا القدر من التبسيط: ليس بوسعنا أن نتعامل مع هذه الإنتخابات تماشياً مع المَثَل العربي (فَخارٌ يكسّر بعضه). الأمر أعقد من هذا. لا أظنّ أننا سننسى أنّ (بوش الإبن) فاز بكرسي الرئاسة عقب شهرين من جلسات إعادة فرزٍ واحتسابٍ لأصوات في ولاية فلوريدا، ثم إنتهى الأمر بترجيح عدد الأصوات له بواقع (560) صوتاً فقط. هذه الإنتخابات المشكوك في صدقيتها أجلست بوش الإبن في المكتب البيضاوي الذي أتاح له فعل أفاعيل نعلمها لأنّنا دفعنا أثماناً بشعة بسببها.
الإنتخابات الامريكية -مثل كل شيء ممسوس بالطمغة الأمريكية- غابة معقّدة لها دهاليزها وتشعباتها، ولا يصحُّ أبداً أن نخلع عليها مفاهيمنا ورؤيتنا. مفهوم المجمّع الإنتخابي Electoral College مثلاً واحدٌ من الإختراعات الأمريكية غير المسبوقة في كلّ العالم. يمكن أن يخسر المرشّح على صعيد الأصوات الكلية المرشّحة له بالمقارنة مع الآخر؛ لكنّه مع هذا يفوز نتيجة جمع أصوات المجمّع الّإنتخابي لكلّ ولايات أمريكا. ثمّ لماذا تختصّ ولاية كاليفورنيا لوحدها بِـ (55) صوتاً من أصل (538) صوتاً؟ الأمر أقرب لمزحة باهتة.
ما يعنيني حقاً في الإنتخابات الأمريكية هو الرافعة الثقافية التي تعملُ في التأثير عليها. تابعتُ مشهداً لرجل أمريكي أسود يقول فيه أنّه كان يصوّتُ تلقائياً كلّ موسم إنتخابات لمرشّح الحزب الديمقراطي؛ لكنّه هذه المرّة سيصوّتُ لمرشّح الحزب الجمهوري. أضاف مسوّغاً فعله هذا بأنّه لا يحبّ ترامب؛ لكنّ الامر أكبر من حب أو كراهية. التضخّم جعل جيوب الأمريكيين تتآكل في عهد الديمقراطيين، ولم يحصل هذا قبلهم في عهد الجمهوريين رغم وطأة وباء كوفيد 19. أجملَ هذا الأمريكي كلامه بالعبارة البليغة القصيرة التالية:" لا أريد لجيبي أن ينثقب فقط لجعل هاريس تجلس على كرسي الرئاسة".
أشاع الديمقراطيون أنّهم المتبنّون الحقيقيون للسياسات اليسارية وشعاراتها العامّة في العدالة وعدم التمييز العرقي ودعم الأقليات ومحاولة كبح جماح السياسات النيوليبرالية المتغوّلة؛ لكنّ ما يحصل اليوم هو إيغالٌ في التطرّف بشأن السياسات الجندرية وتوابعها فضلاً عن النفخ في نار الحروب في العالم، وهذه الحروب إرتدّت توابعها الزلزالية في الداخل الأمريكي زيادة في مناسيب التضخّم وغلاء العيش. ماذا سينتفع الأمريكي -أسودَ كان أم أبيضَ- أن تكون المتحدثة بإسم البيت الأبيض سوداء ومثلية كذلك؟ وماذا لو كان وزير الدفاع ورئيس أركانه سوداً؟ أهي لعبة ألوان للبشرة أم سياسات حقيقية ينتفع منها الناس؟ أظنُّ أنّ الأمريكيين ضاقوا ذرعاً بهذه الألاعيب التي أفرغت جيوبهم. نعم، الأمريكي ينظر إلى جيبه أولاً، وحسناً يفعل. هذا هو المعيار الحقيقي الذي يجب أن يحكم علاقتنا بالحكومة.
الإنتخابات لعبة كلّ أطرافها تسعى لتحقيق مصالح مشخّصة لها. الديمقراطيون يكذبون في شعاراتهم الطنّانة. رأينا (باراك أوباما) في الأيام الأخيرة مسكوناً بالهلع وهو يستشعرُ بمجسّاته قرب خسارة مرشّحته فخلع وجه الحكيم المثقف سليل الآباء المؤسسين العظام وراح يقصف المرشّح الجمهوري بمدفعية ثقيلة لم نعهدها منه، وقد بلغ به الأمر حدّ تقريع السود بسبب تهاونهم في دعم مرشّحته. السود فهموا اللعبة. وضعوا مصالحهم قبل كلّ اعتبار. أوباما يكذب في شعاراته، ولو كان حقاً مقاتلاً حقيقياً في سبيل العدالة على الصعيديْن الحقيقي والمالي لوفّر دعمه لِـ (برني ساندرز): اليساري الحقيقي الذي يشبه صوتَ صارخٍ أعزلَ في البرية الأمريكية المستباحة بسطوة المال وما يستجلبه من نفوذ وسلطة.
للأسف ليست لنا رفاهية اليابانيين أو الكوريين الجنوبيين أو الإسكندنافيين وهم يسمعون إسم الفائز في الإنتخابات الأمريكية. سيسمعون الإسم ويمضون في سبيلهم، أظنّهم سيتلذّذون بإكمال شرب كوب الشاي أو فنجان القهوة مع فطورهم. لن يعني لهم الإسم شيئاً أكثر من فوز رياضي في لعبة ملاكمة، أو فوز روائي بجائزة، أو فوز أحدهم بيانصيب. لديهم حكومات تعرف كيف تتعامل مع كلّ المستجدّات السياسية العالمية حتى لو جاءت من قلب السيرك الأمريكي. هؤلاء يحقُّ لهم النظر إلى الإنتخابات الأمريكية كأنّها (فخارٌ يكسّرُ بعضه)؛ أمّا نحن فليست لدينا هذه الرفاهية لأنّنا ذقنا نتائج تكسير القحوف الفخارية على رؤوسنا، ولسنا في حاجة إلى المزيد منها.
تعيسُ الحظ من يعيشُ في بلد لا تكتفي حكومته بتوسيع الثقب في جيبه سنة بعد أخرى، وفضلاً عن هذا لا تتعلّم كيف تجيدُ حماية رؤوس مواطنيها من شظايا الفخار المتكسّر حتى لو جاءت من سيرك بعيد عبر ضفاف الأطلسي الشاسعة.