الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بغدادُنا في القلب

كعادتي معظم الصباحات أستهلُّ نشاطي بكتابات تعلي شأن الجمال والرقّة والنضارة والحسّ الفلسفي بالحياة. كتبتُ منشوراً قبل بضعة أيّام إمتدحتُ فيه جانباً من جمال ونضارة العاصمة الأردنية (عمّان)، ورفقة المقال صورة إلتقطتُها بنفسي وليس صورة مستلّة من الفضاء الألكتروني. جاءني تعليقٌ من أحدهم يقول فيه: (أنت لا تحبّين بغداد ولا العراق، ولا تكتبين سوى عن عمّان والبلدان الأجنبية)، ثمّ أردف كلامه بتوصيفات من تلك التي باتت شائعة في التعامل اليومي داخل العراق، وهي بالطبع سلوك متطفّلٌ مستوردٌ لم نعهد مثيله في الحياة العراقية الحقيقية التي عشناها وخبرناها عقوداً طويلة. لا أعرف مَنْ يكون هذا المعلّق. لعلّه من الذباب الألكتروني الذي بات وظيفة مدرّة للربح ولا يستلزم إعدادات مهنية مرهقة. يكفي أن تجلس وراء الكيبورد وتكتب تعليقات مزاجية تضمّنُها ما شاء لك من التوصيفات التي تعلي شأن هذا وتسعى للنيل من ذاك. في العادة يكون التجاهل هو المقاربة الأسلم والأقلّ تكلفة في التعامل مع هذه التعليقات؛ لكنّي أعترفُ أنّ هذه المقاربة تفشلُ عندما تكون بغداد (أو العراق) طرفاً فيها. لا حياد أو تغافل مع بغداد أو العراق لأسباب عاطفية أولاً تجعلنا نكتبُ عن الموضوع ومحاولة تفكيكه بهدوء وبعقل تحليلي هادئ. لا أظنُّ أحداً يرتضي أن يُمسّ أبواه بأذى أو توصيف سيء. هكذا هو الحال مع بغداد والعراق. ثمّ أنّ تعليق هذا الشخص ذي القناع يستبطنُ رؤية وقناعات دفينة يرادُ تعميمها لتكون سياسة ثقافية مُعْتمدة على النطاقين الرسمي والشعبي.

لن تنفع الخطابات الإنكارية مع هذا النوع من التعليقات، والتي يبدو المرء فيها وكأنّه ينفي عن نفسه جريمة بإيراد شواهد مناقضة لها ونافية لحصولها. هل تذكرون سابقاً تلك الحتمية الفلكلورية عندما يُذكر العراق والتعايش المفترض فيه ويقرن برقصة نشهد فيها العقال العربي والشروال الكردي وريشة الرأس الآثورية والصاية التركمانية؟ حُبّ بغداد والعراق ليس فلكلوراً أو مزاداً نتغالبُ فيه. مَنْ يحبّ بغداد أكثر يخدمها أكثر، ويجعلها مثابة محلية وإقليمية وعالمية. الأمر ليس جعجعة لسان. لن أطلب من هذا العاطل عن المعرفة أن يراجع أعمالي وكتاباتي ليوقن بنفسه كم لبغداد والعراق من حصّة فيهما. ليس من الصواب أن نمنحه تزكية مجانية ليعمل مدّعياً عاماً للدفاع عن بغداد. أنتمي لجيل عشق بغداد ورآها قلعة ماكثة في أفق رفيع يصعب بلوغ مراقيه. هي رؤية تخالطها نكهة ميتافيزيقية مستلّة من المفهوم الألماني الذي يرى روحاً حيّة في كلّ مدينة عالمية مصنوعة من الأصالة النقية والأخلاقيات الرفيعة. كنّا نطمح لبغداد مع كلّ أصالتها ورفعتها أن تكون مدينة كوسموبوليتانية يدخلها الغربي والشرقي لينبهر بقدرتها على تجميع الأضداد في توليفة نسقية باذخة تسمع فيها موسيقى كورساكوف الشهرزادية وتراها لحناً متآلفاً مع روح المدينة حتى لو كان مؤلفها روسياً.مدينة الكوسموبوليتانية تستطيع إمتصاص كلّ الثقافات في طبقات وجودها ومع هذا تبقى هي الرحى التي تمتصُّ الثقافات وتمازجها بقدرة عجائبية. كانت بغداد تنسجُ ثوبها الثقافي بمهارة فائقة بينما العالم ينطحنُ في جحيم الحرب العالمية الثانية. بدأت بغداد خطوات رصينة في هذا الطريق ثمّ إنكفأت بفعل الحماقات الحزبية التي جعلت من الأيديولوجيات عابرة الحدود بديلاً عن الإرتقاء بالرافعة الوطنية. حصل الأمر أولاً تحت غطاء قومي، وها هو يحصل اليوم تحت غطاء ديني.

ما آلمني أشدّ الألم في ذلك التعليق أنّني أعدُّ تفاصيل وقصاصات وتجميعات من الوقائع لتكون مادة لروايتي الأخيرة التي خصَصْتُ بها بغداد. بغداد وحدها ستكون البطل الأوحد في الرواية رغم أنّ البغداديين ستكون لهم حصّة معتبرة فيها؛ فلا مكان من غير أناس وعلاقات وزمان ومشقّات عيشٍ وصراع يومي. لكنّ بغداد -بكلّ تاريخها الممتد- ستكون هي البطل الذي يغطّي على كلّ بطل سواه.

سمعتُ غير مرّة عراقيين عادوا من زيارة قريبة للعراق وهُم يقولون: لم نرّ العراق الذي نعرف. ليست هذه بغداد التي عرفناها. ثمّة خللٌ في المكان. الموضوعُ أكبر مثلاً من متاهة مرورية غاب فيها القانون وصار فيها سيرُ المركبات في الشارع جهداً عسيراً لم يألفه من إعتاد سياقات القانون والنظام، ولا هو محضُ عشوائية ضاربة في إستغلال الأراضي و تدمير بساتين النخيل التي تحتضن محيط بغداد. الأمر أكبر من هذه التفاصيل التقنية والتنظيمية على أهميتها. غابت روح بغداد. ثمّة رائحة كراهية وتنافر بين البشر. الفساد يملأ المكان، والكلّ بات يتكالبُ على المال والجاه والسلطة حتى صرنا مثالاً في إضاعة الفرص الثمينة للتنمية المستديمة والرقي الإقتصادي والرفعة الثقافية.

أعرف ما يريده هذا المعلّق. يريدني أن أكتب عن بغداد بمواصفات الطارئين عليها. الكتابة عن المولات والمطاعم والسيارات الفارهة التي ملأت بغداد حتى زاحمت ساكنيها وكأنّ البغداديين لا شغل لهم في الحياة سوى الأكل والتبضّع وقيادة احدث المركبات. هذه كلها بهرجة ضوئية فارغة. إعتاد الفاسدون قبلها ترحيل أموالهم خارج العراق، ثمّ عندما ضاق الخناق على أعناقهم لم يبق أمامهم سوى إستثمارها (الأصح غسيلها) في مشروعات عقارية ومولات. هذه المشروعات كمن يضعُ معطّراً على جسد نتن لم يعرف الإستحمام لسنوات طويلة. غاب التعليم الحقيقي، وغابت الخدمات الصحّية الحقيقية، وشاعت عادات الرأسماليين الجشعين التي تسعى لتغييب دولة الرعاية الإجتماعية التي تحقّق بعضٌ منها في قطاع الإسكان والصحة والتعليم في عقود سابقات من عمر الدولة العراقية.

نريد إستعادة ألق بغداد وجسدها المعافى الذي يعيش فيه الجميع عيشة صحية متوازنة بعيداً عن كلّ موارد الكراهية والبغضاء. غسلتُ يديّ سبعاً من قدرة البشر على النهوض بهذا الدور لأسباب كثيرة بعضها ذاتي (يختصًّ بالتخريب الذي طال الذات العراقية بفعل عقود من الحروب والدمار الثقافي والمجتمعي)، وبعضها الآخر موضوعي بسبب تعاضد دول الجوار فضلاً عن دول ذات قدرات عالمية في الحطّ من القدرة العراقية وتحجيمها. أرى أن حلّ المعضلة العراقية يكمنً في الفنتازيا: عندما تحكمنا روبوتات فائقة الذكاء تعمل بدستور خوارزمي صارم بعيداً عن كلّ أشكال التحزّب والمحاباة والتماهي مع نزوعات عابرة للحدود. كلّ من يتأكّد الروبوت من خيانته للبلد طبقاً لمدوّنة القانون الخوارزمي يمضي إليه على الفور ويمسكه من عنقه لينال عقابه الفوري المنصوص عليه في القانون. لن ينفع عقال أو عشيرة مع هذا الروبوت. هذه الروبوتات هي وحدها التي تستطيع إنقاذنا من ربقة المتسلّطين على رقابنا. بغير هذا لا أظنُّ أنّ بغداد والعراق سينهضان من كبوتهما. هل ثمّة كرامةٌ لمن يحكم بغداد وهو يرى كلّ سنة كيف يتصدّرُ العراق قائمة الدول الفاشلة؟

بغدادنا وعراقنا في القلب، ولن نقبل من أيّ أحد أن يعمل محامياً للشيطان ويزايد علينا في حبّهما. المحبّ الحقيقي من يعمل بصمت وتظهر إعلانات حبّه في عمله، وليس ذلك الذباب الألكتروني الذي يعتاشُ على دبق العطايا ولن يهمّه من أمر بغداد وأهلها شيئٌ حتى لو إحترق الجميع أمام ناظريه. ألا يكفِيكم أنّكم جعلتمونا (نتنغّص)

لبغداد كلّما رأينا مشهداً جميلاً في مدينة متحضّرة؟ سرقتم كلّ شيء في بغداد والعراق؛ فهل تريدون سرقة حبّهما من قلوبنا؟ هذا ما لن نسمح به أبداً.

بغداد لمن يحبها، وليست للسُرّاق والكارهين.

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-11-2024     عدد القراء :  429       عدد التعليقات : 0