بعد سبعة أشهر من الاختفاء و بجواز سفر مزوّر وصلت الى دمشق. لا أصدق! أهرب من فراشي ومن الكابوس العالق في خيالي إلى شرفة الفندق لامتلئ بحقيقة أني هنا، في (فندق أمية الكبير) في (ساحة المرجة) بدمشق. أطلّ من شرفة الفندق على الحياة اللامبالية الموصولة المتقاطعة الدؤوبة كخلية نحل. البائع القصير يرفع الحقائب ليعلّقها أمام دكانه. لن يخطئ مواضع المسامير، فوراءه مران عمر… سحر البضائع يربك خطوات الشابة التي تجرّ زوجها عنوة إلى داخل الدكان. لن يطول تردده، سيدخل بالتأكيد ويدفع نقوده. أبتسم وحدي وأنا أتابع عودة الشاب العجول إلى الرصيف وقد قطعت السيارة طريق عبوره… من الشرفة أتابع بدهشة هذه الحياة الغافلة وأتابع رائحة شواء تدور حول البنايات لتأتيني بالتحديد. وثانية أصحو على وجودي خارج هذه الحركة، في غرفة تريني الناس وتعزلني عنهم، ولهذا اتركها إلى الساحة عابراً حارس الفندق المبتسم للداخل والخارج.
المختفي
لم تتعود حواسي بعد على رحابة الأمكنة ولم تنحل أعصابي بعد من التوتر والدفاع المتأهب. أمشي كأنني أحث الطفل في داخلي: وسّع الخطوة! أخترق زحام الناس، مكتفياً بعزلتي سعيداً بالسرّ الذي لن يفهموه أبداً، كوني أبدأ أول خطواتي إلى الحرية… ما من واحد منهم يستطيع أن يدرك دهشتي وأنا استقبل ألوان الأشياء وحركتها ووفرة الحياة التي كدت أفقدها، ما من أحد. وحدي سأتعلم كيف استعيد علاقة سوية مع الناس بعد أشهر من الريبة. أهشّ الكابوس من ذاكرتي وأنا أدخل الحياة بخطوة عريضة فيستقبلني بائع الفاكهة بيد ممدودة تحمل برتقالة. أتلمس جلد البرتقالة وأشمّها بعمق وأضبط أوتار صوتي وأنا أتكلم بصوت عالٍ مع رجل لا أعرفه:
-بكم؟
بصعوبة أزحزح المختفي الحذر لأستعيد الإنسان السوي الطليق وأعوّد عيوني على كثرة الناس. لكم تختلف أشكال الناس عن بعضها! كيف قال لي الصحافي الصيني ذات يوم: أنتم العرب تشبهون بعضكم!؟ ومثل شهقة مديدة يأخذني تنوع الأشياء حولي وثراء الحياة. كم من الوقت فاتني وأنا واقف أمام نافورة يندلق منها الماء على سطوح متفاوتة الارتفاع. أراقب الماء الذي يذهب بلا عودة وأكاد ألمس الشعاع البارد المنكسر عليه. أدور طويلاً في الأزقة والطرق واستريح مثل شيخ لأنني لم أستعد حتى الآن قدرتي على السير ودائماً أسأل نفسي وقد استرجعت الحياة: أحقاً كان ذاك الاحتمال وارداً… أن لا أرى هذه الحياة الضاجّة مرة أخرى!؟
29/6/ 1979 دمشق :
هنا ألتقي بسواح عراقيين يجوبون الشوارع والأسواق ليشتروا بضائع وملابس قبل عودتهم الى العراق. ما يدهش العراقيين أن البعث السوري مختلف تماماً. ليست هناك شعارات للبعث في كل زاوية وزقاق، فهم موجودون وليسوا بحاجة الى التذكير بوجودهم. لا يستعرضون قوتهم أمام الناس ولا يرغمونهم على ابتلاع حبة الحزب.. ويدهش العراقيين و يؤلمهم هذا الهدوء النسبي الذي يسود البلد.
أتجول في دمشق ساعات كل يوم. أستكشف المدينة وأستعيد معارفي السابقة بالأمكنة وما تركته فيها من ذكريات، ومعها استكشف حريتي. أمشي ولا ألتفت خلفي. مامن أحد يتبعني في هذه المدينة. يجتازني الناس بلا أبالية . وهذا يريحني. أتعب بسرعة لأنني لم أتعود حتى الآن على التجوال الطويل. معي دائماً صبي هرب معي في الباص نفسه، وكنت خلال السفرة أتوجس قلقه. وهنا عرفت أن مصيره هو مصيري مع فارق كبير، فهو يخرج للمرة الاولى الى بلد آخر غير بلده. مرتبكً وخائف من المجهول الآتي، فلأول مرة ينفصل عن عائلته وعن ورشة الحدادة التي يعمل فيها مع شقيقه الكبير. أنا وأمي نرعاه ونحاول أن نعطيه إحساساً بالأمان. كل يوم نقطع الشوارع وندخل لمشاهدة أفلام لنبدد وقت الانتظار.
في مقهى الحجاز التقيت محمد شاكر السبع وعادل كامل وصحفي من جريدة الثورة أعرف وجهه دون اسمه. الثلاثة جاءوا ليكتبوا ريبورتاجات سياحية عن دمشق في فترة العرس بين الحزبين. وجدت فرصتي لكي أفرغ عليهم ما في داخلي .. معاً دافعوا جميعاً عن حزبهم، ولكن ما ان انفرد محمد شاكر السبع بي حتى قال: أؤيد كل ما قلته، وآه لو تعرف عذابنا نحن . قلت له: لماذا لا تحتجون؟! قال لي: من سيدعمنا؟ أنتم عندكم حزب، وعندكم قوى العالم التقدمي، وعندكم مقاومة تساندكم، أما نحن فليس باستطاعة أحد، حتى اهلنا، أن يبكوا علينا بصوت مرتفع اذا تمت تصفيتنا!
في القطار السياحي الذاهب من محطة الحجاز إلى المصايف السورية التقيتهم للمرة الثانية. متسللا جاءني محمد شاكر السبع وهمس في أذني سائلاً عما إذا كنت قادراً على أن أساعده في الهروب من البلد؟ لم ينتظر جوابي، انما عاد مسرعاً لمجموعته خائفاً من شكوكهم به.
مهجرون عراقيون
24/8/1980 دمشق:
بعد نحو العام، أزور دمشق مرة ثانية. أدهشني الحضور العراقي في هذه المدينة المتخمة.. كل الهاربين من العراق والمهجرين منه تجمّعوا في (مقهى الحجاز) ينتظرون أحداً أو حلاً لوضعهم. جئت الى دمشق مكلفاً بعمل لقاءات مع المهجرين. كل يوم ألتقي مجموعة منهم، أراهم في المقاهي هنا، جماعات يتبادلون الفواجع والشكاوى، أو فرادى لا يكفون عن التسبيح. يتطلعون أمامهم من دون أن يروا شيئاً، في ذهول وشرود لا نظير له. ليس باستطاعتهم رؤية شيء أو الوصول إلى فكرة.
أجساد العراقيين توحّدت مع المحيط الذي انتزعوا منه بوحشية. بيوتهم بقيت كما هي، أبناؤهم الشبان بقوا هناك رهائن، أموالهم بقيت مخبأة أو مرهونة. لأول مرة في حياتي أشفق على البرجوازية بعاطفة حقيقية وأنا أرى التجار الذين قذفوا هنا وليس في جيوبهم غير عشرة دنانير.. يسيح الدمع لحاله من عيونهم ويتكلمون مع أنفسهم في حالة جنون حقيقي. يندر أن تجد بينهم من يملك تفسيراً لما حدث. كأن الأمر لا علاقة للسلطة به، إنما عقوبة من الرب. السلطة أخذت رهينة من كل عائلة، لذلك ليس باستطاعة أحد أن يتهم السلطة علناً أو حتى مع نفسه، الخوف ينتج تفسيرات لم تكن على البال. بعضهم يتمسك بأمل هش بأن السلطة ليست بالسوء الذي تخيلوه، لابد وأن لها قلباً من لحم ودم، ستدرك عذابهم وخطأ تقديراتها، وتعتذر اليهم وتعيدهم الى هناك. الأوهام هي الأمل الوحيد المتبقي لهم.. يقدمون عرائض استرحام و يوسّطون أقاربهم. على أمل أن يصحّح الخطأ. أشفق عليهم وأميّز نفسي عنهمً بكوني مصدر خطر كفوء يهدد السلطة، أما هم فلا يعرفون ذنبهم، ويبحثون عن الذنب في أنفسهم، كل واحد منهم يبحث عن شيء فقده: أخ أو ابن أو زوجة لا يعرف أين جرفتهم الكارثة، أو يبحث عن رأس الخيط في حياة كاملة انتزعت منه، أو يتخيل الأمر وكأنه مجرد كابوس سيصحو منه عما قليل.
وسط حشد اللاجئين المبعثرين حول قبر (السيدة زينب) سمعت صوتاً يناديني. صوت ذبيح، بالكاد عرفت إنها عمتي(زهوري). يا لهول ما رأيت! كأنها استحالت شبحاً وقد عبرت عشرين عاماً خلال أيام. في أيام اختفائي في العراق كانت تلومني على اختياراتي المتعبة وتقول لي انه ليس لديها همّ، وهي العاقر، الا قلقها من أجلي، فزوجها اشترى سيارة مرسيدس "18 راكبا" يشغلها على طريق بغداد، وقد تفتحت الخيرات أمامهما وكانت تلح علي أن أماشي البعث "والبكلبك خليه بكلبك"! الآن وجدتها أمامي مفجوعة تماماً تستنجد بي، لقد هجرّوا زوجها العراقي عن أب وجد. كدت أقول لها "أرأيت؟! ها إن السياسي والهارب من السياسة قد توحدا"، لكنها كانت لا تكف عن البكاء.
بانتظار السفينة
في (ميناء طرطوس) السوري وقفنا فالح عبد الجبار وأنا نحدّق في ظلمة البحر بانتظار آخر سفينة تغادر بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي. كنت في زيارة لعائلتي في بودابست حيث حدث الاجتياح وعدت لدمشق حين تعذرت عليّ العودة إلى بيروت. من دمشق ذهبنا لميناء طرطوس لنستقبل مخلص خليل في السفينة الأخيرة. صامتان كنّا أنا وفالح، لكن خيالنا يثرثر بلا توقف. صور تشتعل أمام ظلمة البحر ثم تنطفئ بسرعة. خلفنا صف طويل من كبار المسؤولين البعثيين جاءوا ليستقبلوا سفينة النكبة الثالثة… انتظرنا طويلا نقطة ضوء في امتداد البحر المظلم . سيأتي … وربما لن يأتي؟ البحر متسع وغامض ؟ نقول تخميناً ثم نبلعه بحرج، فقد تعودنا على أن تخالف الحياة الماكرة تصوراتنا المسبقة. لعل السفينة غيرت اتجاهها إلى ميناء آخر، لعلها قررت ان تهيم جزعاً من الموانئ… فجأة بدت نقطة بعيدة وباهتة تشبه الأمل. قفزت عيوننا ثم عادت غير مصدقة عبر الظلمة. ارتفع أصبع أحد الجنرالات بإعلان صوتي:
-هاهي!
نقطةً تتحرك ببطء شديد.
استعد المسؤولون الحزبين واصطفوا ليرفعوا أيديهم متكاتفين كأنهم عادوا منتصرين من معركة، مع إن قواتهم لم تتحرك قيد أنملة. نظام الأسد كان الأكثر حرجا خلال الغزو الإسرائيلي لبيروت لأن القوات الغازية كانت تمر بمحاذاة الجيش السوري في لبنان. مع ذلك نظمت سلطة البعث عرضا مخزيا للاستقبال. في الجزء البعيد عن ضوء البروجكترات بقينا مع سكان المخيمات الذين جاؤوا لاستقبال أولادهم…لم تصل نقطة الضوء ولم تتحرك. بقيت ثابتة وسط الظلمة… سمعنا همسات حولنا بأن قوارب مسلحة سورية أوقفت السفينة في البحر لتفتشها وتجرد المقاتلين الفلسطينيين من أسلحتهم. سيأخذونهم جميعاً إلى معسكرات خارج المدينة ليغسلوا أوهامهم: هذه ليست جمهورية الفاكهاني، هذه جمهورية البعث. صدق المتوجسون فقد اصطف شبان بعثيون ببدلات موحدة معتمة وهم يحملون صورة الأسد ببدلته العسكرية. تململ وهتافات فالتة من سكان المخيمات الذين جاءوا لاستقبال أولادهم. من ظلمة الميناء خرج مسلحون سوريون ليطوقّوا الحشد. اقتربت السفينة بيضاء مثل حمامة، في مقدمتها يلوّح علم فلسطين: هذه نكبة أخرى! نزل المقاتلون الفلسطينيون طابوراً بين صفين من المسلحين السوريين. الأسماء من ورائنا تتقافز مشددة أو صافرة مثل رصاصة أخطأت هدفها. الناس يتعرفون على أولادهم وقد شاخوا من وطأة الحصار وذلّ الخيبة. متوار بينهم رأينا مخلص وقد تقلص حجمة إزاء هول ما عاشه. بلا سلاح ولا حتى حقيبة. فقط دفتر قصائد. تسللنا وسرقناه من الطابور. على طول الطريق المظلم بالسيارة كان مخلص يسحب انفاسه بصعوبة وهو يحدثنا عن الإذلال الذي واجهوه خلال وقفة السفينة داخل الحدود البحرية السورية. مغاوير سوريون مدججون بالسلاح أخذوا سلاح كل واحد:
-هذه ليست جمهورية الفاكهاني، هذه سوريا الأسد!
بين المقاتلين شيخ من الجيل الأول من المهاجرين الفلسطينيين يحمل سيفاً. قال لهم:
-هذا ليس سلاحاً، هذا ذكرى من والدي…
السلاح هو السلاح(أجابوه وهم ينتزعون السيف من يده) الأوامر لا تفرق!
كانت هذه اشارة رمزية واضحة(انسوا البطولات وعودوا كما كنتم لاجئين)!
قبل أن أسكن دمشق وقبل أن أجد دفاتر يومياتي ومسوداتي التي تركتها في لبنان، جهز لنا الحزب زفّة جديدة لترحيلنا فالح عبد الجبار وأنا إلى كردستان:
-يريدونكم هناك.إعلام الحزب وجريدته نقلت إلى كردستان، وقد جهزوا لكم مكاناً هناك.
لم يكن لدي الوقت لأودّع سعاد وأولادي، كنّا طيّعين مثل الجنود.. الحزب يريدنا هناك لا مجال للمناقشة. قبل السفر بأيام عشت في بيت فالح وأميرة. كان هذا هو التمرين الضروري لكي نتعود نحن الإثنين على الحياة في خيمة واحدة. في هذه الأيام تذكر فالح طموحاته الروائية في بغداد. بتشجيع من غائب طعمة فرمان الذي كان معنا في دمشق خلال هذه الفترة، شرع فالح بكتابة رواية كانت نائمة في خياله منذ بغداد. كتبها على نفس واحد خلال أسابيع. الرواية تتعلق بحوادث عاشها وشهدها في محلة باب الشيخ. وقائع الرواية كانت واضحة في ذهنه كأنه يراها وهو يرويها. وقد كتبها على طريقته على نفس واحد وأنجزها خلال أسابيع. لم يثق بما كتبه فبدأ يقرأ لنا أنا وغائب ليعرف رأينا فيها. نستمع ونحن نتشمم رائحة الباذنجان والكباب ونرى أمامنا ظهر زوجته أميرة تقلي و تتقلى من الغضب و تدردم مع نفسها بغضب. لم نفهم سبب ضيقها حتى ضربت الطاوة مع صراخ فهمنا منه أن الفصل الذي قرأه فالح يتعلق بعائلتها في باب الشيخ. تصاعد الصراخ بين الاثنين فأمسك فالح الدفتر الذي يضمّ الرواية وأحرقه على الطباخ. لم نلحق غائب وانا على تلافي الحريق فقد حجز فالح النار بجسده وسحق رماد الرواية. بهذا الحريق أنهى فالح طموحه كروائي قبل أن يتحدد مستقبله كباحث.
أيامنا الأخيرة في دمشق قضيناها نجمع ما سنحتاجه من كتب وقد اعتقدنا أننا سنجد في الطبيعة التي سمعنا عنها ونجهلها وقتاً مهيأ للقراءة والكتابة.