الحرية أو الأمان؟
في دمشق استبدلنا الحرية بالأمان. بدأنا نتحرك بسهولة، لا نتلفت إلى الوراء لنرى من يتبعنا ولا نتوقف حين يعترض أحد طريقنا. نمشي في الشوارع على مهل. ونحن نستنشق بعمق رائحة الياسمين التي تدخل القلب. توجد سلطة قوية تحمي البلد وتحمينا بالضرورة. لم نفكر بسجون ومساجين يعذبون. فقد غمرنا الأمان وأنسانا ما هو خارج أجسادنا. لن تتحرش بالسلطة ولن تتحرش بنا. نحن هنا ضيوف عابرون. بعد الاحتلال الاسرائيلي لبيروت تحولت حركات التحرر العربية لتتخذ من دمشق مقرات لها. كل الفصائل الفلسطينية ما عدا جبهة التحرير العربية التابعة للبعث العراقي، صار لها وجود مركزي في دمشق، كل الأحزاب الكردية في العراق وتركيا لها وجود ومقرات في دمشق، معظم الأحزاب اللبنانية، أحزاب المعارضة المصرية الأحزاب السودانية والسعودية والبحرينية واليمنية، جبهة التحرير الأرتيرية…. البعث السوري يعتبر كل هذه الأطراف مجالاً حيوياً لنفوذه.
منذ بداية وصوله لدمشق صار (فخري كريم) صلة الوصل الأساسية مع قيادات سوريا. طريقته هي أن يبدأ العلاقة من فوق، ومن قمة الهرم ومع حافظ الأسد بذاته. وحين يبدأ من فوق تصبح العلاقات مع الأدنى مفتوحة وهينة. لا يتردد حين يفتح باباً لعلاقة جديدة، حين يتعثر بالعتبة، يأمر نفسه: تقدم! يبدأ بالمزاح والنكتة فيسقطً الحواجز، ثم يطرح المطالب الكبيرة. كما فعل في لبنان صار فخري يتوسط لقادة الأحزاب للقاء مع الأسد نفسه. في واحدة من هذه اللقاءات صادر المسبحة التي يسبّح بها الأسد استغفارا من ربه و لتهدئةً توتره. وقد سمعت من قائدين فلسطينيين إن الأسد اعتاد أن يلتقي ضيوفه في ساعة لئيمة، في الثالثة بعد الظهر، ولكن عليهم أن يتهيأوا في الثانية عشرة. وحتى لو أخذوا وجبة خفيفة فان الجوع سيقرصهم في موعد اللقاء فيقتل طاقتهم على الحوار والجدل وتكون له المبادرة والهيمنة في الحديث.
الجواهري كان استثناء، فقد كان الأسد يزوره في بيته في الجسر الأبيض، وعندما يزور الجواهري الأسد في مقرّه يستاذنه حالما تتجاوز الساعة الثانية ظهراً مقاطعاً الحديث:
-تسمح لي أبو باسل، صار وقت نومتي.
حين أغلقت بيروت عملنا بالصحف الفلسطينية نفسها التي كنا نعمل بها في لبنان. الكوادر نفسها، الفارق هو أن الحراسات داخل المقرات وليست خارجها وحين يفتحون الباب يخفون الأسلحة خلف ظهورهم. لا ينبغي أن يظهر في الشارع غير مسلحي الدولة. أغلب الكتاب الذين عرفتهم قاطعوا الصحف الرسميةً السورية. وجدوا في الصحف الفلسطينية التي انتقلت من بيروت إلى دمشق متنفساً. هذه الصحف تحرر في دمشق، لكنها تطبع وتوزع من قبرص. وأحياناً تمنع في سوريا. لذلك تآخينا مع المثقفين السوريين في مجالات النشر.
في دمشق تنقلت بين عدة بيوت. بجوار مقبرة البغدادي سكنت في شقةً بحجم علبة كبريت. في الجانب الثاني من المقبرة سكن صديقي المسرحي (جواد الأسدي). اتفقنا على أن نتناوب على حراسة الموتى وأن نسجل غيابات المتسللين منهم إلى الحياة.
سكنت مع الشاعر(عواد ناصر) في سوق المهربين في الصالحية. حين تداهمهم الشرطة يلمّون بضاعتهم بسرعة خاطفة ويختبئون في مدخل العمارة. وفي الساعة الخامسة عصر كل يوم يدق المسرحي غانم بابان باب نافذتنا معلناً قدومه. سيدخل وترتجف يداه فنضع كأس العرق أمامه ليهدأ.
من هذا البيت وأنا ذاهب إلى مجلة (الحرية) دخلت في صداقة إجبارية مع الرئيس (حافظ الأسد). كنت أرى تمثاله في واحدة من أجمل ساحات دمشق (عرنوس). عند هذه الساحة تتقاطع الشوارع المؤدية الى الطلياني والحمرا وساحة الباكستان. وعندها يلتقي إثنان من أهم أسواق دمشق. ومع أن الأسد نادرا ما نزل الى الأرض واختلط بالناس، إلا أنه أراد تمثاله واقفا على الأرض برسوخ وسط زحمة السوق، أطول مرات من قامته الحقيقية، يحيي الناس بيده اليمنى التي تتقدم قليلا أمام الوجه ولا ترتفع عاليا كما معظم القادة. المنكتون السوريون يهمسون حين يمرون بهذا التمثال:
-أنظر اليه! يحاول أن يوقف سيارة تاكسي ولا أحد يقف له!
على عكسهم كنت أرد تحيته خلسة وأتجاوزه بأدب جمّ وأنا ما أزال أراه بلحم ظهري وهو يرد تحيتي.
جاري حافظ الأسد!
كنت جاراً لحافظ الأسد مرتين خلال الثلاثة عشر عاماً التي قضيتها في سوريا. في بداية السبعينيات كنت أمر بين الحارس الوحيد وباب الشقة التي يفترض أنها لاتزال بيت الأسد. لم يوقفني الحارس ولا مرة واحدة ليسأل عن هويتي في الليل المتأخر وانا أعود للقبو الذي اتشارك فيه مع صديقي الفنان قاسم حول، كنت اقارن بين حراسة القصر الجمهوري في بلادنا وحراسة الرئيس السوري، لكن فلسطينيا أجابني بسخرية:
-وتقول عن نفسك صحفي قديم؟! معقول بعد كل هذه التصفيات في الحزب ويسكن نفس بيته ومع حارس واحد! هذا البيت للتمويه، شو عرفك باي مطرح يسكن!.
في النصف الثاني من الثمانينيات عشت مع زوجتي الثانية المسرحية (روناك شوقي) في قبو تحت بيت المغنية الحلبية المشهورة (ميّاده حنّاوي). تنزل الشمس على درجات هذا البيت مثل طفل يتعلم المشي، درجة درجة وتتوقف عند الباب. تأتي مطربة السلطة لبيتها في الاستراحة بين حفلتين. نعرف بقدومها من صوت قبقابها وهو يطرق سقفنا. حين تأتي يزورها كبار رجال السلطة من عسكريين وحزبيين. بعد كل حفلة صاخبة تأتي لتعتذر على ما سببه المدعوون من إزعاج. تجادلوا بصوت عال كانهم يخطبون في حشد ومرة حلت الطلقات محل الكلمات. جيراننا من اليمين ينزعجون من حفلاتها. انتقاماً يفتحون أغاني منافستها (ماجدة الرومي) و حين تصدح أغنية ماجده (أحبك وبعد …) يرتفع صوت الجيران مناكدة (الله، الله!) فنسمع قبقاب ميادة يطرق الأرض فوقنا بغضب. من صوت الموسيقي الكلاسيكية في بيتنا عرفت ذوقنا فصارت تسألنا بعد كل حفلة من حفلاتها الغنائية:
-كيف شفتوها؟
جوابنا التقليدي حتى لو لم نسمع أغنيتها الجديدة:
-تجنن!
بين فترة وأخرى يدق باب القبو الخارجي صبي ريفي يسأل عن (المدام). أشير للباب الفخم فوقنا:
-هذا بيتها!
-طرقت كثيراً ولم تجبني.
آنذاك يترك معي قصيدة جديدة يأمل أن تغنيها(المدام).
جاري الآخر من الجهة اليسرى هو(حافظ الأسد). لم أره شخصيًا برغم طول ماحكم بحيث سميت سوريا باسمه (سوريا الأسد). لم أره أبداً ولم يعرف هو بوجودي عند مدخل قصره. على طول الطريق المؤدي الى بيته اصطف حراسه المتشابهون في طول قاماتهم وعرض أكتافهم وبدلاتهم الداكنة وطريقة وقوفهم باستعداد مشدد. الرشاشات مخبأة تحت الجاكيت الرسمي واليد اليسرى ممسكة بجهاز لاسلكي. كنت أسير في الشارع كالمخمور الذي يحاول أن يضبط خطواته وأنا أتخيل صفين من العيون تترصد خطواتي بينما يدقق الجالسون في البرج في تفاصيل جسدي. في البيت الواقع في نهاية هذا الشارع الشديد الإستقامة والوضوح يستقبل الأسد ضيوفه ولا يأتي إليهم.
من هذا البيت أذهب بعد الفطور مشياً لمكتبة الأسد. ومنه تذهب روناك، وهي حامل بابنتنا أوس، إلى تمارينها المسرحية. لا شئ يعيقها عن المسرح وهو يسري في دم العائلة. حين أصعد سلالم المكتبة أرفع رأسي فأرى تمثالاً دقيقاً للأسد قابضاً بقوة على ذراعي كرسيه. بيني وبين نفسي كنت أفكر بخباثة النحات الروسي الذي جعل الرجل والكرسي قطعة واحدة.
في هذه المكتبة تولعت بقراءة الفلسفة. صعبة لكنها تجرَني أكثر بغموضها واستعصائها. بدأت بالفلسفة اليونانية فسحرني افلاطون. يخاطبني، يسألني ويتحداني. حين أغادر المكتبة قبيل الإغلاق اسير في شارع عدنان المالكي، أسير داخل محارة كبيرة تبعدني عن كل ماحولي، لا أرى الماشين بمحاذاتي ولا القاطعين طريقي، لا أرى عرائش الحدائق على الجانبين، لا أشمّ رأئحةً الياسمين وهي تتحرش بي. أسير متتبعا خطّ أفلاطون فأضع العقل حاكماً على مدركاتي السابقة وأستأنف الدهشة فاستأنف رؤية الأشياء حولي وذكريات الماضي بوعي مسبق. سحرني أفلاطون وهو يتحداني بالفصل الخاص عن أناس ولدوا وعاشوا حياتهم في كهف.أيديهم ورؤوسهم وأرجلهم مقيدة بحيث تتعذر عليهم الحركة.لا يرون من العالم غير ظلالهم فيتخيلونها الحقيقة. حين يخرجون سيعشي الضوء بصيرتهم فيرجعون إلى الكهف حيث الظلال إزاء ضوء النار المرتعش الحقيقة الوحيدة التي عرفوها. قرأت هذا الفصل وأحببته في فترة البيرسترويكا فبدا لي الكهف هو الجمود العقائدي بعينه.
خلال وجودي في دمشق تولعت بالسير في شوارعها وأزقتها. أقطع تلك الأزقة الضيقة التي تبدأ من وراء سينما الحمراء وتنفتح بساحة المرجة، ثم تنغلق ثانية من وراء الجامع الأموي وصولا الى باب توما حيث مر المسيح حاملا الجلجلة. تتساند البيوت بأبوابها المنخفضة وتتقابل المشربيات فوق رأسي تقبل بعضها كانها اندفعت بلهفة ساكنيها. في الربيع تلاحقني رائحة الياسمين فادخل البيوت احيانا لأرى العرائش وقد كللت بحرات البيوت. كل مافي هذه الأزقة يذكرني ببغداد القديمة التي لن أراها بعد سنوات. قبل تسلمه للسلطة كان بشار يتبعني مقودا برائحة الياسمين عبر الأزقة نفسها ويلتقي في مقاهيها، الفنانين الذين كنت أعرفهم متجنبًا صحبة العسكريين الذين عرفهم والده. أتخيل وأنا أطرق الأزقة الضيقة الملتوية إني أسير برفقة ظلي في بغداد. أتوقف حين أجد باباً مفتوحاً، أريد أن أنزع غربتي و أتآلف مع البيت الدمشقي المغلق من خارجه والمفتوح على باحة داخلية تتوسطها بركة تتدفق منها المياه بوشوشة تهدئ الأعصاب. أمشي وأنا أتنشق بعمق رائحة الياسمين فتسكرني وأحار بين النظر والسمع والشم.
خلال التجوال ألتقي الأسد حيثما ذهبت واتجهت، أراه منحنياً قليلا كأنه في صلاة، منصتاً بحزم، مبتسما بإجهاد، مقلصاً عينيه من فكرة خطرت بباله. وأنا أتصفح كل هذه الصور لطالما راودني السؤال نفسه الذي طرحه الصحفي الديمقراطي غري أكرمان على الأسد عام 1997:
-هل تعرف سيادة الرئيس، في طريقي رأيت صورتك في كل مكان، في كل الدكاكين، في كل نوافذ الباصات في كل الأعمدة.. .
وكنت أعرف أنه سيجيبني:
-أعرف ذلك، والأمر يزعجني بمقدار ما أزعجك. وقد ابديت احتجاجي مرات، لكن الأمر لم ينفع. ووضعني الناس في موقف حرج. أحيانا أفكر بأن أتسلل في الليل وأنزع كل هذه الصور.
… لم يفعلها. لو حاول لكنت تركت قدح الميماس من يدي وخرجت لأعاونه في نزع الصور من جدران دمشق القديمة لأن صورته تصادر التاريخ المختفي في حجارتها. لكني غادرت هذه الرغبة دون رجعة حين صادفتني في واحدة من جولاتي المبكرة صورة للأسد في زقاق قديم وقد شطبت بسكين حاقد. غادرت الصورة مسرعاً دون ان التفت كأنني أنا الفاعل وإن صوره التالية تلاحقني.
برغم ولعه بالصور والتماثيل لكن أسد سوريا كان بعيدا عن النزعة الاستعراضية التي تميز بها صدام. لم يركب عربة ذهبية، ولم يطلق الرصاص من شرفة ولم يدخل البيوت ليفتش ثلاجات الناس.. . تصرف كرئيس رصين وكيّس وفي الحيز المرسوم.
سجين في دمشق
كنت اسمع عن سجون سرية في شوارع مغلقة وفي بيوت تحتها اقبية ومع ذلك أسير في شوارع دمشق محتضنا كتبي وكأن الأمر لايعنيني.الخوف يأكل من حساسيتي ويعلمني فن التغافل والإنكار. في أواسط الثمانينيات قضيت ليلة واحدة، أطول من عام في زنزانة انفرادية بواحد من هذه الأقبية. بمزيج من الذهول والمصادفة العمياء كنت في المرجة التي حدث فيه انفجار قبل دقائق. وجدت نفسي في واحد من السجون السرّية. خلال ضوء مصفر رأيت أشباحاً تطلّ من وراء قضبان، لم أتاكد أبداً من أشكالهم كانوا يعيشون على الأصوات، لايعرفون اين هم بالتحديد ولا ما تغير في الحياة خارجاً. بطريقة بارعة استنطقوني ليعرفوا هويتي ومتى رأيت الحياة السوية آخر مرة وماذا كانت نتائج دورة كأس آسيا التي انتهت قبل شهرين. بسرعة فائقة تناقلوا عبر الزنازين آخر المعلومات عن السجين الجديد وقدروا أنني سجين طارئ وراحو يسلموني رسائل صوتية لأهلهم. كانوا يتحدثون بصوت يشبه الحشرجة وآذانهم تتبع أصوات أقدام الحرس وصليل الحديد خوفا من أن يكتشف الحراس أنهم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم. طوال الليل كنت أتتبع صوت صراخ رجل وازيز ماكنة. سألت وقد تعثرت بصوتي عن الصوت. فاجابني جاري بنفس الفحيح الجارح:
-هذه جولة التعذيب الرابعة لهذا اليوم.
لم أستطع النوم وانا أتهجس ألم الرجل من صرخاته. خفتت الصرخات تدريجيا وتحولت إلى أنين حتى سكتت فنمت.
بيوت وأصدقاء
في دمشق عشنا حياة كاملة. تنقلنا بين بيوت كثيرة: مخيم اليرموك، مساكن برزة والمسبقة الصنع، القصّاع…مع كل هذه التنقلات تأكدنا أن دمشق مدينتنا. التوت اللهجات الجنوبيةً لتتكيف مع لهجة الشام. تزوجنا فيها و من نسائها الجميلات ببشرات ناعمة كالحرير. دخلت في علاقة مع واحدةً منهن منجذبا بعينين وقحتين وصوت يشبه همس الوهم. حين اقتربنا أكثر أوقفتني بإصبع منحوت من رخام اللحم:
-خلنا هكذا! أنا أعرف انك ستسافر يوماً ما.
تعلّم أولادنا في مدارسها وحفظوا الأناشيد التي تمجّد سوريا الأسد. صحيح إن البعث يحكم عقيدة الدولة، لكن طبيعة البلاد البحرية ومناخها المتوسطي كيفت البعث و دكتاتوريته وفقها.
صداقاتي تمددت وتعددت فيها.لا أتذكر صديقاً بعثيّا، إنما تراوحت بين المعارضين والمشاكسين. الكاتب المسرحي سعد الله ونّوس كان مرجعي في المواقف حين احرج من دعوة السلطةً للمشاركةً في فعاليات ثقافية. لا يملي رأيه، إنما يصف المحاذير ويترك القرار لي. مرةً دعاني لأمر مهم. اللجنة المشرفة على جائزة سلطان عويس تريد أن تمنح جائزة الشعر للجواهري، لكنها حائرة، لابد من جهة ترشحه. لا يريد سعد الله لوزارة الإعلام السورية أن تفعل ذلك،لذا اقترح علي أن نرشحه باسم رابطة الكتاب والفنانين العراقيين في المنفى. سعد الله ساعد روناك في أن تأخذ طريقها للمسرح السوري. مع ممدوح عدوان وعلي الجندي كنا نأخذ راحتنا بالتنكيت على السلطة و رجالها وعلى انفسهم. لدى ممدوح مسلسل لا ينقطع عن ولع صديقه علي الجندي بالعجائز. كلاهما علويّان، لكنهما بارعان في تحويل كذب السلطةً الى مسخرة. نضحك حتى تدمع عيوننا ثم نسكت فجأة حين نتذكر أن للحائط الذي نحتمي بصمته آذان. الدكتور عبد الرزاق عيد عرفني على مدينته (حلب) و إرثها العريق. بعد محاضرة ثقافية سهرنا في واحد من بيوتها مع باقة من شباب الحزب الذين يعتبرون عبد الرزاق والدهم الروحي. سهرنا مع عزف العود والقدود الحلبية ثم فتح أحد الشباب الستارة وقال لنا:
-يا جماعة طلع الصبح.
لا أنقطع عن زيارة (محمد الخطيب) في قبوه القريب من ساحة عرنوس. تجدبني مكتبته وكرمه بالكتب وقبل ذلك أحاديثه عن تاريخ الحداثة والتنوير العربي. أقربهم إلى المثقفين العراقيين، إبن دير الزور بندر عبد الحميد. كلما أمرّ ببيته أشمّ رائحة العرق فأزدرد ريقي و أسمع أصوات العراقيين العالية المنفعلة يناقشون الشعر ثم تنقطع أصواتهم بعد أن تحضر(الباجة: الكوارع) التي يجيد بندر طبخها. قريبا من بيتي قرب مستشفى ابن النفيس يسكن ابن دمشق وراويتها (خيري الذهبي). زرته وزارني مرات، لكن لم يتحدث ولا مرة عن علاقته بالبعث. الحديث دائماً عن دمشق وأحيائها القديمة. حين نشتاق للموسيقى نذهب إلى البيت الباذخ للموسيقار (صلحي الوادي) التائه بين هويتين، سورية وعراقية. نتحدث بهدوء و فيّ الخلف نسمع لحن كرويزر لبتهوفن أو كونتاتات باخ أو فالسات شتراوس. الكلب السلوقي المتمدد عند مدخل غرفة الجلوس يبقى ساكناً يعزف على الهواء بأذنيه. ذات مرة اقترح علينا صلحي أن نسمع مقام حجاز كرد ليوسف عمر. تهيّج الكلب السلوقي وصار ينحب. المثقفون السوريون يعيبون على العراقيون عدوانيتهم خاصة بعد الربعية الأولى. هم على حق لم يعيشوا، قبل الحرب الأهلية في سوريا، التقلبات المصيرية التي هزتنا.