يعاتبني بعض الاصدقاء على اصراري الكتابة عن البرلمان ، وكنت اقول : ياسادة لن اتوقف عن الكتابة عن برلمان " هذا لك وهذا لي " ، فكيف لكاتب عمود يومي يعيش في أزهى عصور الرفاهية والعدالة الاجتماعية، وبلاده على قائمة البلدان الأكثر تطوراً، أن يخالف ضميره ولا يذكر منجزات مجلس النواب في بيع المناصب وتشجيع المحاصصة لكنني اليوم وجدت أن حدثا ثقافيا مهما هو معرض العراق الدولي للكتاب سيجعلني انسى مؤقتا الانجازات التاريخية لبرلماننا العزيز.
فأنا أنتمي إلى قوم لا يمكنهم تخيل عالم لم تظهر فيه الكتب، التي سطرها مجموعة من الأحـرار علموا البشرية قيمة وأهمية الحياة، لكني بالأمس وأنا أتصفح مواقع الصحف ووكالات الأنباء شعرت بأنّ كاتباً مثل حالي لا يمكن له أن يترك حفلات صـواريخ الكاتيوشا التي تقع على رؤوس العراقيين، ويذهب ليحدّث القرّاء عن أفلاطون الذي ظل يصر على أن تعاسة البلدان لا يمكن أن تزول ما لم يتمتع حكامها بفضيلة التعلم. "إن طلب العلم شرط لمن يتقلد زمام الحكـم، والسبب هو ما يتميز به الحـاكم المتعلم من حكـمة وصدق".
أنظر إلى الكتب التي غصت بها قاعة معرض العراق الدولي للكتاب، وأسرح مع بغداد التي تنتظر عرسها الثقافي مع الكتاب، المدينة الجميلة أيام كان فيها مصطفى جواد يعلّم العراقيين معنى الشغف باللغة، فيما علي الوردي مصرّ على أن يواجه المجتمع بحقيقته، في الوقت الذي يسطر فيه الجواهري المعلقات في حب الوطن. تلك كانت بغداد الكرملي وجواد علي ونازك الملائكة والزهاوي وجماعة بغداد وهي تحتضن جواد سليم ومحمد غني حكمت وفائق حسن، فيما اليوم تغزوها أسراب جراد الجـاهلين الذين يرون فيها خزينة ينهبـونها في وضح النهار.
دائماً كنت أسأل نفسي: ترى كيف سيكون شكل العالم لو لم يكتب فيه ديكنز روايته "الآمال العظيمة"، ولم يحول فيه المتنبي الشعر إلى نصوص في الحِكَم، ولم يعلمنا عمر بن أبي ربيعة أن مديح النساء أبقى أثراً من مديح كل الحكـام؟، هل يمكن أن نتخيل بريطانيا من دون سؤال هاملت الأزلي: أكون أو لا أكون، ماذا يبقى من انقلابات أمريكـا اللاتينية غير ذكرى حكايات يوسا، وساماراغو، وإيزابيل أللندي ومعلمها ماركيز؟، ماذا يبقى من أميركا لو لم يكتب لها همنغواي "الشيخ والبحر"؟ .
أعطتنا الكتب المتعة ونورت عقولنا. وحولت لنا الأرض إلى قرية واحدة قبل أن يكتشف الأمر منظرو العولمة، كتب زودنا أصحابها بالحكـمة ومؤرخون حفظوا لنا حكايات التاريخ وعبره، وشعراء صنعوا لنا أحلاماً وآمالاً وعوالم جميلة، كتب ندين لها بجمال الحياة، لولاها لكنا نرى بغداد مجرد دار للسكنى وليست قصيدة رائعة للمتنبي، ونرى العيون الجميلة ولا ندرك أنها تقتـلننا لأن في طرفها حَوراً.
انضم الى المحادثة