أواخر العام 2006 عيّنت الجمعية العامّة للأمم المتحدة يوم التاسع من شهر كانون أوّل / ديسمبر من كل عام يوماً لمحاربة الفساد، من خلال أتفاقية التزم 190 طرفا بأحكامها. وكان العراق من ضمن الأطراف التي إلتزمت بالإتفاقيّة، كما كان العراق من ضمن الدول الإسلاميّة الثمانية عشر التي وقّعت على "أتفاقيّة مكّة المكرّمة" لمكافحة الفساد التي أحتضنتها الدوحة في السابع عشر من شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 2024 . وقد حافظ العراق على الرغم من أنضمامه لمعاهدات محاربة الفساد الأممية والإسلامية وأدّعاءه بتقدمه في ملف محاربة الفساد وإرثه الإسلامي في هذا المجال، على مركزه رقم 154 من ضمن 180 دولة وردت في تقرير لمنظمة الشفّافية الدولية بداية شباط/ فبراير العام الجاري دوليّا، أمّا عربيا ووفق نفس التقرير فأنّه أحتل المرتبة السابعة كأكثر الدول العربية فسادا.
مساحة الفساد جغرافيّا تمتد الى كل العالم بإختلاف المنظومات السياسية الحاكمة فيها وطبيعتها دون إستثناء ، أمّا تاريخيا فهو قديم قدم التاريخ البشري. فالفساد ورد ذكره في الحضارات المصرية والصينية القديمتين، أمّا المؤرّخ اليوناني هيرودوت فقد نقل لنا حالة رشوة من عائلة تسمّى الكمونيون بعد دمار معبد ابولو نتيجة زلزال، وقامت هذه العائلة وقتها (عام 1400 قبل الميلاد) برشوة كاهنات أوراكل دلفي (كاهنات وسيطات بين البشر والآلهة وفق الأساطير الإغريقية) من أنهم سيعيدون بناء المعبد بأرقى أنواع الرخام، مقابل أن تُقنع الكاهنة الكبرى (بيثيا) دولة أسبارطة بمساعدة ودعم عائلة الكمونيون على قهر حكّام أثينا وحكمهم لها (أثينا) وكان لهم ما يريدون، وبهذا يقول الفيلسوف أرسطو "حتّى الآلهة يمكن رشوتهم". ولمّا كان الفساد جزء من الطبيعة البشرية ومن الصعب القضاء عليه كليّا حتى في أكثر البلاد الحاصلة على نقاط متقدمة في مؤشر الشفافيّة كالدنمارك التي أحتلت المرتبة الأولى بالعالم بتسعين نقطة من أصل مئة وفق تصنيف المنظمّة الأخير، فأننا بحاجة الى أن نصل به في العراق الى الحد الأدنى على الأقل، لتأثيره السلبي الكبير على مناحي الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية المختلفة، وبما يهدد حياة الملايين من الناس ووطنهم.
يعرّف قاموس أكسفورد الفساد بأنه: "سلوك غير صادق أو مخادع من قِبل أولئك الموجودين في السلطة، وعادة ما ينطوي على الرشوة"، وأصل كلمة الفساد في اللغة الإنجليزية "corruption" تأتي من الكلمة اللاتينية "corruptus" وهي النعت الماضي من "corrumpere" التي تعني بدورها "أفسد ورشا ودمّر". وفي الحقيقة فأنّ الفساد في الدول النامية ومنها العراق لا يقتصر على النخب السياسية الحاكمة وأحزابها وأذرعها المسلّحة فقط، بل يمتد بشكل أفقي بين الموظفين في دوائر الدولة المختلفة، إذ نادرا ما ترى موظّفا لا يطالب برشوة من مواطن لتسهيل أمور مراجعاته من صعوبات وعراقيل يضعها الموظّف نفسه من خلال شبكة موظّفين فاسدين.
أنّ مساحة الفساد الكبيرة في بلدنا وبقية بلدان الدول النامية، يعود في أحّد أسبابه الى عدم إكتمال بناء الدولة وغياب الحوكمة أو ضعفها، ومشكلتنا الكبيرة في العراق هي أنّ الفساد المستشري وعلى أعلى المستويات لا يعني ضعف النخب الحاكمة في إستغلال موارد الدولة وتوجيهها لخدمة المواطن فقط، بل يعني أنّ هناك قصد ونيّة مسبقة من قبل هذه النخب في سرقة وإهدار المال العام والإثراء غير المشروع متسلّحة بنظام محاصصاتي يغضّ النظر عن فساد النخب الحاكمة بتوافقات سياسيّة على أعلى المستويات، ما يدفع المواطن الى فقدان ثقته بكامل المنظومة السياسية في البلاد. وفي هذا الخصوص أظهرت دراسة لمنظمة الشفافية الدولية في عام 2017 على مستوى العالم من "أنّ حوالي ثلث الأشخاص يعتبرون رؤساءهم ورؤساء وزاراتهم ومسؤولي الحكومة الوطنية والمحلية ومديري الشركات والممثلين المنتخبين وضباط الشرطة فاسدين". لكن هذه النسبة في العراق أكبر من الأرقام التي أظهرتها الدراسة، ونستطيع العودة الى نسب مشاركة المواطنين بالإنتخابات المحلّية والنيابية، لنعرف نسبة من لا ثقة لهم من المواطنين بسلطة المحاصصة ونخبها الفاسدة.
للفساد بالعراق كما بقية دول العالم النامية آثارا مدمّرة على بناء الدولة والمجتمع وبما يضعف ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها، فهو المسؤول الأوّل عن إرتفاع نسبة الفقر والبطالة في المجتمعات المبتلية بحكومات فاسدة كالحكومة العراقية. وعدم السماح أو وضع العراقيل أمام الكفاءات العلمية والوظيفية لأخذ مكانها الطبيعي في مؤسسات الدولة، يعني هيمنة موظفين غير متمرسين وفاسدين وغير كفوئين على وظائف تمنح لهم وفق توزيع كعكة السلطة ما يؤدي الى تخلّف عمل الوزارات والمؤسسات الحكومية. وسيتضرر القطّاع الخاص هو الآخر نتيجة إرهاقه بالضرائب التي لا تذهب الى خزينة الدولة كما حال المنافذ الحدودية ومنها موانيء البلاد، ناهيك عن الأتاوات التي تفرضها جهات نافذة ومسلّحة على هذا القطاع. أمّا تأثيره على الإستثمار الأجنبي والذي نحن في أمّس الحاجة اليه لإعادة عملية بناء ما سببته الأنظمة السابقة وسلطة ما بعد الاحتلال من دمار، فنراه من خلال عدم وجود شركات ومستثمرين أجانب الّا في قطّاع النفط تقريبا، ومع ذلك فأنّ هذه الشركات تدفع رشى كبيرة للحصول على عقود من الحكومة، علما أنّ سطوة المنظمات شبه العسكرية وضعف الطاقة وعدم وجود بنى تحتية وشركات تأمين وضعف قوانين تحمي المستثمرين، تعتبر من الأسباب الطاردة لرأسمال الأجنبي وعدم إستثماره في بلد ينخره الفساد على مختلف الصعد.
أنّ غياب العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ستساهم مجتمعة على إضعاف النسيج الإجتماعي للبلاد، وتراجع أو التأثير السلبي على قيم المواطنة والذي يعود أساسا الى غياب الديموقراطية التي شُوّهت وفقدت أركانها نتيجة نظام المحاصصة الطائفية القومية وغياب القيم الأخلاقية والعدالة، علما أن الفساد له تأثير كبير على السلم المجتمعي وإستقرار الأوضاع الأمنية في بلد لازال هشّا طائفيا وقوميا، وقد تنفجر الأوضاع فيه بسبب ضعف الأقتصاد وعدم تنوع مصادر الدخل. فأي هبوط بأسعار النفط في بلد ريعي بالكامل ومترهل وظيفيا كالعراق، يعني عدم أستطاعة الدولة من توفير حاجات الناس اليومية ومنها رواتب جيوش من الموظفين الذين يستهلكون نسبة كبيرة من ميزانية البلاد، وإنحطاط قطاعات التعليم والصحة والخدمات والزراعة والصناعة وغيرها من تلك التي تمس حياة الناس اليومية.
بإعتراف العديد من المسؤولين العراقيين أنفسهم ونتيجة للخلافات بينهم والتي لا تخرج عن توزيع أدوارهم بعد كل إنتخابات "ديموقراطية"، فأنّ ما يقارب الـ 350 مليار دولار إختفت بشكل غير معروف لكن ممنهج على ما يبدو من خزينة البلاد، فأين ذهبت هذه الأموال ...؟ من الطبيعي أنّ هذه الأموال تمّ نهبها من حيتان سياسيّة ودينية كبيرة في البلاد، ونظرا لتقاطع مواقف هذه الحيتان وأحزابها مع بعضها البعض وتعدد ولاءاتها الإقليمية، فأنّ قسم من هذه الأموال ذهبت الى بنوك دول المنطقة المختلفة أو بنوك أوربا وأمريكا، هذا ما يبدو للوهلة الأولى وقد يكون صحيحا لحدود. لكن علينا ونحن نتحدث عن أرقام فلكية، أن نتوقع من حيتان الفساد هؤلاء تهريب تلك الأموال الى جزر كايمن والبهاما كملاذ آمن مثلا لأخفاء "ثرواتهم فيها"، كون هذه البلدان الواقعة في البحر الكاريبي لم توقّع على أية أتفاقيات دولية لغسيل الأموال أو مكافحة الفساد.
من الأمور الضرورية لمكافحة الفساد هو وجود أدلّة وبيانات وشواهد تؤكّد وجوده، وكوننا كمواطنين عراقيين لا نمتلك بيانات حول الفساد عكس بلدان أخرى تحترم شعوبها وتسهّل عليها إبداء آرائها ومشاركتها في الحياة العامّة، ولا نمتلك أدلّة كالتي طالب بها رئيس وزراء عراقي أسبق حينما سأله محاور تلفزيزني عن ملف الفساد قائلا "لا وجود للفساد ومن له دليل فليأتي به"، فلم يبقى أمامنا ولكي نواجه به سلطة المحاصصة الفاسدة الّا الشواهد. ومن هذه الشواهد، سوء الوضع الأقتصادي للبلاد، زيادة رقعة الفقر، البطالة، ضعف البنى التحتية، أنهيار التعليم، تبخّر القطاع الصناعي وسوء القطاع الزراعي، بؤس النظام الصحي، نشاط عصابات الجريمة المنظمة و ثقافة الرشوة في مؤسسات الدولة وغيرها الكثير.
جميع الحكومات العراقية تعلن محاربة الفساد في برامجها الحكومية، وعلى خطاها تعلن جميع قيادات الأحزاب السياسية المهيمنة على المشهد السياسي في حملاتها الأنتخابية محاربة الفساد، وجميع الفعاليات الدينية تعلن من على منابرها ووكلاؤها ضرورة محاربة الفساد، فلماذا لم تتم محاربته والحدّ منه ولا نقل القضاء عليه لليوم..!؟
محاربة الفساد لا تتم بالخطابات السياسية والدينية، بل بوجود منظومة سياسية تكرّس بداية طريق طويل لمحاربة الفساد، بإعادة بناء المجتمع بشكل صحيح بعيدا عن التخندقات الدينية والطائفية والقومية، وتولي إهتماما حقيقيا وكبيرا بمستوى التعليم بالبلاد، وتعزيز القوّة القضائية وأحترام حياديتها، وتدعيم الشفافية بما يسمح للمواطنين والمختصين بالوصول الى المعلومة بشكل سلس وسريع، كل هذه وغيرها يجب أن تأتي بالتزامن مع قرارات وطنية بمحاسبة كبار الفاسدين وصغارهم، والأبتعاد عن مبدأ حل القضايا العقدية من خلال وضع جميع القضايا في سلّة واحدة، ومنها قضايا الفساد والجريمة والأرهاب وقضايا تمس الشرائح الأكثر ضعفا في المجتمع كالنساء والأطفال. أنّ محاربة الفساد بالعراق بحاجة الى تطبيق النموذج الصيني في معركتها ضد الفساد والتي بدأت وهذا ما سنتناوله بعد قليل، في "سحق الذباب" و"القضاء على النمور" ، حيث يمثل "الذباب" المسؤولين الفاسدين ذوي الرتب المنخفضة، بينما تشير كلمة "النمور" إلى كبار المسؤولين. ولا نظنّ أنّ نمور العراق ستقضي على نفسها، لكنّها قد تقوم بين الحين والآخر بسحق بعض الذباب على أن يكون السحق دقيقا جدا ووفق نظام المحاصصة، وقد يكون سحقا مع وقف التنفيذ لأعتبارات طائفية وعشائرية وحزبية.
أن الأستفادة من تجارب البلدان الأخرى في محاربة الفساد أمر ضروري جدا، ولكون الفساد في البلاد ينشط عموديا وافقيا فأنّ الأستفادة من تجربة الحكومة الصينية على سبيل المثال طريق للحد من انتشار الفساد، هذا بالطبع إن كانت لدينا حكومة وطنية حقيقية هدفها القضاء على الفساد خدمة لمصالح شعبها ووطنها. ففي الصين وعلى سبيل المثال والتي تتقدم علينا على مختلف الصعد بسنين ضوئية، بدأت حكومتها في الربع الأول من العام 2014 ببناء "نظام لمكافحة الفساد ومعاقبة الموظفين المتورطين دون رحمة ووفقا للقانون، وذلك حسب تقرير عمل الحكومة الذي ألقاه رئيس مجلس الدولة لي كه تشيانغ وقتها". وتُعَد هذه الحملة وفق صحيفة الأندبنتيت، التي أجرتها اللجنة المركزية لفحص الانضباط، وهي جهاز تابع للحزب الشيوعي الصيني، "أكبر حملة لمكافحة الفساد في التاريخ في أي مكان في العالم. وبحلول مايو (أيار) 2021، أي بعد مرور 10 أعوام تقريباً على بدء الحملة، كانت اللجنة قد حققت مع أكثر من 4 ملايين شخص داخل الحكومة وجهاز الحزب الشيوعي الصيني، ووجدت أن 3.7 مليون منهم مذنبون". وقد عملت الحكومة وقتها ولليوم على تقليل الانفاق الحكومي من خلال تنظيم حملة تثقيف وممارسة حول الخط الجماهيري والمعارضة الحازمة للشكلية والبيروقراطية والرفاهية والأسراف منها " خفض الإنفاق على الزيارات الرسمية خارج البلاد والإنفاق على المركبات الرسمية والإنفاق على الضيافة الرسمية في الدوائر الحكومية المركزية بنسبة 35% بينما انخفضت نفقات الضيافة الرسمية على مستوى المقاطعة بنسبة 26%".
يبدو أن الحد من الفساد في العراق ناهيك عن تحجيمه اكبر من امكانيات الدولة التي يهيمن الفساد على كل مفاصلها، وإننا بحاجة وعلى غرار محكمة العدل الدولية في لاهاي الى إنشاء محكمة دولية لمحاربة الفساد تلك التي أقترحتها كلا من هولندا وكندا والأكوادور اواخر عام 2022 . وعلى الرغم من أن العراق وقّع على أتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، الا أنّه يعتبر عمليا ومقارنة بما دخل خزينة البلاد من أموال وسوء الأوضاع فيه، من الدول الرائدة في مجال الفساد على المستوى الدولي. ولأن إنشاء مثل هذه المحكمة لم يتم لليوم وأنّ قراراتها إن تشكلّت لن تكون مختلفة عن قرارات المحكمة الجنائية الدولية من حيث ثقل العامل السياسي الدولي في إصدارها وتطبيقها، فأنّنا بالعراق بحاجة الى زلزال جماهيري كما زلزال تشرين/ أكتوبر تقوده قوى سياسية متضررة كما الجماهير من نظام المحاصصة الفاسد، الذي يقود بلادنا وشعبنا الهاوية.
"ثقافة وضع حد للفساد تبدأ من الأعلى إلى الأسفل" القاضي الأمريكي مارك وولف