الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
نحو إنصاف الاستشراق الروسي والسوفييتي

كثيراً ما يوجه كثرة من الباحثين العرب اتهامهم لكل المستشرقين الأوربيين بلا استثناء بالإساءة إلى التراث الأدبي العربي بمجمله، وهو أتهام يُجافي الحقيقة. صحيح ثمة فئة كبيرة من المستشرقين الغربيين تعمدوا مثل هذه الإساءة وارتبطوا بنوايا وأهداف الاستعمار الكولونيالي في منطقتنا العربية، لكن لا ينبغي أن نظلم ثلة من بينهم تميزت دراساتهم بالموضوعية والإنصاف لتراثنا. والأهم من ذلك فإن الغالبية العظمى من المستشرقين الروس خلت دراساتهم من تلك النوايا والنظرات العنصرية الخبيثة المتعمدة إلى تراثنا الأدبي، ومن ثم قدموا خدمات موضوعية جليلة منصفة لتراثنا ولغتنا العربية وآدابها، نذكر منهم على سبيل المثال -لا الحصر- المستشرقين الخمسة التاليين:

المستشرق الأول: وهو المستشرق الروسي السوفييتي المخضرم اغناطيوس كراتشكوفسكي (1883- 1951)، الذي يُوصف في بلاده" أبو الاستشراق" أو "مؤسس مدرسة الاستشراق" في روسيا، وقد ترك لنا في هذا الحقل الذي كرّس حياته العلمية من أجله منذ شبابه اليافع آثاراً في منتهى الأهمية، حيث بلغ مجموع ما تركه لنا 600 عمل بحثي ما يعكس غزارة إنتاجه وعمق تحليله للتراث العربي- الإسلامي.

المستشرق الثاني: ألكسندر كولودين، وقد درس بعمق وتمحيص قضايا التراث العربي التي لم تزل تشغل أُدباء عصرنا، ومن ذلك قضية الشعر الجاهلي هل هو منحول أم حقيقي، وهي القضية التي كُفر عميد الأدب العربي طه حسين بسببها؛ لترجيحه الفرضية الأولى بمعنى أنه منحول. وقد ناقش كولودين فرضية طه حسين ومرجليوث، وهذا الأخير قيل إن الأول نقل عنه فرضيته بصحة انتحال الشعر العربي. لكن كولودين أكد أيضاً بأن كراتشكوفسكي يُحسب له بأنه ناقش هذه القضية قبل أن يتناولها الرجلان في بحوثهما.

المستشرق الثالث: خالدوف، وهو يُعد أفضل من تناول بالتحليل الأثر التراثي الشهير والبالغ الأهمية، المعروف بكتاب " الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، والذي أنجزه في بغداد، وبلغ مجموع أجزائه أربعة وعشرين مجلداً، ولا يشمل أشهر المغنين والملحنين فقط، كما يتبادر للذهن من عنوانه للوهلة الأولى، بل يتضمن أيضاً أسماء العازفين، وأهم الشعراء، وكتّاب كلمات الأغاني. فهو موسوعة تتناول الحياة الثقافية والفنية العربية طوال ما يقرب من خمسة قرون، بدءاً من القرن الخامس حتى أوائل القرن العاشر.

المستشرق الرابع: نعمة الله إبراهيموف، ومن أهم أعماله" الرواية العربية الشعبية" وكان مهتماً بوجه خاص بسيرة عنترة بن شداد. وحسب هذا المستشرق فقد ظهرت هذه السيرة مترجمةً لأول مرة في روسيا عام 1835 وأنها لاقت إقبالاً منقطع النظير من قِبل القراء الروس، رغم ما شاب الترجمة من أخطاء وابتعاد عن روح السيرة الأصلية وطلاوتها المشوقة. كما حظيت سيرة عنترة باهتمام المترجمين والمستشرقين الأوربيين، ولا سيما في بريطانيا وفرنسا. ويؤكد إبراهيموف أن مثل هذه السير والقصص في التراث العربي تُعد الخامة أو النواة الأولى لبوادر ظهور الرواية العربية، ومتناولاً بالتحليل أيضاً لأبرز نموذج في هذا الصدد كتاب " ألف ليلة وليلة". وفي ضوء هذه الاستخلاصات والنتائج التي توصل إليها المستشرق السوفييتي إبراهيموف أقول من جانبي: لطالما ظلم النقّاد العرب والأجانب الرواية العربية حينما يعدونها بأنها صنعة أُوروبية خالصة استعارها روائيونا العرب الأوائل منهم!  دون تنويه على الأقل بجذورها العربية الحقيقية في تراثنا، فالروائيون الغربيون الأوائل لم يفعلوا سوى تطوير تلك الصنعة الأدبية العربية.  

المستشرق الخامس: وهو فاسيلي بارتولد، وهو في الوقت نفسه مؤرخ ينحدر من أُصول ألمانية، ويُعد من المستشرقين المخضرمين، حيث عاش شطراً من حياته في القرن التاسع عشر والشطر الآخر في القرن العشرين. ويُعد بارتولد من أكثر المتخصصين في انجازات الحضارة العربية الإسلامية في الإبداع الأدبي، وبلغ مجموع دراساته في هذا المجال أربعمائة دراسة، وبالإضافة لتخصصه في دراسة العلوم العربية فقد عني هذا المستشرق بنتاجات التراث الأدبي في فارس وتركيا وتتارستان لتركيا. وعُرف عنه تصديه لنسف الادعاء بأن نظرية "المركزية الأوروبية" للحداثة هي ملهمة المبدعين في كل أنحاء العالم، ولا سيما، "العالم الثالث" !

  كتب بتأريخ :  الإثنين 09-12-2024     عدد القراء :  318       عدد التعليقات : 0