الفكر القومي العربي اليوم ليس فكرا يحتذى به من قبل جماهير الشعوب العربية، بعد أن فقد بريقه الذي جاء مع إرهاصات قيامه الأولى قبل إنهيار الخلافة العثمانية، متأثرا بالفكر القومي الذي ساد أوربا لعدة قرون قبل تبلور تلك الإرهاصات كفكرة وطموح للأستقلال من قبل بعض الطلّاب العرب في باريس تأثّرا بالأفكار الأوربية والنضال ضد الإحتلال العثماني للبلاد العربية، والذين ترجموا نزعاتهم القومية الى نزعات سياسية من خلال تأسيسهم لـ (الجمعية العربية الفتاة) في باريس في العام 1891، والتي مهّدت الطريق لأنعقاد المؤتمر العربي في باريس أيضا عام 1913 ، والتي مهّدت بدورها الطريق لأندلاع الثورة العربية الكبرى عام 1916 بدعم بريطاني. والفكر القومي العربي فشل كآيديولوجية وكنظام للحكم في تطبيق الفكرة القومية كالتي كانت عند الأوربيين فشلا ذريعا، في الوقت الذي نجح فيه الأوربيون بتجاوز حالة الأحباط والفشل التي رافقت تجربتهم الأولى في قيام ونهوض ما تسمّى بالقومية الأوربية الجامعة أو ما يطلق عليها بالهويّة الأوربية بتأثيرات دينية مسيحية في بدايات القرن الثالث عشر، وبناء إطار محدد لتعريف هذه الهويّة بعد الحرب العالمية الثانية رغم الحروب والصراعات الدامية التي دارت بينهم.
أنّ الهويّة الاوربية التي نراها اليوم من خلال وحدة الدول الأوربية إقتصاديا في السوق الأوربية المشتركة، وعسكريا من خلال حلف الناتو، وثقافيا من خلال فعاليات وتبادل ثقافي لتكريس هويّة ثقافية أوربية، وتكامل زراعي وأقتصادي وجمركي ودراسي وعلمي وصحي وغيرها، وصولا الى إلغاء الحدود بين بلدانها وتتويج هذه البلدان تكاملها بإنشاء البرلمان الأوربي لأتخّاذ مواقف سياسيّة موحدّة لحدود بعيدة على الرغم من إختلافاتها القومية (لغة وعِرق) ومصالحها الوطنية، وتتويج كل هذا بعملة أوربية موحدة، ليست بعيدة عن توظيف الدين المسيحي كمصدر من مصادر الثقافة الأوربية تاريخيا، لكن بتحقيق شرط لا بدّ منه للإستمرار بهذا النهج من التطور والتكامل وهو، عدم ربط هذه النهوض القومي بالمسيحية كدين وهي دين الأغلبية بأي شكل من الأشكال. وبمعنى آخر قيام أنظمة علمانية ديموقراطية (على الأقل وبنسب مختلفة في بلدانها) تفصل كليّا بين الدين والدولة، أي وبمعنى آخر ومن جديد، إعلان طلاق سياستها البائن مع الدين. فهل خطت الفكرة والدولة القومية العربية خطوات كالتي قامت في اوربا، للوصول الى حلم الروّاد الأوائل لبناء وطن قومي واحد للعرب إعتمادا على عوامل الإشتراك باللغة والدين والتاريخ ....؟
لو تجاوزنا التأثيرات القومية العربية في العقود الأولى من القرن العشرين على الرغم من حضورها في بعض البلدان العربية كالعراق وبلاد الشام ومصر بعد تأسيس حزب الوفد (كان مصريا يبحث عن مصير مصر بعد الهدنة وليس قوميا بداية تأسيسه) وبداية تطورها في أربعينياته، نتيجة الهجرة اليهودية الكبيرة لفلسطين ووعد بإقامة وطن لهم على أراضيها وفق وعد بلفور عام 1917، فسنرى حضورا طاغيا لهذه التأثيرات والأفكار منذ بدايات العقد الخامس والتي كانت موجودة قبلها وبشكل كبير في أدبيات وسياسات الأحزاب اليسارية والشيوعية في البلدان العربية المشرقية. فقبل إعلان الدولة العبرية بسنة واحدة تأسس حزب البعث العربي الأشتراكي في سوريا سنة 1947 وحركة القوميين العرب بعد تأسيس دولة إسرائيل في الكويت سنة 1952، كما كانت هناك جمعيات ومنظمات عربية عديدة خصوصا في العراق وبلاد الشام تلهب حماس الشعوب العربية من أجل نضالها لنيل أستقلالها ودعم الفلسطينيين بمواجهة الهجرة الواسعة والأستيطان اليهودي في بلادهم.
بعد نجاح الضباط الأحرار في مصر من تغيير شكل الدولة من ملكية الى جمهورية في تموز/ يوليو 1952، كان من المفروض على الضباط الأحرار حملة الفكر القومي العربي والذي سيصبح ناصريّا بعدها ومن أجل بناء أسس صحيحة لبناء مشروع عربي قومي مستقبلا، أن تتم مراجعة تاريخية وعلمية من قبلهم والمفكرّين العرب لكل التاريخ العربي منذ إنهيار آخر دولة عربية قومية أسلامية متمثّلة بالخلافة العبّاسية ولحين قيام دولة أسرائيل، بعد خسارة العرب أهم معركة فاصلة بينهم وبين الإسرائيليين سنة 1948 ، والتي كانت بداية سلسلة من الهزائم التي لم تنتهي لليوم، بل هي مرشّحة مستقبلا لهزائم جديدة قد لا تكون بالضرورة عسكرية.
لقد بلغت الأفكار والطموحات العربية أوجها بعد تولّي عبد الناصر السلطة في مصر، ومهدّت الثورة المصريّة في الوقت الذي كانت فيه شعوب عربية تناضل من أجل إستقلالها من المستعمرين الأوربيين، الطريق لضبّاط بلدان عربية أخرى بالحذو حذوهم في إستلام السلطة في بلدانهم عن طريق الجيش وإعلان بلدانهم بلدان قومية هدفها تحرير فلسطين، وهذا ما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان، فلماذا لم تستطع قيادات هذه البلدان وأحزابها القومية الحاكمة من تحقيق شعاراتها، بل وبشكل أوضح لماذا فشلت في تحقيقها ولتصل أمور الشعوب العربية وأوطانها الى ما آلت اليه اليوم من خراب على مختلف الأصعدة ..؟
مثلما قلنا بداية من أنّ أوربا نجحت في تحقيق وحدتها بعد فصلها الدين عن السياسة والدولة في بلدانها، وأتخاذها للديموقراطية وسيلة لتبادل السلطة سلميا، مع تقدمّها العلمي نتيجة إيلائها أهتمام كبير بالتعليم وتطوّره. ويبدو أنّ مفكرّيها وساستها راجعوا تاريخ قارّتهم التي ضجّت بالحروب الدينية وغيرها لقرون والتي تُوجّت بحربين عالميتين بما خلّفته من دمار، بعد أن كانت قارّتهم مسرحا رئيسيا لهما. ومن خلال ما نراه اليوم من تقدّم شعوب وبلدان هذه القارّة، نستطيع القول من أنّ مراجعة التاريخ هذه كانت الطريق الأمثل لوصول الأوربيين الى قمّة الهرم الأقتصادي والعلمي والتجاري، متسلّحين بقوّة عسكرية ضخمة قادرة على الدفاع عن مصالحهم. ومثل هذه المراجعة التاريخية والسياسية غابت عن بال الساسة والمفكّرين العرب كليّا.
يُعد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الأشتراكي أحد روّاد الفكر القومي العربي الحديث، الّا أنّه لم يستوعب التغيّرات السياسيّة والأقتصادية التي عصفت بالعالم بعد الثورة الصناعية، وبحث البلدان الرأسمالية عن أسواق لتصريف منتجاتها على ما يبدو، كما لم يستوعب بحث تلك البلدان عن المواد الخام التي تساهم في تعزيز صناعاتها. فنراه يترجم المصالح السياسية والأقتصادية الأوربية وعملها على إستعمار البلدان الأخرى كما البلدان العربية وغيرها من بلدان العالم الثالث بسذاجة واضحة، معتقدا من أنّ الصراع الأوربي العربي هو منافسة حضارية بين الإسلام (ممثّل بالأمّة العربية) حسب وصفه وأوربا فنراه يقول من "إنَّ المنافسة بسبب الدور الحضاري الذي جاء به الإسلام، وليس بسبب الموقع والثروات والمصالح"!! دون أن يسأل نفسه ولا مريديه وأتباعه عن الدور الحضاري الذي كان يلعبه الأسلام وقت كتابته مؤلّفه "في سبيل البعث"، ولليوم..؟ على الرغم من أنّ المفكرين القوميين العرب ومنهم عفلق قد وضعوا الدين الأسلامي في مركز مشروعهم القومي ، الّا أن الحكومات التي قامت على أفكارهم بشكل مباشر وغير مباشر حملت عداءا شديدا للأسلاميين وحركاتهم السياسية وقمعتهم بشدّة، من خلال منافسة الأسلاميين لهم على السلطة خصوصا في مصر وسوريا والعراق. وفي الحقيقة فأنّ قمع القوى القومية في البلدان المختلفة لم يقتصر على الأسلاميين فقط، بل كان القمع يطال جميع الحركات السياسية المناوئة لسلطاتهم، كالأحزاب الشيوعية واليسارية والقومية غير العربية، ومنها الأحزاب القومية الكوردية في العراق وسوريا.
وصلت القيادات القومية العربية أو تلك التي تبّنت الفكر القومي جميعها الى السلطة في بلدانها عن طريق الأنقلابات العسكرية دون أستثناء، كما في مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن. ولأنّها وصلت الى السلطة عن طريق العسكر، فأنّها كانت محاطة بولاءات وحماية العسكر والأجهزة الأمنية القمعية لأستمرارها في الحكم. وقد كان تشبثّها بالسلطة وعدم أنتهاجها نهجا ديموقراطيا في الحكم وقمعها لحريّة الرأي والصحافة، وعدم فسح المجال أمام الأحزاب السياسية الأخرى في المشاركة بالقرار السياسي، وقمعها للأقليات الدينية والعرقية في بلدانها، سببا في تخلّف شعوبها وبلدانها، كما لعب الفساد دورا محوريا في تدمير البنى الأقتصادية والأجتماعية فيها. فالبلدان القومية العربية، لم تشهد في ظلّ الأنظمة القومية القمعية نهضة صناعية أو زراعية يعتدّ بها، والتعليم فيها كان ولا يزال بائسا على الأغلب مع تفشّي الأمية والبطالة والجوع، ما جعل شعوبهم في آخر سلّم التطور الحضاري للأنسانيّة. فمصر التي تغيب عنها الديموقراطية يتفشّى فيها الفقر الذي وصلت نسبته في العام الجاري 2024 وفق أرقام البنك الدولي الى 32.5%، كما وصلت البطالة فيه الى نسبة 6.7% وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر. علما أنّ مصر هي الدولة العربية القومية الوحيدة من التي ذكرناها قبل قليل، من تلك التي لم تمزّقها الحروب والحروب الداخليّة بعد حرب عام 1973، عكس البلدان العربية الأخرى، فهل يعود هذا الى إبرامها معاهدة كمب ديفيد مع إسرائيل وأنهاء حالة الحرب بإستعادة سيناء وبناءها علاقات دبلوماسية معها!؟
أنّ فشل المشروع القومي العربي نراه من خلال تقسيم السودان الى دولتين والحرب الأهلية الدائرة فيه والتي أفقرت ومزّقت البلاد الضعيفة أصلا أقتصاديا، ونفس المشروع مزّق ليبيا التي لازالت تعاني من حرب أهليّة، ومثلهما اليمن. أمّا العراق وسوريا التي حكمهما البعث ذو الفكر القومي لعقود فنراه من خلال حروب البعث العراقي الداخلية والخارجية والتي دمّرت النسيج الأجتماعي للشعب العراقي بالفضاعات التي أرتكبها بحقّه طيلة فترة حكمه الكارثية، وتدمير البنى التحتية والقدرة العسكرية للبلاد، تلك التي توجّها المحتل الأمريكي بإقامة نظام سياسي محاصصاتي فاسد، على أنقاض النظام الديكتاتوري الفاشي البعثي. وكما العراق فأنّ حزب البعث السوري الذي أنهار قبل أيّام دمّر سوريا من خلال نفس النهج، بقمعه لحرية التعبير والرأي، ومعاداته للديموقراطية وعدم قبوله مشاركة الشعب في القرار السياسي، وقمعه للأقليات الأثنية والدينية بالبلاد.
لقد أهدرت النظم القومية ثروات شعوبها وطاقاتها نتيجة لصراعاتها الداخلية والخارجية، وعدم أنتهاج سياسة أقتصادية علمية في تطوير التعليم والصحّة والزراعة والصناعة. فالسجون والمعتقلات عهدهم أكثر عددا من مراكز الأبحاث العلمية والجامعات، كما أنّ خوفهم من شعوبهم دفعهم الى عسكرة مجتمعاتهم ودولهم، فتحوّل السلاح العراقي في النهاية الى خردة، والسلاح السوري الى كتل من الحديد نتيجة غارات أسرائيلية متلاحقة على كل المعسكرات والمطارات والموانيء ومراكز الأبحاث العسكرية، أمام صمت العالم وبقية الدول والأنظمة العربية.
لقد حوّل البعثيون بساديتهم وفاشيتهم البلدين الى سجن كبير، تُمتهن فيه كرامة الأنسان وتسحق فيه آدميته، وقد تاجر البعثيون بالقضية الفلسطينية لعقود، فلا الفلسطينيون حصلوا على شيء من هذا الدعم، ولا شعوبهم التي أغرقوها بالقمع ومصادرة الحريّات. وفي النهاية كانت هزيمتهم وهي هزيمة للفكر القومي العربي الشمولي بإعتبارهما آخر نظامين قوميين عربيين، هزيمة لشعوبهم وهزيمة للمشروع القومي العربي أمام المشروع الأسلامي الذي يهيمن اليوم على الساحة السياسية في جميع البلدان القومية السابقة. لكن علينا الأنتباه من أنّ فشل المشروع القومي العربي لا يعني مطلقا نجاح المشروع الأسلامي، فالمشروعين غير قادرين على مواكبة التغيرات السياسية بالعالم، ولا التطورات والطفرات العلمية والتكنولوجية المتسارعة من قبل العالم الغربي. ومثلما فشل المشروع القومي العربي في تلبية حاجات الشعوب العربية للعيش بكرامة بإستغلال الحكومات لثرواتهم (بلدانهم) وتقدّمها، فأنّ المشروع الأسلامي الماضوي غير قادر هو الآخر على تغيير نهج من سبقهم من القوميين.
أنّ ما يقارب الخمسة عقود من حكم نظم قوميّة عربية في عدد غير قليل من البلدان العربية، دون نظام نقدي وعملة مشتركة، ودون تكامل أقتصادي وتبادل تجاري حر، ودون أتّخاذ سياسات مشتركة حيال القضايا العقدية ولو بالحدّ الأدنى، ناهيك عن المؤامرات والدسائس فيما بينها لزعزعة الأمن الداخلي كما حدث من محاولات إنقلابات وإغتيالات ودعم لمنظمات شبه عسكرية ضد أخرى بمشاركة قوى أستخباراتية، جعلت وغيرها من الأسباب التي تطرّقنا اليه سابقا، من مشروع القوميين العرب والبعثيين في بناء دول قوميّة شبه ميّت، إن لم يكن وفي ذروة التحوّلات الجيوسياسية في المنطقة والعالم ميتا بالفعل.
لم تكن القوى القومية العربية والبعثيين وحدهم من بين الأنظمة العربية سبب ما آل اليه الوضع العربي من أنحطاط سياسي وأقتصادي وأجتماعي وفكري، فالدول الرجعية النفطية ذات العلاقة الوطيدة بأمريكا والعالم الغربي وأسرائيل بشكل علني لاحقا والمتخمة بأموال النفط والغاز لعبت دورا كبيرا في إجهاض أي حركة تنشد التغيير، من خلال دعمها اللامحدود للتيارات الأسلامية الأرهابية صنيعة الغرب كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش وغيرها من التنظيمات السلفية الأرهابيّة المسلّحة.
اليوم وبعد الدمار الهائل الذي حلّ بسوريا وغزّة ولبنان، ومعاناة ليبيا واليمن والسودان والعراق من خطر المنظمّات الأرهابية وفساد حكوماتها وتدخل الدول الأقليمية والدولية في شؤونها الداخليّة كتركيا وإيران وغيرها، يبرز المشروع العبري والذي هو بالحقيقة مشروع أمريكي غربي مدعوم خليحيا بقوّة كلاعب أساسي في المنطقة. فإسرائيل التي تملك علاقات دبلوماسية مع العديد من الدول العربية، وقوّة عسكرية مدعومة من قبل الولايات المتحدة والعالم الغربي، وتكنولوجيا متقدّمة، وحضورها الفعّال في العديد من البلدان العربية ومنها الخليجية، لا تحتاج الى وقت طويل حتى ترى أعلامها ترفرف فوق مباني سفاراتها في جميع العواصم العربية، ولينتهي وقتها الحلم العربي بعد أن حوّله القوميون والبعثيون والأسلاميون والمال البدوي الى كابوس.
بعد فشل الأنظمة القومية العربية والإسلامية في بناء دول عصرية، فأننا اليوم بحاجة الى دول ذات أنظمة علمانيّة ديموقراطية، تحترم شعوبها وتشركها في القرار السياسي. أنظمة تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، وتستغل ثروات بلادها في توفير حياة كريمة لمواطنيها، وتحترم الدين وطقوسه على أن لا تتدخل المؤسسات الدينية في الشأن السياسي بالمطلق، خصوصا وأنّ الدين الإسلامي محل خصام بين المسلمين السنّة والشيعة، بل وبين أبناء المذهب الواحد أيضا منذ سقيفة بني ساعدة ولليوم.