تنويه
هذه المقالة، او الدراسة، لا علاقة لها بالسياسة، انما هي سيكولوجية خالصة تدخل ضمن تخصص في علم النفس بعنوان (علم نفس الشخصية Psychology of Personality)..تهدف الى تقديم حالة واقعية في تحولات الشخصية تعدّ استثنائية او جديدة على صعيد العالم المعاصر، هي شخصية ابو محمد الجولاني الذي خلع جلباب داعش وارتدى لباسا مدنيا بأسم احمد الشرع!
الجولاني. .بمنظور الرأي العام
من عادتي انني استطلع الرأي حين اكتب عن ظاهرة تشغل الرأي العام، لأن من شروط الدراسة العلمية..معرفة مواقف الناس من تلك الظاهرة..وهذا ما فعلناه في هذه الدراسة.
كان اول استطلاع اجريناه عن (ابو محمد الجولاني). .بعد يومين من سقوط نظام بشار الأسد، فكانت النتائج ان انقسمت الغالبية المطلقة الى فريقين:
· الأول، يرى (انه داعشي وسيبقى داعشي)،
· والثاني، يرى انه صناعة امريكية.
آخر استطلاع
ولمعرفة ما اذا كان قد حصل تغيير في الرأي العام بعد ان تصدر (احمد الشرع) المشهدين السياسي والعسكري. .توجهنا في (17 /12 /24) باستطلاع هذا نصه:
(ابو محمد الجولاني- احمد الشرع:
· داعشي وسيبقى داعشي
· صناعة امريكية
· وطني وسيعمل على بناء دولة مؤسسات مدنية في سوريا
اختر اجابة واحدة لطفا)
وكانت النتيجة ان الغالبية المطلقة ما تزال على موقفها بأن أحمد الشرع داعشي وسيبقى داعشيا، وأنه صناعة امريكية.
وسيكولوجيا، نخلص من موقف الفريقين أن شخصية (ابو محمد الجولاني – احمد الشرع) لن تتغير، حتى بعد ان تصدّر المشهدين السياسي والعسكري في سوريا، وان الأغلبية المطلقة مع الموقف السيكولوجي الذي يرى بان (سلوك الفرد يستقر ويتسق عبر الزمن وعبر المواقف).. بمعنى ان الشخصية لا تتغير بتقدم الزمن وعبر المواقف.
ونختمها بتعليق الكاتب المعروف زهير عبود: (عمل الجولاني في القاعدة ثم انشق عنها وقتل اعدادا من عناصرها، ثم عاد وانشق عن التنظيم المنشق ليقاتل التنظيم الجديد وتأسيس تنظيم جند الشام الذي ارتكب جرائم ارهابية بشعة، وخضع لارتباط اجنبي واضح تم تسويقه لاسقاط نظام دكتاتوري، وتم اعتبار الشخص ارهابيا دوليا، وخصصت لرأسه ١٠ ملايين دولار للقبض عليه، والولايات المتحدة غضت النظرعن توصيفها وجائزتها..وبانتظار التحليل الذي اثق بشجاعته ومصداقيته كما عهدتك).
مفهوم الشخصية في علم النفس
يتفق علماء النفس المعنيون بدراسة الشخصية) Personality) على صعوبة تحديد مفهوم الشخصية،وحاول كبار علماء النفس تزويدنا بوجهة نظرهم في تعريف الشخصية وبمنظورهم الخاص بالطبيعة البشرية وسلوك الانسان. ولهذا يصح القول بان هنالك تعاريف للشخصية بقدرعدد المنظرين في علم نفس الشخصية اليك نماذج منها:
· جليفورد: الشخصية هي عبارة عن جملة الطرز والسمات التي يتميز بها الفرد عن غيره.
· إيزنك: الشخصية هي الجانب الذاتي الذي يتميز به الفرد في توافقه مع بيئته، فتظهر في أخلاق الفرد ومزاجه وقواه البدنية والعقلية.
· واتسون: هي النشاطات الخارجية التي يقوم بها الفرد، والتي من الممكن ملاحظتها بشكل مباشر أثناء تفاعله، ويجب أن تكون هذه الملاحظة طويلة المدة وكافية للتعرف إلى شخصية الفرد وفهمها بشكل كامل.
· سكنر: هي جملة الأنماط والاستجابات السلوكية القابلة للملاحظة بشكل تطوّري، مع ظهور إمكانية التنبؤ بها وبمدى شدّتها، بالإضافة إلى قابلية ضبطها والتحكم بها باستخدام العديد من المبادئ كالتعزيز.
· بيرت: هي التنظيم المتكامل الذي يحتوي على جملة من الميول والاهتمامات والاستعدادات والمهارات الجسمية البدنية والعقلية، وتكون ثابتة نسبياً بحيث يتحدّد بمقتضاها الأسلوب الذاتي للفرد في تفاعله وتكيُّفه مع بيئته المادية والاجتماعية
· رالف لنتون: يُطلَق مفهوم الشخصية على الصفات المتكاملة للفرد العقلية والاجتماعية والسيكولوجية؛ أي أنها مجموعة من القدرات الذهنية للفرد والمعتقدات والعادات والاستجابات الانفعالية له.
ليس هذا فقط بل هنالك سبعة منظورات في الشخصية..من المنظور البيولوجي الى منظور التحليل النفسي،وانتهاءا بمنظور علم النفس التطوري.
فضلا عن ذلك..لدينا في علم النفس فرع خاص بعنوان علم نفس الشخصية(Psychology of Personality) يستقطب اشخاصا من العلماء المتميزين والمبدعين من ذوي التفكير الاصيل، توصل عدد منهم الى ان الشخصية هي بناء فرضي معقّد يستعمل لتفسير مسالتين اساسيتين:
· الاولى: استقرار سلوك الفرد واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف،(ولسنا معه بالمطلق)،
· والثانية: تمايز او اختلاف سلوك الافراد الذين يتعرضون لنفس الموقف.
وجهة نظرنا في الشخصية
لأن الموضوع حساس جدا، ولأنه يمثل اشكالية جدلية، فأن الأمر يضطرني الى ان اوضّح لمن لا يعرفني، بأنني مؤلف لستة كتب في الشخصية، اثنان منها يدّرسان في جامعات عراقية وعربية، و واحد بعنوان (الشخصية العراقية في نصف قرن) يعدّ افضل ما كتب عن الشخصية العراقية،و(الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية) الذي استنسخ،دون علمي،وعرض في شارع المتنبي..و (الحاكم والمحكوم في العالم العربي من منظور علم النفس والأجتماع السياسي)…فضلا عن أنني درّست مادة الشخصية لأكثر من ثلاثة عقود..وقدمنا تنظيرا جديدا ومصطلحات سيكولوجية مبتكرة..من بينها (الحول العقلي) وأخرى في كتابنا (نحو علم نفس عربي) الصادر في القاهرة.. اوضحنا فيه أننا لا نتفق مع علماء النفس الذين يرون ان سلوك الفرد يبقى مستقرا ومتسقا عبر الزمن.
تحولات شخصية ابو محمد الجولاني
المفارقة في التحولات السيكولوجية لهذه الشخصية التي تتصدر المشهد السوري الآن، انه تحول من اقصى اليمين الديني المتطرف الى شخصية مدنية. وأنه كان قد شارك في شبابه في احتجاجات ضد حكم البعث وسجن مرات،وشق طريقه (الجهادي) ليكون قائدا عسكريا مع تنظيم القاعدة في العراق لمقاومة الغزو الأميركي للبلاد، ثم انتقل إلى سوريا، وأسس "جبهة النصرة" فرعا للقاعدة..تتبع (الدولة الأسلامية في العراق) بقيادة ابو بكر البغدادي ليقرر في 2013 مبايعته زعيم القاعدة..ايمن الظواهري. ..الى تأسيسه (جبهة النصرة) التي كانت تقاتل ضمن فصائل أخرى،ليستقر الى ما صار يعرف بـ"هيئة تحرير الشام ". الى تصدره المشهدين السياسي والعسكري في سوريا، الى تشكيله الحكومة السورية الأنتقالية، الى استقباله الوفود العالمية من فرنسا والمانيا و دول أوربية!.
ومن تصنيفه كأرهابي عالمي، والأعلان عن صرف مكافأة عشرة ملايين دولار امريكي مقابل الأدلاء بأي معلومات عنه..الى ان تلتقيه شبكة CNN وتجري معه حوارا مطولا، لتجد فيما يطرحه تغيّرا فكريا وعقائديا مقارنة بما قاله في حوار سابق مع قناة الجزيرة عام 2013 الذي اعلن فيه صراحة عزمه على تعزيز تنظيم القاعدة في سوريا..الى طمأنة السوريين بعد احتلاله مدينة حماة بأن "الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة له أو لم يفهموه بشكل صحيح"، الى مقولته الأخيرة بأن قوى المعارضة اذا نجحت في الإطاحة بنظام الأسد، فان سوريا ستتحول إلى "دولة حكم ومؤسسات "..بمعنى ان سوريا ستكون حرة، ديمقراطية، وتعددية.
وسيكولوجيا،رأيت فيه من متابعتي لحوارات معه عبر الفضائيات انه يمتلك صفات في الشخصية الكارزمية. فهو يتمتع بحضور مؤثر، ولديه القدرة على التأثير في الآخرين واعجابهم به، وانه يمتلك خبرة سياسية ويتحدث ويسترسل بطلاقة المتمكن وبلغة جسد متناغمة مع لغة كلامه.
تساؤلات
سواءا كنت محللا سياسيا او اعلاميا او عالم نفس اجتماعي او انسانا عاديا..فأننا جميعا نتساءل:
· هل ان ما يمتلكه الجولاني من معتقدات اسلامية وتنظيرات تلقاها من كبار في القاعدة (ابو بكر البغدادي، أيمن الظواهري و…) واجتهاده العقائدي..ستتحكم به حين يتولى سلطة قيادية في الحكم، أم انه سيمارس ويطبّق فعلا ما يقوله من طروحات ديمقراطية؟
· هل هو براغماتي، نفعي، مصلحي (يتمسكن ليتمكن)..يتعامل مع الواقع كما هو اكثر من تعامله مع ما ينبغي ان يكون، وانه مخادع يجيد فن الخداع؟
· هل ان دراسته للقرآن التي دفعته الى تحقيق العدالة وتخفيف الظلم عن الناس، حولّها الى اسلوب مدني بعد ان فشل تحقيقها على صعيد الحركات الاسلامية؟
· وهل سيلتزم عمليا بتصريحين تنقلان سوريا الى مصاف الدول الديمقراطية،هما:
(نعمل على بناء دولة قانون تضمن الكرامة والعدالة ومؤسسات تلبي طموحات الشعب)،
و..(مصالحة مجتمعية شاملة مبنية على العدالة والمساواة)؟
الجواب المنطقي: لا أحد يمتلك اجابة مؤكدة وقاطعة،وأن الزمن كفيل بكشف الحقيقة.
قراءة سيكولوجية
تقدم قراءتنا السيكولوجية لشخصية (احمد الشرع) مؤشرات تنبؤية لما سيكون عليه، منطلقين من رؤيتنا بأن الشخصية تتغير عبر الزمن، وأن اهم عاملين في هذا التغيير هما: نوعية وشدة الأحداث التي خبرتها، ونوع القضية التي تهدف الى تحقيقها.
ونرى ان القضية الأساسية التي شغلت احمد الشرع وصارت هدفه الأسمى في الحياة هي (قضية وطن)..بهدف تحقيق العدالة الأجتماعية وتخفيف الظلم عن الناس التي غرستها في شخصيته دراسته للقرآن وفهمه لجوهر الدين الأسلامي، ومعرفته بتاريخ الأنبياء الذين ثاروا من اجل تحرير الناس من ظلم الطغاة والسلطات المستبدة.
ومن مرونة تحولاته انه التقط العبرة من فشل الحركات الاسلامية وسقوطها في مصر وتونس، وقناعته أن طريق بناء دولة اسلامية أثبت فشله. ولتحقيق طموحه فانه صار على يقين بأن عليه ان يكون براغماتيا..يتعامل مع الواقع كما هو. وفهم ان القيادة تعني (سلطة) وان السلطة تعني حاجة الناس الى قوة تتصف بالشرعية وليس بالقسر والأجبار..يخضع لها الجميع بما يضمن حقوقهم ويقرّ لهم بالواجبات،ويجنّبهم الصراعات القائمة على الطائفية والمحاصصة والتصفية والأقصاء والأستفراد بالسلطة والثروة، بعد ان ادرك ان الشعب السوري..متعدد الأديان والطوائف والقوميات والثقافات وعليه ان يكون على مسافة واحدة من الجميع ليضمن فوزه في انتخابات مقبلة يعمل على ان تكون ديمقراطية، بعد ان يكون قد اقنع الشعب السوري بأن ابو محمد الجولاني(الشاب الأربعيني) قد خلع جلباب داعش وتحول الى احمد الشرع..وتلك هي الأضافة الجديده في سيكولوجيا الشخصية على الصعيد العالمي!