أطل إمام مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد قائلاً: "إلى كلّ الآباء، وإلى كلّ الأُمهات، وإلى كلّ الأبناء، وإلى كلّ البنات… المسلم يتميز بشخصيته، عيد الميلاد، وعيد رأس السَّنة لأهلهما، لا يجوز لنَّا أنْ نُشارك غيرنا مناسباتهم"(الجمعة27/12/2024)، مع أنَّ الإمام، في خطبة سابقة، خاطب المُفَرطِيّن بالعراق: "أريد أنْ أبني بلدي"! وهذا الخِطاب لا يبني بلداً، يشترك فيه أهل أديان ومذاهب.
حذر، قبل ذلك، مفتي الدِّيار العراقيَّة، مِن أمام محراب جامع أمّ الطّبول، ببغداد: "لا يجوز الاحتفال برأس السَّنة، ولا التّهنئة لها، ولا المشاركة فيها"(28/12/2018)؛ معللاً فتوته، إذا صح لنا اعتبارها فتوى، لأنَّ التهنئة تعني تأييد ما ورد في القرآن: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التوبة أو براءة: 30)، وخاطب المهنئ: "إذا متَ تموت مشركاً". تأتي وصايا إمام مسجد أبي حنيفة، ومفتي الدّيار مِن "الشّروط العُمريَّة"(ابن تيمية، مسألة في الكنائس، الخمينيّ، تحرير الوسيلة). أقول: كيف يجري التَّفكير، والكنائس ملأى بالمسلمين، عند الشَّدائد، مِن اجتياح المغول لبغداد إلى يومنا هذا!
إذا كان الخطيبان ملتزميَن بشرط مِن الشُّروط، فعليهما التزامها كافة، ولو طبقت لانهارت الأوطان وتفتت، ومنها: إلزامهم يتجنبون وسط الطّريق توسعة للمسلمين؛ وأنْ يحلقوا مقادم رؤوسهم، ويلزمون الزَّي المقرر عليهم، مثلما طبق في فترات متفاوتة مِن التَّاريخ.
لقد سبق جماعة الإخوان المسلمين بالعراق الخطيبين، بتحريم مشاركة المسيحيين، أو تهنئتهم، ببغداد خلال العهد الملكيّ، بغداد المعروفة باختلاطها الدِّينيّ التاريخيّ،كان ذلك عندما سُمح لهذه الجماعة العمل بحرية، ظناً أنها جماعة تقوى، لا سياسة وحزب، حتَّى أنتبه ذلك العهد، وأوقف نشاطها حينها(الصّواف، سجل ذكرياتي).
لا أُحَشد كلّ ما يعترض فتوى الخطيبين مِن التّاريخ، بل أكتفي بشواهد منها ما فسره، قبل ألف عام، العالم المسلم أبو الرّيحان البيرونيّ(تـ: 440هج)، الذي لو أُخذ بما تفضل به لؤلفت مِن آرائه دفاتر التسامح والتّعايش بين البشر، وبرز الإسلام خارج التعصب، فللنُصوص أسباب نزولها وقولها، قال البيرونيّ مفسراً الأقانيم المسيحيَّة:
«اسم الأبوة والبنوة، فإن الإسلام لا يسمح بهما إذ الولد والابن في العربية متقاربا المعنى؛ وما وراء الولد مِن الوالدين، والولادة منفية عن معاني الأبوية، وما عدا لغة العرب يتسع لذلك جداً، حتَّى تكون المخاطبة فيها بالأب قريبة من المخاطبة بالسَّيد؛ وقد علم ما عليه النَّصارى من ذلك، حتَّى إن مَنْ لا يقول بالأب والابن فهو خارج عن جملة مِلتهم؛ والابن يرجع إلى عيسى بمعنى الاختصاص والأثرة؛ وليس يقصر عليه، بل يعدوه إلى غيره، فهو الذي يأمر تلاميذه في الدُّعاء بأن يقولوا: يا أبانا الذي في السَّماء. ويخبرهم في نعي نفسه إليهم، بأنه ذاهب إلى أبيه وأبيهم؛ ويفسر ذلك بقوله فـي أكثــر كلامــه عــن نفسه، إنه ابــن البشر»(تحقيق ما للهند)، فعل البيرونيّ مثل ذلك مع الصَّابئة، عندما أُشير إليهم بعبدة الكواكب، فنزههم مِن ذلك.
قبيل ما أتى به البيرونيّ، يرى المؤرخ والمفسر الموسوعيّ أبو جعفر محمد بن جرير الطَّبريّ(تـ: 310هـ) في تفسيره للآية: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التَّوبة أو براءة: 30): "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أباً والداً غير مولود، وابناً مولوداً غير والدٍ، وزوجاً متتبَّعة بينهما"(مجمع البيان في تأويل آي القرآن).
كذلك كتب الفضل بن الحسن الطَّبرسيّ(تـ: 548هـ) في تفسيره، بما لا يختلف عن سلفه الطّبريّ: «لم يقولوا بثلاثة آلهة، ولكنهم يقولون إله واحد ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس (…) وقد شبهوا قولهم جوهر واحد ثلاثة أقانيم، بقولنا سراج: واحد ثم نقول: ثلاثة أشياء، دهن وقطن ونار وشمس واحدة، وإنما هي أشياء متغايرة. فإن قالوا: إنَّ الله شيء واحد، وإله واحد حقيقة؛ فقولهم ثلاثة متناقضة؛ وإن قالوا: إنه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرنا في الإنسان والسِّراج وغيرهما؛ فقد تركوا القول بالتوحيد، والتحقوا بالمشبهة، وإلا فلا و اسطة بين الأمرين»(مجمع البيان في تفسير القرآن).
إذا كانت الآية "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"، تستوجب مقاطعتهم الاجتماعيَّة، مثلما تفضل المفتون بذلك، فما تجمعهم بالمسلمين اليوم المواطنة، وهناك حشدٌ مِن الآيات، التي توصي بالعلاقة معهم، بغض النّظر عن الاختلاف في الدِّين، منها الزَّواج، ومنها الاشتراك في الطَّعام، فإذا تؤخذ الآية المذكورة منفردة، فلا تعني المواطنة غير تكارهٍ دائمٍ، فماذا يقول الكارهون، النَّاهون لتهنئة أهل الأديان بأعيادهم، ومناسباتهم، في الآيات: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(العنكبوت، الآية 46)؛ و«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَمن قبلكم»(المائدة، الآية 5). «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »(المائدة، الآية 47). وخص المسيحيين بالقول: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(المائدة، الآية 82)، وغيرها.
عدا ما تقدم، أود تذكير الخطيبين، واحدهما أجزم أنه على مذهب العظيم أبي حنيفة؛ فيكفيه أنه صاحب "الرَّأي"، أما الآخر فيُحسب سلفيَّاً؛ أسند رأيه لابن قيم الجوزيَّة(تـ: 751هـ)، فهو القائل: "فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ أَنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، فَيَقُولَ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا الْعِيدِ، وَنَحْوَهُ، فَهَذَا إِنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الْكُفْرِ ، فَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ"(ابن قيم، أحكام أهل الذِّمة). قد يُصار السّلفي إلى تقليد ابن قيم؛ لكنْ ماذا يفعل مَن يمثل أبي حنيفة، فقيه "أهل العِراق"، عندما اختلف عن بقية أئمة المذاهب الإسلاميَّة، بدخول غير المسلمين المساجد، حتَّى دخواهم الكعبة(ابن قيم، نفسه)، وابن قيم أورد ذلك ناقداً لأبي حنيفة، لأنه قاس على صلاة نصارى نجران داخل المسجد النّبوي(ابن هشام، السِّيرة النّبويّة).
إذا أُخذ تحذير مفتي الدِّيار العِراقيَّة، وإمام مسجد أبي حنيفة، حيث يرقد الإمام منذ السنة خمسين ومئة مِن الهجرة، وتُضاف لتحذيراتهما تصريحات خطيب الجمعة بالنَّجف صدر الدِّين القبانجيّ، يكون مسؤولو الدولة العراقيَّة، مِن العهد الملكيّ، إلى يومنا هذا، كفاراً لأنهم قدموا التهاني للمسيحيين، في كنائسهم، بداية من الملك فيصل الأول(تـ: 1933) إلى رئيس الوزراء محمّد شياع السًّودانيّ، الذي حضر قداس الميلاد ببغداد، مروراً بعبد الكريم قاسم(قُـتل: 1963).
إنَّ بناء الأوطان، وحمايتها مِن الكراهيَّة، وبالتالي مِن موجات العنف، وعبث الجماعات المسلحة الشّريرة بالأرواح، يحتاج إلى خطاب ديني معتدل، إنسانيّ في نغمته، فالدّين وجد لصالح وخدمة النَّاس، لا العكس، ورجال الدين اليوم، بخطابهم المتشدد، المفعم ببث الكراهيَّة، والعزلة للشركاء في الوطن الواحد، يجعلون العكس، أي: النَّاس في خدمة الدِّين، وبما أنّ الدّين يُقدم بهذا الخطاب العنفيّ، فقد تحول النّاس إلى خدم لرجال الدّين، وعلى حد ما نُقل عن الخليفة الرّابع الإمام عليَّ بن أي طالب(اغتيل: 40هـ: "هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْن، لا يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ"(نهج البلاغة، خطبة رقم: 123)، ويبقى لرجال الدين كيف ينطقونه، بلسان المودة واللين أو بلسان الكراهيّة واالتَّزمت.
فما حصل مِن تفجيرات كارثيَّة طالت المسيحيين العراقيين ببغداد والموصل؛ في آيام الآحاد خصوصاً، وأيام الأسبوع كافة عموماً، كانت البداية بخطاب أشبه عنفاً بخطاب مَن ذكرنا، لا أظن يحمل أصحاب هذا الخطاب شيئاً مِن المروءة، عندما يضخون العنف في النفوس، ولا عنف أشد مِن الصدود عن جارك، وابن موطنك في فرحه وترحه.
هذا، وكنا نعتقد أنّ الألف عام الفاصلة بين البيروني ومهدي أحمد الصُّميدعيّ؛ تؤخذ بنظر الاعتبار للتقدم لا للتأخر. أعود مذكراً بما قاله الفقيه سفيان الثّوري(تـ: 161هج)، ولعلَّ إمام جامع أم طبول، يحفظ للثوريّ تقديراً وتبجيلاً، قال: "«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»(ابن عبد البرِّ، بيان العِلم وفضله). أود سؤال المفتين بالصد عن المسيحيين، في أعيادهم، ماذا يفسرون ويقولون وهم يرون الكنائس ملأى باللاجئين المسلمين، خلال اجتياح المغول لبغداد، وحشود الطالبين اللجوء ببلدان الغرب؟ هل هؤلاء كفروا لأنهم دخلوا بيوتاً يُقال فيها: "قالت النَّصارى عيس ابن الله"، ولم يضعوا للتفسير والتأويل مكاناً، ولاختلاف الطَّوائف في ما اعتقدوا بالأقانيم الثَّلاثة؟