الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الحرب في الرواية العراقية: وجهة نظر اجتماعية (2-2)

شهدت فترة ما بعد 2003 غزارة مشهود لها بالقصة والرواية العراقية، تميزت بتنوع موضوعاتها وبروز أسماء كثيرة جديدة إلى جانب الأسماء المعروفة. بقدر تعلق الأمر بالحرب العراقية الإيرانية تناول الروائي العراقي فؤاد التكرلي ذلك الحدث في روايته "المسرات والأوجاع" (1988) وفيها يقطع في أنّ العراق هو الذي بدأ الحرب، وأنّ الحرب بدأت في الرابع من أيلول / سبتمبر، وليس الثاني والعشرين منه كما تقول الرواية الرسمية. يحكي التكرلي في هذه الرواية من بين ما يحكي عنه قصة الأرملة الجميلة الشابة "فتحية" التي ترتبط بعلاقة حب مع "غسان". كان "غسان" التحق تواً بالجيش برتبة ضابط. يتفقان على الزواج ما أنْ يعود بإجازته الدورية بعد مرور شهر. تنتظر "فتحية" فارسها "غسان" بشوق غامر، وأحلام سعيدة ولكنه بالنهاية يأتيها جثة هامدة بسبب استشهاده. كان ذلك في السنة الأولى من الحرب عام 1980. تقف مذهولة حائرة مبعثرة البال، وهي تتحسس بطنها لتكتشف أنها حامل منه … تلك كانت واحدة من الإشكالات الاجتماعية التي تحاشى البحث العلمي تناولها. يروي الروائي علي بدر في روايته "أساتذة الوهم"، (2009) حكاية ثلاث شبان التحقوا بالجيش عام 1985 في خضم الحرب العراقية الإيرانية بعد تخرجهم من الجامعة مباشرة. يتحدر هؤلاء الشبان الثلاثة من طبقة وسطى، ويظهرون ولعاً في الشعر والفن والموسيقى، والمسرح. يُحكَم على أحدهم "عيسى"، بالإعدام بتهمة الارتباط بجماعة محظورة سياسياً. ولم يكن الأمر كذلك، ولكنه كان يأتلف إلى جماعة تسخر من الحرب، وتهتم بالجنود الهاربين، وتحاول مساعدتهم. يستشهد الثاني "منير"، في الأيام الأولى لشهر آب / أغسطس 1988، أو ما يسمى بالوقت الضائع للحرب. معلوم أنّ الحرب توقفت في الثامن من ذلك الشهر عام 1988. ويبقى الراوي الذي لا نعرف اسمه على قيد الحياة ربما ليحكي لنا الحكاية. يسخر بدر من هذه التراجيديا حيث قتل الشابان وهما بعد في مطلع عشرينياتهم نتيجة الحرب، ولكن النظام أعتبر الأول "عيسى"، خائناً فيما أعتبر الثاني "منير"، شهيداً يستحق التكريم.

في ثلاثيته السيرية "حبات الرمل .. حبات المطر" (2017)، "صوت الطبول من بعيد" (2020)، و"الشر في الصندوق الأخير" (2021) يعبر الروائي فلاح رحيم عن ادانته للحرب التي يعتبرها بلا مبرر خاصة وأنّ العراق آنذاك كان يشهد نشاطاً تجارياً واقتصادياً واعداً. يعزو رحيم ذلك إلى عنجهية القادة واصرارهم على خوضها. تتناول سارة الصراف في روايتها "سمعت كل شيء" (2023) التي تقوم على مذكرات يومية الحياة الاجتماعية في الداخل البغدادي بصوت فتاة صغيرة بدأت وهي في الثامنة من العمر وبلغت السادسة عشرة نهاية الحرب (1980-1988). بعيداً عن جبهات القتال تصف الصراف بيوتاً تكتظ بالنساء والمسنين من الرجال فيما تخلو هذه البيوت من الرجال الشباب ممن يعودون في اجازاتهم الدورية بين فترة وأخرى وهم في حالة من التوتر والعصبية وميل إلى العنف.

نأتي إلى الظروف التي رافقت فترة ما بعد 2003 حيث تتصدر الروائية انعام كاچچي المشهد من خلال روايتيها "طشاري" (2013)، و"الحفيدة الأمريكية" (2009). تتناول كاچچي في الرواية الأولى ما لحق بالمسيحيين العراقيين من كارثة حيث يطالبون بالنزوح والهجرة رغم أنهم من الجماعات الأصيلة التي سكنت العراق منذ القدم. تحكي الرواية محنة الجماعة من خلال طبيبة عراقية اسمها "وردية" كانت من أوائل من تخرجن من كلية الطب العراقية في أربعينيات القرن الماضي، وعملت لخمسة عقود في محافظة القادسية التي تقع في منطقة الفرات الأوسط، ثم انتقلت للعمل في بغداد. خدمت "وردية" العراق وعاشت كل عمرها فيه، وأسست عائلتها حتى بلغت سن التقاعد لتجد نفسها مهددة بالقتل بسبب انتمائها الديني. تضطر الطبيبة إلى الهجرة وهي في تلك السن المتقدمة فيما يتوزع أولادها بين بلدان العالم. ذهب أحدهم للعمل في دولة الامارات العربية المتحدة، وذهبت إحدى الابنتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية فيما وصلت الابنة الثالثة وهي طبيبة إلى كندا لتبدأ حياتها العملية، والعائلية هناك. تحكي كاچچي عن محنة الهجرة والفاقة التي يواجهها المهاجر في البلد المضيف مما يدفع بطلة روايتها "الحفيدة الأمريكية" إلى الانخراط في صفوف الاحتلال الأمريكي لبلدها العراق بصفة "مترجمة". لا تنجو الحفيدة من عذاب الضمير خاصة وأنها تلتقي بجدتها التي رفضت الهجرة من العراق، وما زالت مقيمة فيه. لا تبخل الجدة بسيل من الانتقادات لحفيدتها بسبب العمل مع هذه الجماعة - الجيش الأمريكي المحتل. تأخذنا الكاتبة والمترجمة والروائية لطفية الدليمي في كتابها "كراساتي الباريسية"، إلى تجربة الغربة على الصعيد الشخصي لامرأة وضعت كل رصيدها الاجتماعي والأخلاقي في مجتمعها العراقي. امرأة وجدت نفسها مضطرة للبدء من جديد، في سن متقدمة، في بلاد لم تكن بالنسبة إليها إلا محطة سياحية زارتها مرة أو مرتان في سني حياتها. حصل ذلك هرباً من موجات العنف التي شاعت في البلاد، آنذاك. تغادر البلد لأسبوع بقصد أخذ قسط من الراحة، لذلك لم تأخذ معها إلا القليل من مقتنياتها الشخصية، ولكنها تقرر أنْ تمد رحلتها وتبقى بعيدة عنه لأمد لا تحزره بعد أنْ تفاقمت الأوضاع سوءً.

اهتم الروائيون العراقيون بما لحق باليزيديين وما يمكن أنْ يطلق عليه "السبي اليزيدي". فقد كان لظهور الدواعش عام 2014 أثر بالغ على هذه الجماعة الدينية باعتبارهم "كفار وملحدين". نشر الكاتب الروائي جاسم المطير روايته "داعشتاين: مخلوق السعير والمصير" (2018) بصيغة استنطاق لشهرزاد بطلة كتاب "ألف ليلة وليلة" عما حدث في الموصل عشية احتلالها من قبل الدواعش. عبر المطير في هذه الرواية عما أصاب المدينة من خراب ولحقها من دمار رغم أنها كانت عنوان للتحضر والمدنية والروح المسالمة. تناولت الكاتبة والشاعرة دنيا ميخائيل القضية اليزيدية في روايتيها "في سوق السبايا"، (2017) و"وشم الطائر" (2021). تعقبت ميخائيل "في سوق السبايا" من خلال اتصالات هاتفية تجارب نساء يزيديات تعرضن للسبي حيث فصل الرجال عن النساء، أولاً. وقسمت النساء إلى جماعات: المتزوجات وغير المتزوجات أو حسب ما عبرت عنه "العذراوات" و"غير العذراوات". فيما أُخذت الفتيات الصغيرات للخدمة في البيوت فقد أخذ الصبيان الذكور للتدريب على السلاح، وتعلم قواعد الدين الإسلامي. تُشترى السبية بالمال ويعطى المشتري ورقة تتيح له الزواج منها، شرعاً. في حالة من الحالات تسأل السبية اليزيدية الرجل الذي اشتراها من أحدهم: ألا تستحرمون الزواج بالمتزوجات! يقول لها: ليس إذا كنّ يزيديات. … وتناول الروائي وارد بدر السالم محنة اليزيديين في روايته "بنات لالش: اكتشاف عذراء سنجار" (2020) يحكي فيها عن أب "سربست"، يذهب في رحلة بحث عن ابنته المسبية "نشتمان" ذات الخمسة عشر عاماً. يروي الكاتب خلال رحلة البحث هذه عن مشاهد للقتل شهدها بطل الرواية من بينها سلخ جلد إنسان وهو حي بتهمة التجسس على الجماعة، وإيصال المعلومات لقوات البيشمركة الكردية. وفي حالة أخرى من بين كثير من الحالات، يشهد بطل الرواية قيام الدواعش بحرق رجل مع زوجته وأطفاله داخل بيته بذات التهمة. يفتدي "سربست" في النهاية ابنته "نشتمان" بمبلغ كبير من المال يستلم لقاءه ورقة تمنحه حق الزواج بها!

يمكن الاستنتاج بأنّ الروائي العراقي كان قريباً مما مر في بلاده ومستجيباً لرسالة الدكتور علي الوردي لتبني وسرد ما حصل من كوارث لأبناء جلدته بمختلف انتماءاتهم وتصنيفاتهم الأمر الذي بدأ، ولم ينته بعد. وساهم الروائي برصد الواقع على قسوته، وامتنع عن التضليل عليه. وقد كابد في سبيل ذلك الكثير ابتداءً من عين الرقيب ومحاولة القفز عليها، وتفادي علقتها مروراً بالتحفظات الاجتماعية التي عبر البحث العلمي الاجتماعي عن الاستجابة لها بدليل التهيب من الخوض في مثل هذه الموضوعات أو في الأقل، التغافل عنها. إذا كانت "الدراسة الاستطلاعية" واحدة من الآليات التي يعتمدها البحث العلمي الاجتماعي فإنه يمكن اعتبار القصة والرواية العراقية جزءً من هذه الآلية. القصة والرواية الجيدة تقدم مادة ممتازة للقراءة الممتعة ولا تخلو من مشاهد ملهمة، وتصور أولي قد يشعل فكرة ما يمكن تعقبها بمزيد من البحث والتقصي.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 08-01-2025     عدد القراء :  33       عدد التعليقات : 0