الشهيد عبدالسلام قلو
كان على بدرية (1) ان تنتظر ٢٣ عاماً لتعرف اي خبر عن زوجها، تلك الاعوام التي مرت ثقيلة جدا وموحشة. كانت قليلا ما ، موشات بالأمل وكثيرا ما ، مرادفة لفكرة الموت . لكن طبيعة الانسان وتشبثه بالحياة هو الذي يدعوه احيانا لتكذيب الحقيقة وتصديق الخيال، ربما يكون حيا ! وربما يكون قد هرب من السجن ..! وربما يكونوا قد نسوه في احد سجونهم السرية تحت الارض وسيظهر ..! وربما يكون قد التحق بالمقاتلين في الجبل وسيعود ! كل هذه الهواجس تمر بشريطها السينمائي امام اعين بدرية، وباقي افراد عائلته ، خاصة مع الاحاديث التي كثرت عن اكتشاف المقابر الجماعية بعد سقوط البعث عام ٢٠٠٣، تلك الصدمة التي لا تريد ان تصدقها حتى لو ظهر لها في الحلم وقال لها اني بينهم.
في احد ايام تموز ٢٠٠٣ ، يستوقف شقيقه الأصغر (2) خبر منشور في موقع الحزب الشيوعي عن حصول الحزب على قائمة بأسماء (١٦٧) شهيدا كانوا قد اعدموا في ٢٣ كانون اول ١٩٨٢، وبدافع الفضول بدأ بقرأ الاسماء، واستطاع تمييز بعضها ، وصارت العيون تثقل في قرأتها حتى تسمرت امام الرقم ٥٠ ! يا الهي، انه هو.
الشهيد عبد السلام يوسف قلّو، من مواليد الموصل عام ١٩٤٠ ، كان والده المولود عام ١٩١٤ يعمل في شركة النفط البريطانية (آ بي سي)، وبحكم هذه الوظيفة فقد كان كثير التنقل وصادف ان ولدت السيدة أليزا جيقا المولودة عام ١٩٢٧ وقد كانت ربة بيت ، ان تلد ابنها البكر عبد السلام في الموصل.
درس الابتدائية في القوش، وانتقلت العائلة الى بلدة تلكيف حتى يكمل دراسته المتوسطة، ثم سافر الوالد مع عبد السلام وشقيقه رمزي الى بغداد لغرض اكمال الدراسة والاستقرار هناك .
تفتحت افكار عبد السلام حينما كان فتىً يافعاً في بلدة القوش وبتأثير مباشر من احد خدام الكنيسة وكان يدعى الشماس (آبرم عمّا) الذي كان يحمل فكرا تقدمياً ، وربما يعود الفضل له في نشر هذه الافكار الانسانية بين نسبة كبيرة من شباب القوش آنذاك، ويجمع الكل بأن (آبرم) كان شخصية اجتماعية محبوبة ومثقفة .
عندما انتقل عبد السلام الى بغداد وهو في مقتبل الشباب كان منظما آنذاك ، ويتذكره احد رفاقه (صباح شلال) و اعمام بين (اسمرو) حيث عملوا في التنظيم سوية .
اودع السجن اول مرة في العهد الجمهوري عام ١٩٦٠ وكان اثر نشاطه في الدعوة للسلم في كردستان، وهكذا كان صيدا حاضرا للبعثيين بعد انقلابهم الدموي في ٨ شباط ١٩٦٣، إذ بقي في السجن حتى العام ١٩٦٨ ، ويتذكر شقيقه الاصغر، ان العائلة انتقلت كلها الى بغداد ، وصادف ان اخذته والدته في زيارة الى سجن الحلة عام ١٩٦٥ لمشاهدة اخيه عبد السلام. وبعد اطلاق سراحه ، التحق بالخدمة العسكرية لأنه اعتبر من المتخلفين عنها.
في العام ١٩٧٤ اقترن عبد السلام من الآنسة بدرية جولاغ ، املا ببناء اسرة وحياة مستقرة لكن السفينة سارت عكس رغبة ربانها، اذ تخللت تلك السنوات عملية التفرغ الحزبي والسفر الكثير والتخفي احيانا وبالتالي لم تنعم هذه العائلة الفتية بالاستقرار. عمل لفترة معاون ملاحظ انتاج في معمل باتا، لكنه تفرغ بعدها للعمل الحزبي وحتى كان من ممثلي الحزب في الجبهة الوطنية (مكشوف) ، وبعد انفراط عقدها صار كثير التنقل والتخفي بين محافظات العراق وبعيدا عن زوجته التي كان وإن زارها فيكون في الخفاء حيث كانت تسكن منطقة كمب سارة في بغداد فيما كانت والدته تسكن منطقة بارك السعدون والتي كان يزورها كما زوار الليل .
يقول شقيقه الاصغر، انه وفي تلك الايام العصيبة صادف ان رآه ٣ مرات فقط ومن بعيد ، وكان يومئ له ان يبتعد خشية ان يكون مراقبا، اما الخبر الاكثر رعبا فكان اثناء التحضير لامتحانات الصف السادس بكلوريا أواخر آيار عام ١٩٨٠ حينما اخبرتنا زوجته بدرية بأن احدا قد شاهده صباحا عندما خرج لجلب الحليب والصمون وأنهم قد القوا القبض عليه وألقوه في سياراتهم المعروفة، وهكذا اسدل الستارعلى عبد السلام حتى اشعار آخر .
عاشت العائلة كوابيسا كثيرة ومتنوعة ، تارة بالسؤال عنه منهم او في اثناء ملئ الاستمارة الامنية او في اثناء المراجعات الحكومية، وكان جوابها الصادق والحقيقي : انها لا تعرف شيئا عنه وعن مصيره ، اما هم الذين يعرفون مصيره فإنهم يصطنعون هذه القصة إمعانا في اذلال الناس ، فيا لهم من انسانيون ويا لهم من بعثيون حد النخاع!
ما الذي يتعمله المرء حينما يقرأ قصة الشهيد عبد السلام يوسف قلّو : أن لا بديل عن تحقيق الديمقراطية وإحكام القانون والدستور في البلاد وإقرار قانون حرية الاحزاب والصحافة ووضع القوانين لتنظيم ذلك وتنظيم الانتخابات بصورة شفافة واقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة ومنع الميليشيات والسلاح المنفلت ودفع البلاد نحو الحكم العلماني بفصل رجال الدين عن الدولة ، هكذا وهكذا فقط ربما سينهض هذا الوطن ويلحق بركب الاوطان المجاورة .
المجد والخلود للشهيد عبد السلام يوسف قلّو
التحية لمن تبقى من عائلته الكريمة ورفاقه وأصدقائه
العار سيلاحق البعثيين ومن يدافع عنهم مدى الدهر ، لأنهم مجرمون بكل معنى الكلمة .
(1) بدرية : هي زوجة الشهيد عبد السلام
(2) شقيه الاصغر: آثر ان يحتفظ بإسمه
* شكرا للرفاق في منظمة القوش وللرفيق فريد دمان لمساعدتهم بالحصول على صورة الشهيد
شباط ٢٠٢٥