الدكتور مكرم الطالباني(1923-2025م) يُعد واحداً من أبرز الشخصيات السياسية العراقية في التاريخ الحديث. وُلد في احدى قرى كركوك، التي عُرفت بتنوعها العرقي والثقافي، وقد أثرت هذه البيئة الغنية في تكوين شخصيته السياسية والفكرية. انضم الطالباني مبكراً إلى الحزب الشيوعي العراقي، ليبدأ مسيرة طويلة من النضال السياسي والاجتماعي.
وُلد الدكتور مكرم الطالباني في عائلة كردية تعتز بتراثها الثقافي وتاريخها الوطني. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في كركوك، ثم انتقل إلى بغداد لمواصلة دراسته الجامعية. حصل على شهادة في الحقوق، ومارس المحاماة، وهو من الشخصيات المميزة التي جمعت بين العلم والسياسة، وتأثرت أفكاره في تلك الفترة بالنظرية الاشتراكية والأفكار الماركسية التي كانت تلقى رواجاً بين الشباب المثقف آنذاك.
انضم إلى الحزب الشيوعي العراقي في شبابه، وشارك بفعالية في تنظيم الأنشطة السياسية والاجتماعية. كان يتميز بفكره المتقد وقدرته على التواصل مع مختلف فئات الشعب، ما جعله يرتقي سريعاً في صفوف الحزب. عُرف الطالباني باعتداله السياسي ورغبته في بناء جسور التعاون مع القوى الوطنية الأخرى، بما في ذلك الأحزاب الوطنية والقومية.
شهدت مسيرته العديد من المحطات السياسية المهمة، حيث كان حاضراً في معظم التحولات الكبرى التي شهدها العراق خلال القرن العشرين. عمل بجد لتعزيز دور الحزب الشيوعي في الحياة السياسية العراقية، سواء من خلال عمله الوظيفي أو عبر تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، وقد واجه الطالباني مضايقات واعتقالات عدة من قِبل الأنظمة المتعاقبة، لكنه ظل متمسكاً بمبادئه وأفكاره.
وقد لعب دوراً محورياً في العملية السياسية في العراق، خصوصاً خلال الفترات الانتقالية. ساهم في صياغة البرامج السياسية التي تهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعمل على توسيع قاعدة التحالفات الوطنية. كان دائماً داعماً للحوار والتفاهم بين مختلف القوى السياسية، مع الحفاظ على استقلالية الحزب الشيوعي ومبادئه.
كما تميز بقدرة استثنائية على بناء علاقات متوازنة مع القوى السياسية الأخرى. ويدعو دائماً إلى وحدة الصف الوطني لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجه البلاد، ولقد أسهمت هذه السياسة في تعزيز مكانة الحزب الشيوعي كلاعب رئيسي في المشهد السياسي العراقي. كما كان للطالباني علاقات قوية مع الأحزاب الكردية، حيث سعى دائماً إلى تحقيق حقوق الشعب الكردي في إطار وحدة العراق.
ومن أبرز الصفات التي رافقت مسيرة الدكتور مكرم الطالباني السياسية هي الاعتدال، ولم يلجأ إلى التطرف في مواقفه أو خطابه، بل كان يدعو إلى الحوار كوسيلة لحل الخلافات، ولقد أسهم هذا الاعتدال في جعله شخصية محترمة من قبل مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، سواء داخل العراق أو خارجه. كما ساعدت هذه الصفة في تقليل حدة التوترات بين الحزب الشيوعي والقوى الأخرى، مما أتاح فرصاً أكبر للتعاون المشترك.
ورغم التحديات التي واجهها، فقد ترك إرثاً سياسياً وفكرياً غنياً. كان مثالاً للسياسي المثقف الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. ألهمت تجربته السياسية أجيالاً من الشباب العراقي الذين رأوا فيه نموذجاً للقيادة الحكيمة والنضال من أجل العدالة الاجتماعية.
والطالباني في طليعة الشخصيات التي أثرت بشكل كبير في المشهد السياسي العراقي. جمع بين العلم والسياسة، وبين النضال والاعتدال، ليصبح رمزاً للوطنية والتعايش السلمي، وستبقى مسيرته شاهداً على أهمية الحوار والتعاون في بناء مستقبل أفضل للعراق.
والطالباني موسوعي في ثقافته فقد كان من المتضلعين في القوانين المحلية والدولية، ويمتلك ثقافة ماركسية اتخذها دليل عمل في سلوكه السياسي والاجتماعي والوظيفي، وعلى اطلاع واسع بمجمل السياسة في المنطقة أو العالم، اضافة لقدراته الادارية، وثقافته الاجتماعية المستمدة من واقع تمكن من فهمه ودراسته من خلال التجربة ودراسته من خلال النظرية الماركسية، ومن خبرات اكتسبها من وسطه ومحيطه الأسري الذي كان يحضا بمكانة مميزة في المنطقة بما لها من أرث ديني واجتماعي مرموق.
يضاف الى ذلك تمتعه بعلاقات طيبة مع مختلف القوى السياسية في العراق وخارجه، ويحضا باحترام القوى التي تخالفه الرأي والعقيدة لما عرف به من صراحة متناهية، واتخاذ الحق طريقاً دون محاباة أو انحياز لطرف فكان حكماً وحاكماً في عديد من القضايا الاجتماعية والسياسية وربما الدولية ايضاً، حتى قيل عنه( الشيوعي العاقل) لما عرف عنه من حيادية وابتعاد عن التعصب والاصرار على قول الحقيقة حتى لو كانت في غير صالحه، أو اللف والدوران والمماحكة، فكان المفاوض المقبول في مختلف المحطات المصيرية، فهو مهندس بيان 11 أذار، وصلة الوصل في التحالف بعد 17تموز1968، ناهيك عن مؤلفاته في المجالات المختلفة التي اعتمدت الوثيقة والتحليل والخروج بنتائج علمية لها مكانها بين الدراسات الرصينة والهادفة.
وقد أصدر الدكتور الطالباني مذكراته الموسومة(الحياة لا تجري دوماً حفيفة ناعمة) التي أعدها الدكتور سيف عدنان الدوري، وهذه المذكرات من أصدق المذكرات التي أصدرها العاملون في الوسط السياسي، وهي زاخرة بكثير من المحطات المهمة في تاريخ العراق السياسي في القرن العشرين، فقد واكب العمل الوطني خلال الحكم الملكي، وكان في طليعة المحامين الذين دافعوا عن المعتقلين السياسيين، وشكلوا لجنة للدفاع عنهم ضمت عدد من المحامين التقدميين، كما كان اللولب المحرك والناشط الفاعل في انتخابات النقابة، وتقلد مراكز وظيفية في العهدين الملكي والجمهوري كان خلالهما من بين أكثر الموظفين نزاهة والمام بواجباته الوظيفية، ونجح في كثير من المهام التي أضطلع بها سواء في ميدان العمل الوظيفي أو العمل السياسي، فقد كان من المساهمين في مفاوضات القوى الوطنية في اطار التحالف لتكوين جبهات لتعزيز كفاحها الوطني، وكان عمله في وزارتي الري والنقل خير مثال للوزير النزيه الكفء القادر على ادارة العمل بشفافية ومهارة، ما جعله موضع احترام القوى السياسية الأخرى فقد كان مثالاً يحتذي بما قدم من صورة لوزير في حكومات العالم الثالث.
وفي مذكراته محطات يصح الوقوف عندها لما فيها من دلالات واضحة على نضجه الفكري والسياسي واعتداله العقائدي، فقد أشار بشكل جلي الى الأخطاء التي ارتكبتها القوى الكردية والحزب الشيوعي في كركوك، والى انسياق التركمان وتعاملهم مع تركيا وشركات النفط وهو ما أدى الى صدامات بين العرب والأكراد في كركوك، وتتحمل وزره هذه القوى جميعاً، فلم يستثن حزبه الشيوعي من الانجرار الى سلوكيات خاطئة، وممارسات مرفوضة كان يمكن تفاديها لو وضعت بميزان العقل.
وأعطى صورة واضحة لمسيرة الزعيم عبد الكريم قاسم وتذبذبه وضبابية تعامله مع القوى السياسية المختلفة، وكيف عاش على تناقضاتها وسعيه لتفريقها، وفرديته في اتخاذ القرارات، وأخطاءه في الاعتماد على القوى التي كانت تتآمر عليه، ومحاربة القوى الداعمة له، وهو ما أدى أخيراً للإطاحة بحكمه وما آل اليه من مصير.
ومن المحطات المهمة التي ذكرها، ما حدث له من مواقف خلال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وموقفه من الاصلاح الزراعي، ورفضه لمنصب محافظ كركوك أو وزارة البلديات ورفضه العمل إلا بشروط رأى انها في صالح الشعب، وما جرى له بعد انقلاب 8 شباط 1963، واعتقاله من قبل الحرس القومي واتهامه بتهم ثبت كيدية أثبت التحقيق بطلانها الا أن السلطة كانت مصرة على تجريمه فحكم عليه بالسجن ونقل الى سجن نقرة السلمان الصحرواي، ثم اطلاق سرحه من قبل زير الداخلية صبحي عبد الحميد الذي يعرف مواقفه الوطنية واخلاصه لقضية الشعب والوطن.
ثم يتحدث عن لقاءه ب (احمد حسن البكر) قبل انقلاب 17 تموز1968 وطلبه التعاون معهم والمشاركة في الانقلاب، ورفضه المشاركة لوجود شخصيات معروفة بارتباطها بالمخابرات البريطانية وعملها مع قوى خارجية، ثم سعي البعثيين للتحالف وما دار من نقاشات وحوارات أدت أخيراً لإصدار الميثاق الوطني واقامة الجبهة الوطنية، وأورد مبررات التحالف والفوائد الناجمة عنه، وأخيراً انفراطه بعد هيمنة المغامرين وحكم الأسرة.
ومحطات أخرى كثيرة عن مفاوضاته مع السوريين والأتراك عند قطع مياه نهر الفرات، ولقاءاته مع المسؤولين السوفييت ورئيس وزراء هنغاريا ووزير النقل البريطاني ورئيس وزراء المانيا الديمقراطية ورئيس الوزراء الأردني وغيرهم من كبار المسؤولين في دول العالم، ونجاحه في ألب المهام الخارجية التي أضطلع بها، وتقديم استقالته من الوزارة ولقاءه مع صدام حسين، وتكليفه بوساطات عديدة لإعادة التحالف مع الشيوعيين أو المصالحة مع الأكراد ووساطات أخرى، ولقاءاته مع صدام حسين لمناقشة أوضاع البلاد وما طرحه في تلك اللقاءات من آراء ومواقف ومحاولاته اسداء النصح وتغيير سياسات النظام وضرورة اجراء انتخابات حرة، واتخاذ مواقف يمكن أن تعيد الثقة بالنظام، وآخرها قبل سقوط النظام في 2003، وكان في هذه اللقاءات يطرح وجهات نظر بصراحة تامة مشيراً للأخطاء التي ترتكبها السلطة وضرورة العمل على تجاوزها.
لقد كان الدكتور مكرم الطالباني عراقياً مخلصاً، يعمل لأجل العراق وشعبه بمختلف أطيافه وتلاوينه، فهو يضع مصلحة العراق قبل أب مصلحة قومية أو حزبية، وهو من القلائل الذين استطاعوا الخروج من شرنقة التعصب والانحياز على أسس دينية أو قومية أو مذهبية، وبذلك أعطى صورة لما يجب أن يكون عليه الوطني الذي يسعى لمصلحة الجميع وليس لمصلحة طائفة أو قومية أو فرد.
لقد رحل وهو نقي الضمير عف اليد واللسان، فلم يؤثر عنه تطرفاً في رأي، أو تجاوزاً في حكم، أو ميل مع هوى، أو تنصلاً من موقف، بل عرف بالثبات والمصداقية والثقة بالنفس، والاعتداد بالرأي والموقف وذلك من النادر القليل.