يردُ في أكثر من قاموس فلسفي أنَّ "الهوية مفهوم فلسفي أساسي، وقد ظهر استخدامه، أول مرة، في علم المنطق. ولفظ الهوية في اللغات الأوربية مأخوذٌ من اللاتينية idem، ويأتي بمعنى هُوَ هُوَ، أو هيَ هيَ.
وينُصُّ مبدأ الهُوية على تماثلِ الإنسان مع ذاته، وكذلك "تطابق شيئين أو مفهومَين لا يكونا مُتطابقَين إلاّ إذا، وفقط إذا كانت خواصُ أحدِهما مُماثلةً لخواص الآخر"(1). ويمكن العثور على مفهوم الهُوِية في فلسفة ما وراء الطبيعة، وعلم النفس وعلم الاجتماع، والسياسة كذلك.
ومن أوائل من أشـار إلى إشكالية الهـوية في اليونان القديمـة هيراقليطس (540 ـ 480 قبل الميلاد)، فيلسوف مرحلة ما قبل السقراطية. كان من أوائل من مارسَ النقـد العقلاني الحي لأسلوب حياة البشر في زمانه، وإدراكهم السطحي لواقعهم وذواتهم كذلك، مع أنه كان يرى أنَّ البشر لـدَيهم القدرة على معرفة أنفسِـهم بأنفسـهم والتفكير بعقلانية.
رؤيتـهُ لمفهـوم الهُـوية، وهـي رؤيـةٌ مُبَـكِّرة جِدّاً تقـوم على قاعـدة الجَريان والحركة/ قاعـدة التـغَيُّر الـدائم. وتتَجَسَّـدُ رؤيتُـهُ هذه في مقولتِـهِ الشـهيرة: "نحن ننـزل في نفس النهـر، ولكـنـه ليس هو نفسـه في كلِّ مرة، ونحنُ لسـنا نحن كذلك"(2). للهـوية إذن صـيرورتُها التي تتشـكل معها هُوية أحـدِنا ونضـوجُها وتطورها ألأخلاقي عِبْـرَ تجاربه الإجتماعية والثقافية بوصفها مسؤولية ذاتية. هـذه التجارب هي ما تُحَقِّقُ لأحدنا أن يكون هو نفسـه، أن يكونَ ذاتاً حرة. ومسألة الهوية الذاتية لم تكتسب أهميةً أكبر في الفلسفة، وحقول المعرفة الأخرى، إلاّ في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومع انطلاق حركة التنوير الفكري في أوربا. ، وبَدء إدراك الإنسان لمعنى التَحَرُّرِ من رِقِّ الوصاية عليه. وكان لمقولة الفيلسوف الأيماني عمانوئيل كانت (1724 ـ 1804) التي دعا فيها أهل زمانه إلى أن يتولى كلُّ واحدٍ منهم خدمةَ عقلهِ وإغنائه بالمعارف بنفسه، وهو ما يجعله يعي حريتَهُ واستقلاليتَهُ، ويدرك معنى وجوده(3).
سردية الهوية
لكلِّ هوُية، فردية كانت أو جماعية، سرديتها الخاصة بها. سرديةٌ لها لغتها ورؤاها، تاريخها وتجاربها وذاكرتها. وبهذا المعنى فإنَّ هُوية الإنسان الذاتية هي سرديته التاريخية عن نفسه، عن ذاته. عن رؤيته للأشياء، للمكان ـ الوطن، وللمجتمع اللذَين ينتمي إليهما ولثقافتهما التي أسهمت في صُنع ذاكرته، وكذلك للعالم الذي يتقاسم العيش فيه مع الآخرين. حتى الأديان، وما يخرج منها أو عليها من مذاهب وطوائف، لها سـردياتها التاريخية. سردياتٌ صنعتها تصوراتها ونصوصها المقدسة، وتشريعاتُها وطقوسها وثقافتها حتى تلك الفولكلورية منها، وكذلك رؤيتها للعالم والإنسان والحياة الدنيا وما وراءها. وهي، في الغالبِ، رؤىً يختلطُ فيها الواقعي بالمُتَخَيَّل، والدُنيَوي بالميتافيزقي. هذا كُلُّه هو جوهرُ ما تتأسسُ عليه هُويةُ هذا الدين أو ذاك، وهذا المذهب أو ذلك. وجميعها تتلاقحُ مع بعضها البعض، وتأخذ من بعضها البعض فكرياً وثقافيا. السابقُ منها يؤثِّرُ، بهذا القَدْرِ أوذاك، في اللاحق، وهذا فيمن يظهرُ بعده، مثلما هو الحالُ في حضارات الإنسان جميعها.
واللقاء بالآخـر المختلف معي وعني، سواء تشاركنا في الوطن أم لم نتشارك، هو أحـد المحطات الهامة في سردية الهوية وصيرورتِها غيرِ الساكنة. وهو ما يأخذني، عبرَ وعيي بأنَّ هذا الآخر مختلف عني ثقافياً، إلى إعادة قراءة ذاتي وذاتِهِ، ثقافتي وثقافته، ومعهما هُوِيته وهُوِيَّتي بالضرورة. مثلُ هذه القراءات لن تكونَ، في النهاية، سوى مصدرِ غِنىً ومعرفةٍ جديدة له ولي أيضا، ننقلُها لغيرنا حيثما نكون.
الهوية والحداثة
ويرى علماء من مختلف الاختصاصات، في عصرنا هذا، أنَّ الهوية مُتَطلَّبٌ حديث يحتاجه الأفراد والجماعات. ولهذا يذهب بعض فلاسفة علم الاجتماع إلى أنَّ الهوية أحد اختراعات الحداثة. ولذلك تمضي دراسات موضوعة الهوية إلى البحث في الخصائص والسمات الفريدة التي تُحدد شخصية فردٍ ما، أو مجموعة ما، وتميزهما عن الآخرين. وفي حقل العلوم الاجتماعية يشير مفهوم الهوية إلى الأشخاص القادرين على الابتعاد عن أنفسِهم، من حين لحين، والتفكير بذواتِهم من خارجها، وإخضاع هوياتهم للنقد والتساؤل. وهؤلاء الأشخاص هُمْ من يذهبون للتفكير في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، كما يتأملون نقدياً، في الوقت نفسه، ماضيَ مجتمعاتهم وحاضرها ومستقبلها. وقد رأى الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920)، وهو من أهَمِّ ممثلي علم الاجتماع، والنظرية الاجتماعية في زمانه، في مثل هؤلاء الأشخاص نموذجاً مثالياً لتلك الأداةٍ المفاهيمية في علم الاجتماع، والتي تتولى تحليل الظواهر الاجتماعية المعقدة وفهمَها(4). ولكن وبحسبِ رؤية فيبر، فإنَّ روح العقلانية التي كانت قادرة على التطور، بشكل خاص في أوربا، أدَّتْ إلى ظهور الرأسمالية كمجتمعٍ متفوق، وهو ما أفضَى، في نهاية المطاف، إلى إصابة الذوات الفردية الإنسانية بالذعر من هذا "الصندوق الحديدي"، كما يقول، حيث يصبح الناس تابعين للسوق وحركته، وخاضعين لسطوة عقلانيات قوية، أيْ آليات إدارية بيروقراطية حديثة (5).
امتلاك الإنسان لهويته الذاتية يعكس حالةَ تصالُحٍ مع نفسه وذاته، وما يؤمن به من أفكار يهديه إليها عقلُه وتجاربُهُ الثقافية، وتفاعلُهُ مع الثقافات الأخرى كذلك. وهذه الهُوية هي من تُمّثِّلُ الوجود والحضورَ الحقيقيين لصاحبها في الحياة وفي المجتمع. وذاتيةُ الهُوية هنا لا تعني الإنكفاءَ، كما قد يتصور بعضُنا في البداية، والعيشَ في عزلة عن المجموع والمحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، فأنا والآخر نظلُّ بحاجة لبعضنا البعض. نتفاعل ونتناقضُ، تتطابق رؤانا في هذا الأمر وتختلف في الآخر، ولكننا نحيا عبرَ جدلية التطابُقِ والاختلاف هذه، تحولاتٍ وتطورات معرفية واعية ودائمة، خاصة إذا ما أحسنا الحوارَ والجدلَ بالتي هي أحسن. وهكذا فالآخر وأنا نظل حاضرَيْن ببعضنا البعض إنسانياً وثقافياً ومعرفيا في ميادين مختلفة لايُمكننا تجاهلها، أو إغماض عقولنا عنها، لأنها مؤثرة في تشكيل صورتنا، وصورة حياتنا وتطَوُّر مجتمعنا في النهاية. وهذا ما ينبغي أنْ يُدرِكَهُ هُوِيّاتِيُّو الأديان والمذاهب والأيديولوجيات المنغلقة على ذاتها، وعلى الآخر، وذهابُها حتى إلى العِداء معه، وهو ما نراه عندنا.
هل تكون جذور الهُوية سابقة لوَعينا بها؟ أمِ العكس؟ هُويةُ كلِّ واحدٍ منا لا تبدأ بالتشكل مع مجيئنا إلى هذا العالم. بعض جذورِها الأوليّة نرثها جينياً من الوالدين، ولعلهما قد وَرِثاها من الأجداد والأسلاف أيضاً، ثم أورثانا إيّاها، فيما بعد: لون البشرة ربما، سِمات الوجه، بعض الطبائع، وحتى بعض الأمراض التي قد تستيقظُ فينا مُبَكِّراً أو فيما بعد. وما أنْ نهبطَ من أرحام أمِّهاتنا، مأوانا الدافئ القديم، إلى هذا العالم، تكون بانتظارنا أقفاصٌ هُوِيّاتيّة أخرى: الهُويّات الدينية والمذهبية، الهويات العرقية، الهويات القبلية، وحتى الهوية الوطنية أيضاً. أسَمِّيها أقفاصاً لأننا لم يكن لنا رأيٌ فيها، ولم نختَرها كذلك، ومنها تلك الأسماء التي اختارها لنا الآباء لتصبح، في النهاية، جزءاً من هويتنا، خاصة تلك التي تبدأ بكلمة "عبد" مُلحقٌ بها اسم من يؤمنُ الأهلُ بأنه أحد القديسين. وعلى أنَّ العبودية في أديان التوحيد خاصة، لا تَصِحُّ لغير الله، يجد الكثيرون منا أنفسَهم وقد أصبحوا عبيداً، دون إرادتهم، لقِدِّيس ما، لا هو يعرفهم، ولا هم عرفوه!
إضافةً إلى الهُوية الاجتماعية الفردية هناك هُويات جماعية مختلفة: الهوية الوطنية، أحياناً يُطلَق عليها هُوية الأمة، الهويات الدينية، ومنها نشأت الهويات المذهبية أو الطائفية، الهويات الأيديولوجية والثقافية، الهويات الطبقية والهويات السياسية والحزبية.
مفهوم الهوية الوطنية لم يظهر إلاّ مع نشوء الدولة القومية، أي دولة الأمة، خاصةً في أوربا عَقِبَ تَفَكُّكِ الإمبراطورية الرومانية المقدسة وانهيارها في القرن الثامن عشر، وذلك بالتزامن مع انطلاق الثورات الديمقراطية الأولى ضد الإقطاع وحليفته الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. حينها فقط بدأ الناس يبحثون عن إجابة على سؤال: ما الذي يُشَكِّلُ هويةَ شـعبٍ ما، ودولة ما؟ وحدثَ الاهتداء إلى إجابة ترى أنَّ ما يَصح للإنسان الفرد من حق باتخاذ قراراته وخياراته الخاصة ذاتياً، ومعرفة نفسه بنفسه، وتطويرها وتقرير مصيرها، يَصِحُّ أيضاً للشعوب التي تريد آمتلاكَ مصائرها وتشكيلها بنفسها.
وقد حدثَ أنِ استُخدِمَ مفهومُ الأمة دينياً أيضا، حيث نُسِبَتْ جماعاتٌ وشعوبٌ مؤمنة إلى أنبيائها، فكان ثَمَّةَ حديث عن أمَّة موسى، وأمَّة عيسى وأمَّة محمَّد وغيرها.
أهَمُّ سمات الهُوية الوطنية، أيْ هوية الأمة الجامعة: الثقافة الوطنية المُشتركة، الوعي الوطني، التاريخ الوطني المُشتَرَك، اللغة والرموز الوطنية. وهذه الهوية الوطنية تعني أنَّ أولئكَ المواطنين الذين اختاروا، أو وجدوا أنفسهم يَحيَون في ظل الدولة الوطنية وقوانينها والعقد الاجتماعي المُبرَم بينهم وبينها، لديهم وعيٌ بانتمائهم لبعضهم البعض، وأنهم أبناء مجتمع وطني واحد. وهذا الوعي لا يتعارض مع انتماء جماعات منهم لهوية فرعية أخرى: دينيةً أو إثنيةً، أو مذهبيةً كانت، أو من غير هذه وتلك.
تاريخ الهويات الفرعية في العراق
للهويات الثانوية أو الفرعية في العراق تاريخ طويل، سَبَق بقرون طويلة أسلَمَة العراق عَقِبَ ما صار يُطلَق عليه، في التاريخ الإسلامي، غزوُ البلدان أو فتحها لدين الله الجديد، حيث فُتِح العراق في النصف الأول من القرن السابع الميلادي. هذه الهويات هي، في الغالب، هويات أهل العراق الأوائل من مسيحيين وصابئة مندائيين، وكرد وإيزيديين، وكذلك يهود جيئَ بهم، مثلما يذكر مؤرخون، أسرى إلى بابل إبّان حكم نبوخذ نُصَّر لها. فجأةً أصبح هؤلاء، بعد الفتح الإسلامي، غرباء في موطنهم الأصل، أو فيما أصبح موطناً لهم لقرون طويلة، كما في حالة اليهود العراقيين. فجأةً أصبحَ الجميعُ "أهلَ ذِمَّة" يتمتعون بالحماية والأمان مقابل دفع الجِزية للحكم الجديد. ويتجلَّى هذا في الآية 29 من "سورة التوبة"، والتي تقول: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يُحَرِّمونِ ما حَرَّمَ آللَّهُ ورسُولُهُ، ولا يَدينُون دينَ آلحَقِّ منَ الذينَ أُتُوا الكتابَ حتَّى يُعطُوا آلجزيَةَ عن يَدٍ وهُمْ صاغِرون"، أَيْ يدفعونها عن قَهرٍ وطاعةٍ، وهم مُنقادونَ أذِلاَّءَ لحُكم الإسلام.
في زماننا هذا يُحَرِّمُ أهل الحُكم عندنا على هؤلاء العراقيين، الذين لم يعودوا، والحمدُ لله، أهل ذِمَّة وجزية، ما لم تُحَرِّمْهُ عليهم أديانهم السماوية، ولا أنبياؤهم المرسلون من الله إليهم.
أهل العراق القدامى، مِمَّن أصبحوا أقلياتٍ بمرور الأزمان، ظلُّوا، وحَسَناً فعلوا، يُحافظون، رغم وطأة الأحوال، على هُوِيَّاتهم وثقافاتهم التي ما يزال يُطلَقُ عليها توصيفُ هُوياتٍ وثقافاتٍ فرعية، حتى في زماننا هذا.
الهُويات المذهبية، سُنِيَّةً كانت أو شيعيَّةً، تمتدُّ جذورُها الأوليَّة إلى بَدءِ النزاعات بين صحابة الرسول عَقِبَ وفاته مباشرةً، وحتى قبل آنشغالهم بغسيل جثمانه وتشييعه ودفنهِ. مسرحُ هذا النزاع بين الأنصار، (أهل المدينة من الأوس والخزرج)، وبين المهاجرين من قريش، شَهِدتهُ، كما هو معروف، سقيفةُ بني سـاعِدة. وحينها لم يكن لبني هاشم حضورٌ مباشر في هذا النزاع. كان هناك مُشايعون، أيْ مُناصرون، للإمام علي بن أبي طالب، أغلبُهُم من فقراء المسلمين، ومن الموالي مِمَّن كانوا عبيدا في بيوتات أرستقراطية قريش وقبائلِ عرب شِبه الجزيرة العربية آنَذاك.
مصطلحُ (الشيعة) الذي يعود، في الأساس، إلى هذه المُشايعة للإمام علي، صار يُطلَقُ، فيما بعدُ، وخاصة في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، على المذهب الشيعي الذي نعرفه اليوم. وقد تناوب على إرساء أسُسِه الفكرية والفقهية والشرعية، أو ما أصبح يُسَمَّى عقائد الشيعة الإمامية، أربعةُ علماءِ دين، ثلاثةٌ منهم إيرانيون: الشيخ الصدوق، الكليني والطوسي، ويعود إليه تأسيسُ حوزةِ النجف العلمية. أما الرابعُ فهو العراقي، المتأثر ببعض آراء المعتزلة ومقولاتهم، الشيخ المفيد. الإمام عليّ وأبناؤه وأحفاده من الأئمة لم يكونوا شيعة بالمعنى المذهبي الذي عُرِفَ فيما بعد، وإنما كانوا أئمة مسلمين أجِلاَّء لهم آراؤهم ورؤاهم وقراءاتهم وآجتهاداتهم في الدين الذي جاء به النبي الهاشمي جَدُّهُم.
الهوية العراقية والدولة الحديثة
لم يبدأ المخاضُ العسير لِتَبَلْوُر هوية وطنية عراقية إلاَّ بعد سقوط الدولة العثمانية وغروبِ سلطنتها، وإعلان العراق، في عام 1922، مملكةَ هاشمية في ظِلِّ سلطة انتداب بريطانية. عُسْرُ ولادةِ دولةِ أمَّةٍ عراقية لها، ولشعبها هويةُ أمةٍ واحدة، يُجمِعُ عليها، ويعيشُ في ظِلِّها العراقيون جميعاً، كما كانَ يحلمُ الملك فيصل الأول، يُعزى في تقديري، أَّولاً: للأِشكاليات الهُويّاتية العديدة التي تعيشُها مُكَوِّنات البلد الدينية، والمذهبية والإثنية أساساً. وثانياً: إنَّ عملية ولادة هذه الأمة، واستيلادِ هُويةٍ وطنية جامعةٍ لشعبها، تَولتْهُما مُوَلِّدَةٌ أجنبية محتلة ذات مقاصد كولونيالية.
هناكَ دراسةٌ هامة، في رأيي، للدكتورة دينا خوري، أستاذة التاريخ والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، في الولايات المتحدة الأمريكية، أتاحَ لي فرصة الإطِّلاع عليها الصديق الدكتور هاشم نعمة. تتناول الدراسة التي تحمل عنوان (بين الإمبراطوريات والأمة: ذكريات الحرب الكبرى، والهوية الوطنية العراقية)، إشكاليات هذه الولادات العسيرة في العراق. المقصود بالحرب الكبرى هنا، الحرب العالمية الأولى، وسقوط السلطنة العثمانية "المسلمة!"، واحتلال العراق، في سياقها، من قِبَلِ بريطانيا العظمى، ثمَّ مجيئها، فيما بعد، بعائلة ملكية مستوردة من خارجهِ، تتولى حُكمَهُ وتسييرَ أموره باشراف بريطاني مباشر.
بداياتُ تشكيل الأمة العراقية، والبدءُ بصياغة الهوية الوطنية، ارتبطا، مثلما ترى الباحثة، بثورة العشرين. وهي ثورة أفتَتْ بها، ودعتْ إليها مرجعياتٌ دينية شيعية، في الأساس، ودعمتها مرجعيات الطائفة المسلمة الأخرى كذلك. البعدُ المذهبي لم يكن غائبا عنها، ولعله كان الأبرزَ فيها. رفعَ المنتفضون الشيعة، في حربهم ضد الغزو البريطاني (راية حيدر)، دفاعاً عن دولة الإسلام في مواجهة الكفار، وكانوا يرددون في قتالهم ضدهم: "حيدر يا عِزْنا وسورْ الْنَه"(6). وهذا ما يشيرُ إلى غيابِ أيِّ إجماعٍ وطني على مفهوم ومعنى الهوية الوطنية العراقية آنَذاك. وهو ما لم يتحقق بالصيغة المُرتجاة، كما أرى، حتى خلال فترة الحكم الملكي (1922 ـ 1958).
لقد أتيح لي، صدفةً، أن أتابعَ، قبل أسابع، مقطعا من حوار مع السفير البريطاني في العراق، منقول من إحدى الفضائيات هناك، أكَّدَ فيه أنَّ العراق لم يكن دولة مستقلة حقاً، حتى بعد قبوله عضوا في عصبة الأمم، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. وذكر الرجلُ، في سياق حديثه هذا، ما كان معروفاً للعراقيين حينذاك، أنَّ المستشارين البريطانيين كان حاضرين في كافة وزارات الدولة العراقية، ولهم الكلمةُ الفصلُ فيها. كان آخر ما أصغَيتً له منه قولهُ: "العراق أصبح مستقلاً حقاً مع ثورة 1958".
جاءت ثورةُ تموز، في تقديري، بثورة وعيٍ وطني معها، شَمِلَ غالبية العراقيين، ومنهم من ظِلَّوا أسرى فكرةِ الهُويات الفرعية. الهوية الوطنية تشترط تَحَقُّقَ هذا الوعي الوطني كَيْ تتحقَّقَ هي بدورها أيضاً. سلسلة القوانين التي تولَّى صياغتها خبراء دستورٍ وقانون معرفون، شرعت حكومة الثورة بعد شهورٍ قليلة من تشكيلها، بإصدارها واعتمادها قواعدَ أساسية للقضاء العادل والحكمِ الرشيد الصالح. تَمَّ إلغاء قانون دعاوى العشائر، وتشريع قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، وقانون تأميم النفط، والخروج من حلف بغداد (السنتو) البريطاني اللون والنزعة والمقاصد، ومغادرة منطقة آلاسترليني، وكذلك تشريع قانون الإصلاح الزراعي الذي مَهَّدَ السبيل لتحرير الفلاحين المعدمين من سطوة الإقطاع واستغلاله ومظالمة، وإنهاء آغتراب الفلاح عن أرضه، وحتى عن وطنه. ثمَّةَ قولٌ بليغٌ يُنْسَبُ لأبي الحسنَين، الإمام علي بن أبي طالب، يَرِدُ فيه: "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن". وكان من الغريب، في حينها، أنْ تُصدِرَ المرجعية الدينية، التي يُنْتَظَرُمنها دينياً وإنسانيا أن تكون مع المظلومين والمحرومين، فتوى ترى فيها أنَّ هذه الأرض أرضٌ مُغتَصَبَة، وتُحَرِّمُ على أهلِها الفلاحين الصلاةَ عليها! كنت، في وقتها، صبياً عايشَ ظلمَ الشيوخِ لأهله، وابتهجَ لرؤيتهم يواصلون الصلاةَ على أرضهم، رغم تبجيلهم لمرجعيتهم الدينية. كان خُمسُ أهلي وزكاتهم، هو فقرُهم وعَوَزُهم وجوعُهُم، وأمراضُهم لا غير، أمّا خُمسُ الإقطاعي وزكاته فكان المالُ الوفير، وهو مالٌ أنتجَهُ له عَرَقُ الفلاحين وكَدُّهم في أرضهم!!. هذه التشريعات، وأخرى سواها، هي من تَحَقَّقَ بها ومعها استقلالُ العراق الحقيقي، وهويته الوطنية في تقديري.
إلغاء اعتبار حدَثِ 14 تموز عيداً وطنياً، هو في حقيقته، نوعٌ من انتقامٍ متأخر من هذه الثورة ، ومما أنجزته للعراق والعراقيين، خاصةً للفقراء والمعدمين منهم. التشريع لأعياد أخرى ذات جوهرمذهبي خالص، ووضعها في خانة الأعياد الوطنية، ومحاولة تعديل قانون الأحوال الشخصية، ومخاطر ذلك، ليس على المرأة والطفولة وحقوقهما فحسَب، وإنما بتكريسه للقسمة الطائفية في المجتمع، والسعي لتديين الدولة وسياساتها وقوانينها وسلطة قضائها، تمهيداً لإقامة دولةٍ دينيية في النهاية، يسوسُها سـاسةٌ سوسٌ فاشلون، لم يصنعوا لنا، طوال اكثر من عشرين عاماً، غيرَ دولة تابعة وفاشلة. وهو ما سيؤدِّي، في آخر المطاف والطواف، خاصةً في بلد متعدد الأديان والمذاهب والإثنيات، والتيارات الفكرية ، إلى محوِ الذاكرة الوطنية المُشترَكة، ومعها الهوية الوطنية، وذلكَ عبرَ الإحلالِ التدريجي لذاكرة ثقافية طائفيةِ العقل والروح والمنطق مكانها. مع هذه الثقافة، ومكائن غسيل الأدمغة التي تمتلكها ثقافياً، تغدو المذاهبُ هي أوطانُ أتباعِها، ويغدو العراق في ذاكرتها مجرَدَّ مكانٍ جغرافي قديم، غزاهُ الأسلافُ يوما ونزلوه!. ثقافةُ هذه الذاكرة هي ثقافة الطاعة العمياء، وديمقراطيتُها هي ديمقراطية المساواة في التبعية. والهُويةُ التي تؤَسِّسُها لأتباعِها تظلُّ هُوِيةً مغلقةٌ على نفسها، تحرصُ على بناء جدران ثقافية وفكرية عالية بينها وبين ما هو وراء هذه الجدران. وطبيعة هذه الهوية أنها رُوِّضِت على آلاطمئنان لما هو جاهزٌ من أفكارٍ، ظلَّ وعيُها يَتغَذَّى عليها، ويُعيدُ اجترارَها داخل الحدود التي وضعها له ُوعّاظُهُ وسادته وساسته، بحيث لم يَعُدْ يعرف آفاقاً ومعارف أخرى خارجها. وهذا ما يُؤّكد حقيقة أنَّ الهُويات المغلقة ينتجها عقلٌ مغلَق وعقيم، يُفَرِّخُ هو بدوره عقولاً مُغلَقَةً وعقيمة. وأصحاب العقول المُعَطَّلة يصعُبُ عليهم أن يهتدوا إلى حقيقة أنَّ استقلاليةَ أيِّ انسان، ذكَراً كانَ أو أنثى، هي ما تجعلُ أحدَنا حُرّاً، سَيِّدَ نفسِهِ وسيِّدَ عقلهِ، مالكاً لُهويتهِ وخصوصيته، مُدركاً لمعنى وجوده وحياته. الخروج من أيةِ دوائر تجهيلٍ فكري مُغلقة يشترطُ فكرياً، في الأساس، إدراكي بأنَّ عقلي سجينها. ومن الواضح أنَّ خطابَ أصحابِ الهُويِّات المغلقة خطابٌ مؤدَلجٌ، لا يعرفُ السَيْرَ معرفياً إلاّ باتجاهٍ أحادي اللون والرؤية، لا مكان فيه لديمقراطية حقيقية، ولا لتعددية الأفكار والرؤى والإتجاهات والألوان، فهذه جميعها تشترطُ ديمقراطية تكون فلسفةَ وأسلوب حياة وإنما داخلَ البيت مع العائلة، وفي الفضاء العام، وليس آليةً انتخاباتٍ فقط، يطالها التزوير، وشراء الذمم، ويُديرها ويُشرف عليها من يُؤَمِّنُ لأحزاب الحُكم النتيجة المَرتجاة.
في دراسة هامة للمفكر الإيراني عبد الكريم سروش، الباحث في الفلسفة والفكر الديني، يتناول فيها موضوعة التعددية في الخطاب المؤدلج والخطاب الأبستمولوجي. ويشيرُ هنا إلى (أنَّ الخطاب الأيديولوجي، هو خطابٌ قتالي ولا يمنحك الفرصة للبحث والفحص في اختيار موضوعٍ مُعَيَّن من بين عدة مواضيع، فأنت عندما تكون في حالة حرب لا يثمكنك ان تقفَ وتُفَكر لتختار فكرة مُعَيَّنَةً من بين الأفكار المختلفة بعد آمتحانها وآختبارها. إنَّ التعددية والبلورالية لآ تنسجم ولا تتناسب مع الأفكار الأيديولوجية، وفي مُقابل ذلك فإنَّ الخطاب الأبستمولوجي هو تعددي، ويفتحُ لك البابَ للتحقيق في التفاسير المتعددة والقراءات المختلفة...
... وتلاحظون أنكم إذا بدأتم في البحث من موقِعٍ أيديولوجي فسوف لا تَصِلون إلى الديمقراطية ولا إلى التعددية، لأنَّ منطقَ ذلك الخطاب وأهدافه لا يسمحُ بإيجاد هذه الثغرةَ فيه، ولا تنبُتُ غرسةُ التعددية في ترابه(7).
هُويَّـة المرأة وصورتُها في العقل الذكوري
تعديلِ قانون الأحوال الشخصية 188 لعام 1959، يشيرُ، بوضوح، إلى جوهر هذه الثقافة وهويتها المغلقة. وهي ثقافةٌ تُمَثِّلُ رؤيةً ذكورية للعالم وللآديان والحياة عموماً، وللمرة على نَحوٍ خاص. وليس للمرأة إلاّ أن تكون تابعةَ وخاضعةً لهذه الرؤية وإملاءاتها، فالذكورُ، سواء كانوا فقهاء (بعضهم أفتى حتى بمُفاخذة الرضيعة!!)، أو وُعّاظاً أو دُعاةً، هم من يُفكرون عنها ولها، ويرسمون لها حدودَ حركتها وتفكيرها، ويقررون لها كيف تعيش حياتها، وما الذي يجب عليها رفضُهُ أو قبوله، وما عليها سـوى الرِضى والقبول بما يُرادُ لها ومنها، فإذا هي تحيا دوماً ، كما تريدُ لها العقلية الذكورية، بين قُطبَي الحرام والتحريم، والكفر والإيمان، والشرِّ والخير. والثقافة التقليديةُ المُؤدلجة، في نظرتها للمرأة، تترَبَّعُ على موروث واسعٍ من المقولات والمرويات والأحكام التي تتحركُ بين هذَين القطبين، وتتغذى عليها. ففيها تكون "المرأةُ ناقصة عقلٍ وناقصةُ دين!" ، و"ما تركتُ فتنةً أضَرَّ على الرجال من النساء!"، و"عامةُ من دخلَ النارَ النساء!"، وهي تقول لنا "أعذِبوا عن النساء ما آستطعتم!"، أيْ أعرِضوا عنهن وآتركوهن. وكذلك "ألمرأةُ عقرَبٌ حلوةُ اللسعة!"، هل يجبُ أنْ نحمدَ الخالقَ هنا على جعلِهِ لسعةَ هذه العقرب ـ المرأة حُلوَةً في الأَقَل؟. وغيرُ هذا مثَلاً "لا يَحِلُّ للمرأةِ أن تصومَ وزوجها شاهدٌ إلاّ بإذنه، وما أنفقتْ من نفقةٍ عن غيرِ أمرِهِ، فإنَّهُ يُؤدَّى إليه شطرَه!"، وأيضاً "غَيرَةُ المرأةِ كفرٌ وغَيرِةُ الرجلِ إيمان!"، ومثلُ هذا في هذه الثقافة كثيرٌ...كثير. هنا، وطبقاً للقراءة الذكورية للدين، وفي أمرٍ ينبغي أن يتساوى فيه حقُّ المرأة والرجل في الغَيرَة على بعضهما، تُصبِحُ المرأةُ مُكَفَّرَةً، أما الرجلُ فيزدادُ لغَيرتِهِ إيماناً على إيمان. بشَريةُ النظرة الذكورية للمرأة في هذه المرويات تنطوي على إساءةٍ للإله ولمفهوم العدالة الإلهية، فالبشرُ، ذكوراً وإناثاً، هم في عدالة الله سواء، ولا يُمكن أن تُنْسَبَ لله عدالاتٌ تتناقض مع بعضها البعض. ثُمَّ ألا ينبغي أن تكون قِيَمُ العدالة والمساواة عند الله واحدة، لا يُفَضَّلُ فيها الذكورعلى الإناث؟.
كان أبو عثمان الجاحظ (159 ـ255 هـ) من أوائل من تناول التمييزإزاء المرأة، والمظالم التي لحقتْ بها في زمانه، حيث كتبَ: "لسنا نقول ولا يقولُ أحدٌ ممن يعقلُ: إنَّ النساء فوقَ الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتَيْن أو بأكثر، لكنّا رأينا ناساً يَزْرونَ عليهنَّ أشَدَّ الزراية، ويحتقرونَهُنَّ أشَدَّ آلاحتقار، ويبخسونَهُنَ أكثرَ حقوقِهِنَّ..." (8).
صورة المرأة وهُوِيَّتُها اللتين رسمَهما لها العقل الذكوري وألبسهما إيِّاها، مُضْفِياً عليهما بُعْداً عَقَدِياً دينيّا ، أصبحا، منذ نشوء الأديان، هما مُنطلق رؤيةِ هذا العقل المرأة والتعاملِ معها، والحُكم عليها. في مركز هذه الرؤية يقف جسد الأنثى الذي وضع له ذكوريو الأديان سياساته الخاصة به، وأحاطوه بأكفان الخطيئة الأولى التي أورثوها لصاحبته من أمِّها حواء. فقد غَدَت المرأة عورةً بسببهِ، وأصبح عليها الخوفُ منه، أن يمضي بها إلى الخطيئة، وما لها غير أن تعيش معه في حالة عداء دائم فهو لعنتَها. وعليها ألاَّ تُفَكِّرُ به، أن تُغلِقَ عيونها، وتصُمَّ آذانها إزاء لغتِهِ. فالمراة ينبغي عليها، إذَنْ، ألاَّ تعيَ ذاتَها وهويتِها وحريَّتها. أنْ لا تتأمل واقعها وواقعَ محيطها آلاجتماعي. هذا آلانشغالُ بجسد آلأنثى وشيطنتهِ دينياً، يشي، في تقديري، برغبة الذكر الخفية في التسلُّطِ عليه، ومراقبتهِ والتلصُّصِ عليه وتوجيهه مثلما يريده هو، ويراه صائباً.
ولمّا ظَلَّت هويةُ المرأة وصورتها، في هذا العقل، تَتَأرجحانِ ما بين منقصَة العقل ومنقصَة الدين، وأنها خُلِقَتْ من ضلعٍ أعوجَ ، كما يرى بعضُ الفقهاء، لم تُخْلقْ إلاَّ لإرضاء الرجل وخدمته أساساً، فلا يجوز لها السَعيُ لطلب العلم والمعرفة، أللهُمَّ إلاَّ أنْ تكون داعيةً دينييةً بين النساء، أو ناقلةَ أحاديث. وعلى أنَّ أخبار التاريخ عندنا جاءت لنا برواياتٍ عن مجالس أدبية نسائية، وحتى دينيية صوفية، في القرنَين الأولين من تارخ الإسلام رابعة العدوية القيسيّة مثلاً ( 713 ـ801 م.)، إلاَّ أنَّ العلم ظلَّ محجوزاً للذكور، حتى شاعتْ في الفضاء الإسلامي قديماً مقولةُ أنَّ (العلمَ ذكّرٌ لا يُحِبُّه إلاَّ الذكران!). مقولةٌ ما يزال لها أثرُها، وتأثيرُها على الكثيرين في زماننا هذا أيضاً. في كتابٍ له بعنوان (النظام الأبوي) يوردُ أستاذُ علم آلاجتماع والفلسفة العراقي، الدكتور إبراهيم الحيدري (1936 ـ2024) ، رأياً فقهياً في هذا الشأن، لِأحد دعاةِ السلفية وفقهائها في عراق القرن التاسع عشر، هو الشيخ نعمان ين أبي الثناء الآلوسي (1836 ـ1889)، وقد وردَ رأيُهُ الفقهي هذا في كتابه (الإصابة في منع النساء من الكتابة)، حيث يقول فيه: "فأما تعليمُ النساء النساء القراءة والكتابة فأعوذ با لله منه، إذْ لا أرى شيئاً أَضَرَّ منه بهِنَّ، فإنهُنَّ لمّا كُنَّ مجبولاتٍ على الغَدرِ، كان حصولَهُنَّ على المَلَكَةِ من أعظم وسائل الشَرِّ والفساد. والشَرّ، وأوَّلُ ما تقدرُ آلمرأةُ على تأليف الكلام، فإنَّهُ سيكون رسالة إلى زيد، أو رقعَةً إلى عُمَر .... وشيئاً آخر إلى رجلٍ آخر ... فا للبيبُ من الرجال من تركَ زوجتَهُ في حالٍ من الجهل والعمى، فهو أصلحُ لهُنَّ وأنفع"(9).
ساسةُ الطوائف وتديين السياسة
تديينُ السياسة، وكما أظهرت لنا تجارب التاريخ في الماضي والحاضر، لا يُفضي لغير الإساءة للإثنين: السياسة والدين، وتوظيف الأخير للسطوة على الناس، وآمتطاء ظهورهم باسم المُقدَّس، حيث يُصبح المقدس أداةً للظلم وتعطيل العقول، وعباءةً تغطِّي على الفساد، والسطو على المال العام، والإمساك بحبال الناس وتدجينهم وتجهيلهم، وتسخير المُقَدَّس وراياته لمُواجهة شركائي في هذا الوطن من مسلمين وغيرِ مسلمين. كُلُّ هذا عاشَه ويعيشه العراق والعراقيون منذ عشرين عاما في الأقل.
الإشكالية التي تعيشها الدولة العراقية والمجتمع العراقي، والهوية الوطنية العراقية، لا تكمن في تعدد الهويات الفرعية فيه: دينياً، قومياً ـ إثنياً، فكرياً، سياسيا وقبلياً. هذه التعددية تعيشها غالبية بلدان العالم، وتتعاملُ معها بعقلانية، وفي إطار عقدٍ اجتماعي حديث وإنساني يضمن مساواةَ الجميع بالحقوق نفسها، ونظام حرياتٍ
هذا التنوع الثقافي لا ينبغي أن يكون، مثلما هو الحالُ عندنا، تنَوُّعَ جُزُرٍمنفصلة عن بعضها، منغلقة على نفسها، مسكونة بروح الكراهية لبعضها البعض، ونوازع الثأر والانتقام لأحداثٍ ومَقاتلَ عاشها الأسلافُ في ماضٍ بعيد، لا أحد منا شارك فيها، أوكان شاهدأ أو حتى متفرجاً عليها. ولكنَّ بعض ساسةِ العراق المتنفذين ما زالوا يعودون، من حين لآخر، لإيقاد حطَبِ الكراهية في نفوس أتباعهم، مُذَكِّرين إياهم بجيش يزيد وجيش الحسين. ألم يكنِ الأجدرُ، بمثل هؤلاء الساسة، بعدَ أن أصبحوا مسؤولين، كما يُفتَرض فيهم، عن البلد وسلامة مواطنيه جميعاً، أنْ يتمَثَّلوا حكمةَ الإمام علي بن أبي طالب وانسانيتَه، وحرصَهُ المذهل على دماء المسلمين، حتى من عاداه منهم، ويعودوا لتصَفُّح (نهج البلاغة)، وإعمالِ الفكر في قولة له، وقد سَمِعَ جمعاً من أصحابه يَسبُّون أهل الشام أيامَ حربهم بصِفين : "إنِّي أكرهُ لكم أنْ تكونوا سَبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالَهم، وذكرتم حالَهم، كانَ أصوبَ في القول، وأبلَغَ في العُذرِ، وقلتم مكانَ سَبِّكُم إيّاهم، أللهُمَّ آحْقِنْ دماءنا ودماءهم، وآصلِحْ ذاتَ بَيْنَنا وبَينَهم، وآهدِهِم من ضلالتِهِم، حتى يعرفَ الحقَّ من جَهلَه، ويرعوي عن الغَيِّي من لَهِجَ به"(10). أَلَمْ يُكثِرْ هؤلاء الساسة من الزعم أنَّ الإمامَ مثالٌ أعلى لهم؟ ثمَّ ألا يُنْتَظَر منا التَمَثُّلَ بمن اتَّخَذناه مثالاً، وهو جديرٌ بذلك حقاً؟
إنَّ الأوطانَ يصنعها آلاجتماع البشري، وفكرة الإجماع الوطني، يا ساسة بؤسِ هذا الزمان، وليس عسكرة المجتمع والأفكار والحياة دينيّاً وطائفياً وإثنياً، واعتماد "ثفافة" الخندَقَة والتمترس، والنزوع الأُيقوني الديني لمواجهة الآخروكراهيته والصدام معه. أصبحت حتى تغذيةُ الأطفال والصبيةِ بسموم هذه الكراهية واجباً دينياً، يُمارسُهُ البعض للأسف. هذا كُلُّهُ سيمضي بالعراق وأهله إلى الهاوية، حيث يضيع الدين، وتضيعُ السياسة التي يُفتَرض فيها، ويُنتَظَرُ منها أن تؤدِّي دورها في بناء البلد والحياة والثقافة والعلوم فيه.
إشكاليةُ الهويات الفرعية في العراق، الطائفية منها خاصة، تكمن، أساساً، في عسكرتها وانغلاقِها على نفسها، بحيث أصبحت أشبهَ بزنازينَ للمنتمين لها ولعقولهم. وهنا يغدو التعددُ الهُويّاتي الطائفي أزمةً بنيوية على جميع الصُعُد: وطنياً، إجتماعياً، ثقافياً وسياسياً، وعلى مستوى الأفراد والجماعات أيضاً. وهي أزمةٌ يغيبُ فيها التواصل والتفاعلُ، وتلاقُحُ الأفكار الحيّ والمُنتج، بين أبناء وأطياف المجتمع الواحد. غيابُ تفاعل الأفكار وجدلُها العقلاني الحَيّ هذا يُمَثِّلُ فقداناً موجعاً لمصدرٍ فكري يُمكن له أن يُسهِمَ في إغناء ثقافات البلد وتطويرها.
ومنذ عام 2003 أصيبَ العراق ببلاء آخر ، تَمَثَّل بظهورارستقراطياتٍ!" سياسية ومذهبية وقبلية، أوهمَتْ نفسها بأنها أَلَمَّت بمعارفِ الأرض والسماء، وغَدَتْ، وحدها، موطناً للحقائق جميعها، المُطلَق منها والنسبي، ولها ببركات "علمِها وعلومِها!" أن تُؤشِّرَ للعراقيات والعرقيين مَسالِكَ الصواب والخطأ. وأنها، وحدها، طوقُ نجاةِ الدين والمذهب وأتباعه، ومعها وبها فقط، يتحقق ازدهارُ العراق وتقدُّمُه في حقول الحياة جميعيها. هل يُمكنُ لتذكيرِ هذه " الأرستقراطيات الجديدة!"، ببلاغة قولٍ للإمام علي بن أبي طالب، أن يوقظهم من غفلتهم ووهمهم هذا؟ في الصفحةِ 676 من (نهج البلاغة) يَرِدُ قولٌ للإمام يُشيرُ فيه إلى أنَّ "من نَصَبَ نفسَهُ للناس إماماً فليبدَأ بتعليم نفسِهِ قبل تعليمِ غيرِهِ. وليَكُنْ تأديبُهُ بسيرَتِهِ قبلَ تأديبِهِ بلسانِهِ. ومُؤَدِّبُ نفسِهِ أحَقُّ بالإجلالِ من منْ مُعَلِّمِ الناسِ ومُؤَدِّبِهِم "(11). معضلةُ هذا العقل (هل هو عقلٌ حَقاً!) تكمن في عَماهُ، وعشقِهِ للنومِ في أسِرَّةِ السلطة، والغَرَقِ في فتنةِ مفاسدِها، وفقدانه لثقافةِ الآعتراف والمراجعة، ونقدِ الذات، مع أنَّ منطِقَ النقد الواعي، الجذري، والحيَ هو مدخلٌ للحرية، وممارسةٌ عقلية لها. ومنطِقُ هذا النقد هو الحركة وبدءُ التغيير، وآمتلاك القدرة والمعرفة على تقديم أجوبةٍ عمليةِ جديدة على ما يُكابدُهُ البلدُ وأهلهُ من أزماتٍ تَتْرى، وما يُواجهه من تَحَدِّيات وتساؤُلاتٍ مصيرية في هذا الزمان. منطق النقد الجذري هذا يُمَثِّلُ النقيضَ لِمَنطقِ آلاعتقاد والثبات المُؤَدلَج الساكن الذي يؤمن به هؤلاء. هل يُمكنهم، إذَنْ، أن يستقيظوا أخلاقياً، أليسَ الدينُ الأخلاق، في المقام الأول؟!، ويبدأوا التفكيرَ نَقدِياً بالشرور التي جاؤوا بها للبلاد وأهلها؟. وهل في مقدور مَنْ يتوهم، ويشتغلُ على إيهام الناس، أنه حاملَ مشروعِ إنقاذٍ سياسي قُدسي لهم، مراجعَةُ نفسه وأفعاله؟ حاملُ المشروع القدسي، لا يُؤمن أنه أخطأ، حتى وإنْ كان مشروعُهُ القدسي دنيوِياً تماماً، لا صِلَةَ حقيقيةً له بالسماء. وحامل المشروع يعتقِدُ أنه لا يُخطئ. وهكذا فهو يرى أنه معصومٌ من الأخطاء، ومن يعيش، في هذا الوهم، يعجزُ أنْ يرى شـرورَه وأخطاءه. ولكن ما دامت أخطاؤه هذه تطالُ الناسَ والأوطان ومصائرها وحياةَ أجيالها، تُصبِحُ، عندها، خطايا وجرائمَ ينبغي أنْ يُحاسَبَ عليها في قوانين الأرض وشرائع السماء، خاصة وأنه انتدَبَ نفسه للحديث باسمها. مشكلةُ أرستقراطيي الجهل والتجهيل والفشل هؤلاء، أنهم عجزوا حتى عن أنْ يفقهوا بأنَّ التشدُّدَ، بمختلف صُوَره وتجلياته: دينياً، طائفيا أو قومياً، ما هو إلاَّ وَرَمٌ شيطانيٌّ خبيث، لن يودي بالمجتمعات التي تَمكَّنَ من فرض سطوته عليها لغير الهلاك. وها هو العراق وأهلُه يعيشون معهم، طوال ما يزيد على عشرين عاما، في الماضي وولاءات الماضي، يُصغونَ لأصوات الموتى فيه، أكثر مما ينشغلون بأصوات الحاضر وحاجاته وتحدياته. إذنْ، وبفضل ثقافة الإتِباع والتقليد ليس وراءنا. هو، في الحقيقة، معنا وفينا، وهو يقف معنا بآنتظار المستقبل الذي لن يكون، إذا ما ظلَّتِ آلأحوال على حالِها، سوى ماضٍ أو آمتدادٍ لماضٍ مثلِهِ خسارةُ الحاضر، وهو يواصل رحلةَ ضياعه مِنّا، تعني فقدان المستقبل كذلك. صناعةُ المستقبل، في المجتمعات الحية، تبدأ في الحاضر. وخسارة الحاضر والمستقبل تعني فقدان التقدم، أي خسارة الحياة. وهذا يحدث في عصرٍ تتقدمُ فيه المجتعات الحية بسرعة غير معقولة. وعندها لا يظل لمجتمعٍ مثل مجتمعنا سوى البقاء نائماً على هامش التاريخ.
والآن، هل ينبغي علينا إغفال الحقائق التي تقولُ أنَّ الناس هم من يصنعون الفرقَ في مثل هذه الأحوال؟ ولذا فإنَّ من الأهمية بمكان، أنْ يُمارسَ الجميعُ: مثقفون، أساتذةُ جامعاتٍ، أكاديماتٌ وأكاديميون مسؤولون عن إنتاجِ التفكير العقلاني، والتأمُّلِ النقدي، وكذلك الساسة من مختلف الأطياف والألوان، وممثلموا المجتمع المدني، إثارةَ التساؤلت النقدية عن أحوال البلد وما آنتهت إليه. مُمارسة التفكير العقلاني النقدي في الفضاء العام قد تُقَدِّم للناس، عبرَ الجدل والنقاش والحوار الهادئ، وحتى التناقض البَنّاء، شيئاً جديداً يدعوهم للتساؤل: بمن نَثِقُ؟ ولمن نصغي لمعرفة الحقيقة؟. في المناقشات آلاجتماعية المفتوحةِ الكُبرى، غالباً ما تتحَقَّقُ مقاصِدُ المشاركين، بالاعتماد على شجاعة التفكير النقدي الحُر، وسلطته المعرفية وأخلاقياته. وينبغي أن يكون القصدُ الأساس، من مثلِ هذه النقاشات والحورات المفتوحة، ليس كَسْبُ أتباعٍ جُدُد، وإنما تعميقُ الفهمِ والوعي، والإسهام بصناعةِ رأيٍ عامٍ مُستقِلٍ وحُرّ.
الهوامش
1 ـ القاموس الفلسفي، جيورج كلاوس ومانفريد بور، المعهد الببليوغرافي، لايبزج، 1979، ص 593.
2 ـ هيراقليطس، كتاب قراءات الفلاسفة، الجزء الأول، مجموعة مؤلفين، دار نشر ديتس، برلين 1988، ص 116.
3 ـ كانط، عمانوئيل، كتاب قراءات الفلاسفة، الجزء الثاني، مجموعة مؤلفين، دار نشر ديتس، برلين 1988، ص 246
4 ـ ماكس فيبر، العقلانية وعالم يصحو، دار نشر ريكلام، لايبزيج، 1989، ص 3.
5 ـ المصدر نفسه، ص 51.
6ـ دينا خوري، "بين الإمبراطوريات والأمة: ذكريات الحرب الكبرى والهوية الوطنية العراقية"، أسطور، العدد 21، تموز/
يوليو 2024، ص 1.
7 ـ سروش، عبد الكريم، السياسة والتديُّن، دقائق نظرية ومآزق عملية، مؤسسة الانتشار العربي 2009، ص80
8ـ الجاحظ: رسائل الجاحظ، تقيق عبد السلام هارون 1991، ج3 ، ص151
9 ـ إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي، دار الساقي، بيروت 2017، ص 347
10ـ نهج البلاغة، دار البلاغة، بيروت، ص469. 1989، ص469
11 ـ نهج البلاغة، دار البلاغة، بيروت، ص 676