لا أخفي انحيازي، إذا خُيرت، الى نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي قام على حافة المواجهة والردع الاستراتيجي المتبادل، فيما أصطلح عليه بفترة الحرب الباردة. الحرب التي أجاد توازناتها زعماء، ربما كانوا أكثر حكمةً وتعقّلاً من زعماء اليوم الذين يقودون العالم الى الفوضى والمجهول وشريعة الغاب، وصراع الهويات والطوائف والأديان.
تحققت خلال تلك الحقبة أعظم منجزات القرن العشرين بعد حربين مدمرتين، ليس سياسياً فحسب بل اقتصادياً أيضاً إذ تحققت مستويات غير مسبوقة من الرفاهية في الكثير من المناطق والدول. كذلك أنشأت خلال الفترة إياها منظومة الحوكمة الدولية على أسس عادلة نسبياً، كان اللاعبون الكبار يحترمونها الى حدود معقولة، لكونها محروسة بتوازنات قوى مدمّرة.
كان الاستقطاب السياسي والعسكري والاقتصادي على المسرح الدولي ثنائياً واضحاً. فعلى المستوى الجغرافي برز تحالف الغرب بأكبر قواه من الدول التي استعمرت أجزاءً شاسعة من العالم في القارات المختلفة، وتسببت بحروب وكوارث جمّة للإنسانية، ضد تحالف الشرق، الذي بشّر العالم، المُستَعمر منه على وجه الخصوص، بالثورة وبإنجاز الاستقلال الوطني، وتحقيق عالمٍ أكثر عدلاً تسود فيه المساواة والحقوق ومضامين أيديولوجية أخرى، لا يمكن التقليل من جاذبيتها لفئات عديدة من المجتمعات النامية.
أما سياسياً فقد كان عصراً للانقسامات الأيديولوجية اختصرتْ فيه نسبياً الطبيعة المتناقضة للتطور البشري والمخاطر والمنزلقات التي افرزتها الصراعات عبر التاريخ لصالح تفسيرات ثنائية أكثر تبسيطاً، كالخير والشر، أو الاشتراكية والرأسمالية والغرب والشرق (الذي تحول الى ثنائية شمال-جنوب الأكثر تمثيلاً للقطبية الأحادية السائدة منذ أكثر من ثلاثة عقود) وما شابه ذلك.
تحول السباق الإيديولوجي القائم على الوعود بأنواع من اليوتوبيا، الى سباق تسلح خطير على الأرض، وتمدد ليشمل عسكرة الفضاء أيضاً. وتركزت فيه "الابتكارات" النظرية على محاولات تفسير الأحداث واستيعاب حراك المجتمعات المستمر في ضوء انحسار عصر الاستعمار المباشر، وبروز حركات التحرر التي أنجزت استقلال الشعوب والأوطان من قبيل التطور "اللا رأسمالي نحو الاشتراكية"، وشبيهاتها من التنظيرات التي شغلت مساحات النقاش العام، على الأقل في أوساط يسار العالم الثالث، ومن الجانب الآخر وعود الحريات وانفلات "الليبرالية الجديدة" على الطريقة الريغانية أو التاتشرية!
مع ذلك فقد فتح الاستقطاب الثنائي آفاقاً أو خيارات للدول الأخرى غير المنتظمة بأحلاف بأن لا تنضمّ لأي من الطرفين، فنشأت حركة عالمية كبرى مثّلت مصالح الغالبية العظمى من الدول المستقلة أطلق عليها "حركة عدم الانحياز". وواقعاً فقد كانت أهداف حركة عدم الانحياز وتوجهات قادتها أقرب ببعدها السياسي، ونسبياً الاقتصادي، إلى حلف وارشو منه الى الناتو.
في حمّى الصراع والاستقطاب أنشأت وكالات وهيئات أممية عملت على إقامة المساواة بين الأمم، وحوصرت أثناء ذلك النزعات الفاشية والعنصرية، وسُنّتْ على المستويات الدولية والوطنية مبادئ وقوانين تحرّم العنصرية والتمييز والكراهية الدينية، وهذه كلها كما نرى اليوم منتهكة علناً.
جرى كذلك تجريم الحركة الصهيونية العالمية من قبل الجمعيةّ العامة للأمم المتحدة بقرارها المرقم 3379 في العام 1975، الذي اعتبرها "شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" وطالب العالم بمقاومتها حفاظاً على السلم والأمن العالميين. وكم تبدو المفارقة غريبةً اليوم في عالم الأحادية القطبية، فيعلن بعض قادة العالم انتسابهم لتلك الحركة الاستعمارية الاستيطانية، ومنهم الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن او رئيس وزراء كندا المقال جستن ترودو.
بعد تغيّر ميزان القوى إثر هزيمة حلف وارشو وتفكك الاتحاد السوفيتي، نجح الغرب بإلغاء قرار الجمعية العامة بخصوص الصهيونية وذلك في ديسمبر 1991، أي بعد مرور 16 عاماً على إصداره. وهاهم الصهاينة يرتكبون الفظاعات أمام شاشات التلفزة، دون أن يتمكن العالم من ايقافهم. بل إن سفيرهم لدى الأمم المتحدة مزّق من على منبر الجمعية العامة ميثاقها، فيما اعتبرت حكومته الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "شخصاً غير مرغوب فيه" وممنوع من دخول "أراضيها"، ويشهد العالم أكبر حملة تضليل وكتم حريات التعبير تحت طائلة "معاداة السامية" المفبركة ضد منتقدي الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. إن هذه الأفعال الشنيعة لم تكن لتجري في ظل توازنات الحرب الباردة بهذه الصورة الفاقعة!
أما الإعلام السائد في مرحلة القطبية الأحادية ونوافذه الكبرى فلا ينفك من تسويق أن الضحية هي إسرائيل، حتى ليبدو من السردية الكاذبة بأن الفلسطينيين هم المستعمرون الذين أخذو الأرض التي منحها الله لإسرائيل قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة. لاحظ مثلاً مواقف أشهر مقدمي محطة سي أن أن، كريس كومو، الذي نشر ما معناه بأن التاريخ شهد صعود الامبراطوريات الرومانية واليونانية والإسلامية وغيرها، وحان الآن زمن الإمبراطورية الإسرائيلية فلتفعل ما تشاء على غرار الامبراطوريات التاريخية (طردت محطة سي أن أن هذا المقدم بسبب فساد موقفه من أخيه حاكم نيويورك حينها أندرو كومو المتهم بالتحرش الجنسي). أما زميله بيل ماهر، والعشرات الآخرين، فيكفي البحث في غوغول عن مواقفهم لتظهر أدوارهم المشينة في تحريف الحقائق والتاريخ. والأكثر "ادهاشاً" هو نكران بيل كلينتون لوجود فلسطين معتبراً إياها "يهودا والسامرة" حسب السردية الصهيونية!
بعد انهيار المنظومة الاشتراكية استبشر صموئيل هنتنغتون بنهاية الصراعات الطبقية والإيديولوجية متوقعاً بدء عصر "صراع الحضارات" وأولها كما توقع صراع الغرب مع الإسلام. أما زميله فوكوياما الذي حكم بـ "نهاية التاريخ" إثر سقوط جدار برلين وبانتصار الليبرالية الغربية المطلق على خصومها، ولم يبق للبشرية الا مواصلة السير نحو النعيم!
نعم لقد استخدمت المنجزات العلمية الهائلة أثناء الحرب الباردة في تحقيق التفوق العسكري، وليس "جمهوريات فاضلة" للرفاهية والسلم والتفوق الإنساني. وعلى مستوى العلاقات الدولية تحقق "استقرار عدائي" وتوازن للرعب بسبب القدرات التدميرية للأقطاب الرئيسية.
لكن الإيديولوجيا لوحدها لم تعد ملهمة بعد مرور نصف قرن على صعودها، وهي لا تطعم الفقراء، ولا تحقق الرفاهية للشعوب، وارتبطت تطبيقاتها القائمة بقمع الحريات السياسية. ولم يعد "اقتصاد الشحّة" في المعسكر الاشتراكي الذي اكتفى بتوفير خدمات أساسية، كافياً لخوض المنافسة الاقتصادية الشرسة مع الغرب، المرتكن على الثروات المنهوبة من قارات أخرى أثناء استعمارها. هذا فضلاً عن آليات السوق التي سمحت بتراكم الثروات الرأسمالية الباذخة. ففي فرنسا -مثلاً- يزيد احتياطي الذهب لدى البنك المركزي الفرنسي على 3000 طن دون ان يكون في فرنسا منجم ذهب واحد، في حين أن مستعمراتها في أفريقيا كانت، ومازالت، من أكبر منتجي الذهب في العالم بدون أي احتياطي يذكر لدى بنوكها المركزية.
ان "مسيرة" ترامب في حكم أمريكا والعالم ستنهي كما يبدو الأحادية القطبية، ومن غير الواضح ان كنا سنشهد قريباً عالماً متعدد الأقطاب وحرباً باردة بنسخة ثانية. وإن صح ذلك فعلى الطريقة "الترامبية" سيكون ميدان الحرب هو التوازن الاستراتيجي في الاقتصاد وهذا أفضل من التسليح طبعا.